كان إبداع الرجل في صنع الموسيقى رغم صَمَمِه أمرًا استعصى عليَّ فهمه بما يقبله عقلي المحدود، فكيف يتسنى لبَشَريٍ أن يصنع مُنتًجًا سَمعيًا لا يستطيع -هو نفسه- سماعه مهما أوتىَ من موهبة استثنائية في زمنٍ انقطعت فيه المعجزات الخارقات، وأخص للتدليل على ذلك بالتحديد سيمفونيته التاسعة المعروفة بالسيمفونية الكورالية المُنتهية بلحنٍ لنشيد الفرح الذي كتبه الشاعر الألماني فريدريش شيللر والذي صار لاحقًا النشيد الرسمي للاتحاد الأوروبي.
وقد أتَمَ صاحبنا تلك السيمفونية قبل وفاته بثلاثة أعوام كان يعاني فيها صَممًا تامًا لدرجة أنه كان يتواصل مع العالم من خلال الكتابة فقط في أجندةٍ يسجل ما يريد قوله ويستقبل ردود الآخرين على صفحاتها. استمر ذلك الأمر عَصيًا على الفهم إلى أن قرأت تفسيرًا لاقى لدىَّ قبولًا موضوعيًا -على نحوٍ ما- بكتابٍ للكاتب الأمريكي الراحل “إدموند موريس” الحاصل على جائزة بوليتزر عن فئة السير الذاتية في العام 1980 بعنوان “المؤلف الموسيقي العالمي” (The Universal Composer) الصادر في العام 2010 عن حياة “لودفيج فان بيتهوفن” الذي تحل بعد أيام ذكرى ميلاده الثانية والخمسين بعد المائتين. كان التفسير منقولًا عما رواه السير “جون راسل” في وصف حالة صاحبنا حين التقاه في فيينا في العام 1821 وكان الصمم قد تمكن منه: “إنه لا يُصدر غالبًا أي نغمات عندما يعزف على البيانو، إنما يسمع تلك النغمات “بأذن العقل” (Mind’s Ear). يتحول البيانو بين يديه إلى مجرد آلة خرساء بقدر صمم الموسيقار ذاته حيث تُظهِر عينه وحركة أصابعه التي يصعب ملاحظتها أنه يتابع تدرج أوتار البيانو المتصاعدة بداخل روحه”.
وأنا في هذا المقال لن أتصدى بأي نوع من الشرح أو التحليل الفني لأي من الأعمال الموسيقية الخالدة للرجل احتفالًا بذكرى ميلاده فقد قام كثير من الدارسين -ولستُ منهم- والمُحبين -وأنا بالقطع منهم- بهذه المهمة من قَبل، لكني سأكتفي بأن أسلط الضوء على جانب من حياة الرجل يفسر جزءًا من شخصيته التى تتبدى ظلالها في العديد من مؤلفاته، وذلك من خلال استعراض بعض مما ورد بكتاب “إدموند موريس” الشهير.
لم يكن “لودفيج” يحب “يوهانا” زوجة أخيه الأصغر “كاسبار” وكان دائم الاتهام لها بسوء السلوك وقد أنجبت من “كاسبار” طفلهما “كارل” بعد أربعة شهور فقط من الزواج. حين ساءت الحالة الصحية “لكاسبار” وتضائلت احتمالات شفائه من داء السل، كتب “كاسبار” وصيته بحيث يشترك “لودفيج” و”يوهانا” معًا في حضانة الصغير “كارل”، فما كان من “لودفيج” إلا وقد أقنع أخيه بحذف الكلمات الدالة على “المشاركة” بالحضانة لتقتصر عليه وحده. وعندما علمت “يوهانا” بهذا الأمر، سَعَت لإعادة الوصية لصيغتها الأولى فقام “كاسبار” بصياغة مُلحق للوصية بهذا المفهوم ناصحًا الطرفين بالتعاون والتفاهم، وأسلم الروح في اليوم التالي مباشرةً ليدخل “لودفيج” مع زوجة أخية معركة قانونية دراماتيكية.
كان النظام القضائي في النمسا في ذلك الوقت نظامًا طبقيًا تفصل في إطاره محاكم بعينها في قضايا النبلاء وتفصل محاكم أخرى في قضايا عامة الشعب. نجح “لودفيج” في إدراج قضية حضانة الطفل “كارل” في جدول محاكم النبلاء ولم يكن في حقيقة الأمر مُنتميًا لتلك الطبقة لكنه كان يُعامَل على هذا النحو باعتبارات تواجده بأرقى الأوساط في فيينا ولأن للفظ “فان” في اسمه (لودفيج “فان” بيتهوفن) قدرا من الإيحاء بالنبالة كلفظ “فون” في الألمانية.
حصل “لودفيج” على حكم من محكمة النبلاء بحضانة الطفل “كارل” ثم أُعيد نظر القضية مرة أخرى لكن في محكمةِ العَامة عندما ثبت عدم انتمائه لطبقة النبلاء حيث خسرها الموسيقار العنيد الذي لم يصبه اليأس فقام بالاستئناف ليصدر الحكم لصالحه بالحضانة نهائيًا في القضية التي عُرفت حينها بقضية “بيتهوفن ضد بيتهوفن”.
كان “لودفيج” حريصًا كل الحرص على تنشئة “كارل” بأعلى مستويات الصرامة التي تحولت بسبب هواجسه الدائمة إلى قيود مُكبِلة بعثت في نفس الشاب اليافع دوافعًا للانتحار فما كان منه إلا أن اشترى مسدسيْن وتوجه إلى أطلال قلعة “راونشتاين” على حدود مدينة “بادين” وأطلق النار على رأسه فطاشت إحدى الطلقات وأصابته الأخرى بإصابة ظاهرية في القشرة الخارجية لرأسه وأمكن إنقاذه ليغادر بعد شفائه على الفور للإقامة مع أمه في فيينا. حين زاره “لودفيج” بمنزل أمه بعد محاولة الانتحار، كتب له “كارل” في أجندة التواصل: “لا داعيَ لأن تُعذبني باللوم والشكوى، فكل شيء أصبح الآن من الماضي”، ليدخل “لودفيج” في مرحلة من الاكتئاب أكثر تطورًا.
“إلى أخويَّ الذين يظنان أنني حاقد أو عنيد أو كاره للبشر، كم قسوتما علىَّ، إنكما لا تعرفان السر الذي دفعني كي أبدو على هذا النحو، فقد أُصبتُ خلال الأعوام الست الماضية بداءٍ لا شفاء منه، وقد ازدادت حالتي سوءًا بسبب الأطباء الحمقى الذين أوهموني بآمالٍ لتحسن صحتي حتى انتهى الأمر بي إلى مواجهة احتمال كونه داءً مُزمنًا يحتاج لسنوات للشفاء منه وقد لا أشفى على الإطلاق. وعلى الرغم من أنني وُلدتُ وأنا أملك طبيعة مزاجية نشطة وثائرة وقابلة للتأثر بأنواع البهجة التي يمارسها المجتمع، إلا أنني اضطررت للانسحاب والحياة وحيدًا بعيدًا عن الناس حتى لا أصيح فيهم: “تكلموا بصوت أعلى، اصرخوا، فأنا أصم”. كم أشعر بالبؤس الشديد عندما يسمع أحد بجانبي صوت فلوت يأتي من الأفق البعيد أو غناء أحد الرعاة ولا أستطيع أنا أن أسمع شيئًا، تدفعني تلك الأمور إلى حالة من اليأس كدت أن أنهي حياتي بسببها لولا الفن الذي حال دون ذلك. كان من المستحيل عليَّ أن أغادر هذا العالم دون أن أبوح بما يعتمل في صدري”، هكذا نقل لنا “إدموند موريس” خطاب “بيتهوفن” إلى أخويه والذي كتب في مقدمته عبارة “يُقرأ و يُنَفذ بعد وفاتي”.
يروي “إدموند موريس” بنهاية كتابه ما شهده واحد من أصدقاء “بيتهوفن” هو “أنسليم هوتينبرنر” الذي عاين لحظاته الأخيرة: “في تمام الخامسة من مساء ذلك اليوم الذي يوافق بالضبط تاريخ ظهور بيتهوفن كطفل عبقري لأول مرة، أنه وبينما كان بيتهوفن غائبًا عن الوعي مُمَدَدًا على فراشه حيث العاصفة الثلجية تضرب الكون بشدة خارج المنزل، ظهر ضوء البرق فجأة عبر النافذة ثم تبعه دَوىُ رعدٍ عنيف. يقسم هوتينبرنر الذي أذهلته الصدمة، أنه رأى بيتهوفن يرفع ذراعه اليمنى ثم يقبض راحة يده بشدة لثوانٍ وهو ينظر صوب النافذة بعينين محدقتين، لتهوى ذراعه بعدها وتفارق الروح الجسد. يبدو أن عناصر الطبيعة قد تمردت على موت هذا العقل العظيم”.