بعد عامين على اتفاقات “إبراهيم” يبدو السؤال المطروح هو: “مَن ربح ومَن خسر في منطقة الشرق الأوسط من موجة التطبيع بين إسرائيل وكل من الإمارات والبحرين والمغرب والسودان؟”. وهو ما يحاول هذا الملف الصادر عن موقع ” مصر 360″ الإجابة عنه. فإسرائيل اخترقت دولا جديدة في الإقليم دون أي التزامات تجاه القضية الفلسطينية. أما دول التطبيع العربية فنشطت علاقاتها مع إسرائيل أمنيا وعسكريا وتكنولوجيا وتجاريا مدعومة من الولايات المتحدة. في الوقت ذاته فإن موجة التطبيع الجديدة قد تخصم من أدوار قوى إقليمية كمصر وتركيا.
في عام 2016 انتقلت السيادة على جزيرتي تيران وصنافير من مصر إلى السعودية. بعدها بستة أعوام تقريبا -بحسب لؤي هشام- تبيّن أن الجزيرتين مدخل لبناء علاقات سعودية-إسرائيلية رسمية ضمن سياسة “خطوة خطوة” المُتبعة في الإقليم للوصول إلى الأهداف التي كانت “غير معلنة”.
الإمارات.. أول التطبيع الخليجي
ثم جمعت مكالمة هاتفية تاريخية بين رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك -بنيامين نتنياهو- عام 2020 في 133 أغسطس/آب
والرئيس الأمريكي دونالد ترامب وولي العهد الإماراتي وقتها -محمد بن زايد. والتي مهدت الطريق للتوقيع الرسمي على “اتفاقات إبراهيم” بعدها بشهر تقريبا. كان ذلك بمثابة إعلان لسياسة جديدة سُنت سُننها تقضي بنهج “القفزات” لتحقيق أهداف “معلنة”.
للاطلاع على الملف كاملا:
اتفاقات اقتصادية كثيرة بين إسرائيل والإماراتولكن “الاختراق” الأكثر تحققا لم يكن على صعيد التفاهمات السياسية والأمنية. بل على الصعيد الاقتصادي حيث تنامت العلاقات التجارية بشكل واضح ومتسارع. وتوسع التعاون في مشاريع الطاقة المتجددة وغير المتجددة وتحلية المياه والسياحة. وأنشئت روابط استثمارية متعددة الأطراف وفي مجالات متنوعة.
وتسعى دول الخليج -مثل الإمارات- إلى المشاركة الاقتصادية مع إسرائيل. فضلا عن الجهات الفاعلة الإقليمية الأخرى مثل إيران وتركيا حاليا “بهدف إبقاء التوترات الإقليمية منخفضة وتعزيز رؤية تكامل اقتصادي إقليمي أكبر”. وفق ما تذهب إليه آنا جيكوبز -المحللة المعنية بشؤون الخليج في “مجموعة الأزمات الدولية”. والتي تضيف لـ”مصر 360″: “يبدو أن هذه استراتيجية طويلة المدى تهدف إلى تنمية ترابط واستقرار اقتصادي إقليمي أكبر للمساعدة في التخفيف من حدة الصراع”.
وتشير الباحثة -التي تركز أبحاثها على السياسات الخارجية لدول الخليج- إلى وجود كثير من نقاط الاختلاف السياسية بين تلك الدول وإسرائيل. في إطار السعي الجاد لتجمع أمني إقليمي. من بينها الشكل المتصوّر للدولة الفلسطينية وكذلك حول الأمن الإقليمي وكيفية إدارة التوترات مع إيران. وقد أكد المسؤولون السعوديون والإماراتيون أنهم لا يشاركون في أي مناقشات حول التحالف الأمني بين الخليج وإسرائيل.
ويحذر خبراء من أن تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية دون معالجة الاحتلال المستمر للأراضي الفلسطينية سيزيد التوترات الإقليمية. إذ قالت تريتا بارسي -نائبة الرئيس التنفيذي لمعهد “كوينسي”- عن التطبيع السعودي-الإسرائيلي: “سيؤدي ذلك إلى تكثيف الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين. وهذا يعطي إسرائيل الضوء الأخضر للاحتفاظ بالأراضي المحتلة والاستمرار في التوسع في الأراضي الفلسطينية. سيؤدي ذلك إلى تفاقم المشكلة”.
مكاسب إسرائيل واتفاقات إبراهيم
في ورقة حديثة صادرة عن معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي INSS يوضح كل من مئير بن شبات –رئيس مجلس الأمن القومي السابق ورئيس وفود إسرائيل لتوقيع اتفاقيات إبراهيم. وديفيد آرونسون -كبير مستشاري وزير التعاون الإقليمي الإسرائيلي السابق أن اتفاقيات إبراهيم بعد عامين من توقيعها صارت تضم علاقات اقتصادية واسعة واجتماعات سياسية رفيعة المستوى وتطوير العلاقات السياحية بين الدولة العبرية والموقعين أمامها.
وخلال زيارته إلى إسرائيل والمملكة العربية السعودية ظهر جليا دعم الرئيس الأمريكي جو بايدن -سياسيا وعسكريا- لتطوير شراكة أمنية إقليمية بين إسرائيل والدول العربية. فيما أجبر الصراع الروسي-الأوكراني إدارة بايدن على تغيير نهجها تجاه الشرق الأوسط وقادته من التجاهل إلى العودة. ومع اقتراب موعد انتخابات التجديد النصفي للكونجرس فإن إدارته لديها واجب سياسي لخفض أسعار الغاز والتضخم. وقد قلب هذا الالتزام الحرج التعنت الذي صدّره بايدن لولي عهد أكبر منتج للنفط في العالم. وأعطت الحرب الأوروبية نفوذا أكبر للمملكة العربية السعودية على الولايات المتحدة. ويبدو أن بايدن خلال لقائه العاهل السعودي في الرياض قد أعطى ما يرضي الملك وولي عهده الشاب. فقد خرج الرئيس الأمريكي في المؤتمر الصحفي ليُعلن أن المملكة تفتح أجواءها لكل الطائرات المدنية بلا استثناء. ما يعني -بالطبع- إنهاء حظر الطيران الإسرائيلي في المجال الجوي السعودي. فيما تأتي هذه الخطوة ضمن الحذر السعودي في خوض علاقة مع الدولة العبرية بشكل علني. عكس تسارع الإمارات والبحرين والمغرب لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل في أعقاب اتفاقيات إبراهيم.
وبالتوازي مع تعميق هذه العلاقات الثنائية ركزت إسرائيل على تحويل اتفاقات إبراهيم إلى إطار متعدد الأطراف.
دفء العلاقات التركية الإسرائيلية
على المستوى التركي فكثيرة هي الأسباب التي تدفع إلى التقارب بين البلدين. وفي القلب منها تتراءى اتفاقات التطبيع الإبراهيمية. التي سنّت الإمارات شرائعها وسرّعت خطواتها. مُحفزة ّ الآخرين على جني الفوائد المتصورة. وأولها طرق باب البيت الأبيض. اتفاقات أعادت صياغة التحالفات والهندسات الأمنية في المنطقة. فبات الكل يقف في طابور طويل لخطب ود تل أبيب. مدفوعًا بالخوف من أن تفوته الفرصة فيصبح وحيدًا بمعزل عن المكاسب. أما الدول التي طالما ارتبطت بعلاقات دبلوماسية وأمنية طويلة الأمد كانت تجري عادة في الخفاء صارت تحرص على أن تصبح أكثر علنية ودفئًا.
ما بين عامي 2009 و2022 جرت تحولات سياسية داخلية وخارجية في منطقة الشرق الأوسط. وهي تغيرات قضت بانتقال أنقرة من الحلف المُعادي أيدولوجيًا لدولة الاحتلال إلى الحلف المهادن براجماتيًا. وفي صُلب هذا التحول عقبات اقتصادية تركية داخلية يحاول الرئيس التركي أردوغان تجاوزها. وأخرى إقليمية يسعى فيها لكسر عزلته الدبلوماسية والحفاظ على مصالحه الطاقوية.
وبعد تطبيع العلاقات مع الإمارات والبحرين والمغرب والسودان لم تعد إسرائيل تعتمد على وجودها الدبلوماسي في تركيا كرأس جسر في العالم الإسلامي. بحسب ما يشير معهد السياسة الخارجية. ولهذا يعتقد مسؤولان إسرائيليان أن محاولات أردوغان لتحسين العلاقات هي أيضًا نتيجة لاتفاقات إبراهيم. التي أعادت تشكيل التحالفات في الشرق الأوسط وعززت مكانة إسرائيل الإقليمية -وفقا لما نقل موقع “أكسيوس” عنهما.
توازن تركيا مع إيران
وفي محاولة التقارب الخليجي مع تركيا هذه المرة كثقل موازن لإيران من المشكوك فيه أن تشارك أنقرة هذا المنظور الاستراتيجي. ورغم التوترات الدورية مع طهران فإن السياسة التركية تجاه إيران مختلفة. لذلك من المفترض أن يشكل هذا الانقسام مصدر خلاف بين الجانبين في المستقبل. بالإضافة إلى ذلك فمرجح أن تتحقق التوقعات في الخليج بحدوث تغيير استراتيجي في نهج تركيا الإقليمي. فلا يزال الوجود العسكري التركي في الخليج وتدخله في ليبيا والبحر الأحمر يشكل تهديدًا. وفي الواقع فإن الانفراج بين أنقرة وأبوظبي مدفوع جزئيًا بالتوازن الدقيق الذي نشأ في أعقاب المناقشات بين القوى المتنافسة في ليبيا. والتي تمكن الأطراف الخارجية مؤقتًا من تعديل سياستها.
أما قطر فلا تنظر بإيجابية إلى التقارب الواضح بين تركيا والإمارات والسعودية ومصر. حيث لا تزال الخلافات قائمة بينها وبين جيرانها. ولا يزال التنافس الإقليمي على النفوذ قائمًا. ويبدو أن قطر قلقة من فقدان دورها الفريد لتركيا في الخليج -حيث تستضيف الإمارة قاعدة عسكرية تركية- أمام جيرانها.
القضية الفلسطينية إلى زوال
وسط موجات التطبيع العربي الإسرائيلي تلك تراجعت القضية الفلسطينية لدى الرأي العام في عدد كبير من الدول العربية وفي مقدمتها مصر. ووجدت عديد من الدول العربية أن تمسكها بالموقف المشترك الذي يربط التطبيع مع إسرائيل بتسوية القضية الفلسطينية بات ضارا بمصالحها الوطنية. والتي تقدمت على ما عداها من مصالح واعتبارات أو ارتباطات. وتطور الموقف في عهد الرئيس الجمهوري دونالد ترامب. الذي وقع إقرارًا بضم القدس الشرقية إلى إسرائيل وكذا الجولان السوري المحتل ثم نقل السفارة الامريكية إلى القدس الشرقية.
اتفاقات إبراهيم.. وتجميد الدور المصري
لقد ضبطت مصر آلية التطبيع مع إسرائيل حتى تفرض دورها في التسوية السياسية وتحافظ على مكانتها لدى واشنطن. لكن ما حدث بالفعل هو “تجميد التطبيع مع إسرائيل”.
وجاءت خطوات التطبيع بين دول عربية وإسرائيل ليجعل الموقف المصري منكشفًا. فقد قطعت بعض الدول العربية في علاقاتها مع إسرائيل -خلال أسابيع- ما لم تحققه مصر في أربعة عقود. فقد اندفعت دول عربية في تطبيع شامل مع إسرائيل في المجالات كافة.
ورأت إسرائيل في ذلك نجاحًا منقطع النظير في “إحراق الورقة المصرية”. التي كانت تقدم القاهرة باعتبارها الطرف الوحيد القادر على لعب دور وساطة أو رعاية إقليمية للتسوية السياسية. والمروّج لمقولة أن التسوية السياسية للقضية الفلسطينية ستكون المدخل الوحيد للتطبيع العربي مع إسرائيل. فالتطبيع يسير بخطى سريعة والتعاون يقتحم مجالات متنوعة ومتعددة ولم يعد لمصر ثقل أو وزن في هذا المجال.