لم تخل الموائد حول العالم من الخبز، فدائما يأخذ مكانه ووضعه المميز منتصف المائدة، باعتباره أحد أهم العناصر الغذائية في الموائد الشرقية حتى صار مرتبطا بالحياة ومؤكدا على قيمة الترابط الاجتماعي. كما هو متداول في بعض عباراتنا المعتادة “فيه بينا عيش وملح” تعبيرا عن العشرة الطيبة والعلاقة الوطيدة. فهو أساس الحياة وهو الربط والتوصيل للحياة الهانئة في العالم الآخر كما يعتقد القدماء المصريون.
تلك العلاقة الوطيدة ترجع إلى سنة 8000 ق.م، حيث بدأ الإنسان في زراعة القمح والتي تعتبر من أولى الزراعات التي قام بها. وعثر باحثون على بقايا متفحمة لخبز في موقد حجري بشمال شرق الأردن. تبين أنه الأقدم في العالم قبل أكثر من 14 ألف عام، وهو ما دفع علماء إلى البحث عن العلاقة بين إنتاج الخبز ونشأة الزراعة.
ولأول مرة تم صناعة الخبز في وسط أسيا كما أكد باحثون، ثم وصل إلى البحر الأبيض المتوسط. عن طريق بلاد ما بين النهرين ومصر بفضل وجود العلاقات التجارية بين أسيا وأوروبا عن طريق سوريا. وتؤكد بعض الأبحاث الأخرى أن الإنسان بدأ طهي الحبوب قبل صناعة رغيف العيش.
اختيار أنواع الحبوب المستخدمة هو ما أدى إلى ظهور العديد من أنواع الخبز المعروفة اليوم. وكانت أقدم الأنواع تُصنع من الشعير.
فالخبز منتج مصنوع من الحبوب بطريقة يدوية قديمة قبل الشروع في صناعته بالآلات. ومن الممكن اعتباره أول تطبيق لصناعة الأغذية من الحبوب في تاريخ البشرية. وعلى مدار تاريخ الحضارات كان الخبز يُصنع من الحبوب المتاحة في أرض كل بلد. ففي أوروبا وأفريقيا كان يستخدم القمح. وفي أمريكا يصنع من الذرة بينما كانت تستخدم آسيا الأرز.
كان نوع الخبز يدل على طبقة بعينها، فهو ما أظهر الفروق بين طبقات المجتمع. حيث كانت الطبقات الأكثر فقرا تستخدم الخبز المصنوع من الشعير ذي الكسرة الداكنة. بينما كانت الطبقات العليا تتغذى على الخبز المصنوع من القمح ذي الكسرة البيضاء.
مراحل التصنيع
بدأت صناعة الخبز في المزج بين تلك الحبوب المبللة وطحنها بشكل خشن بواسطة بعض الأحجار لتصبح كالعصيدة. ثم يتم تعريضها لإحدى مصادر الحرارة قد يكون اللهب أو الشمس لكي تتماسك. فكانت هي طريقة التي يعتقد فيها الباحثون في كيفية إعداد الإنسان للخبز قديما، لتصبح صالحة للأكل.
واليوم من السهل إيجاد عمليات زراعية مطابقة لتلك التي كانت تقوم بها القبائل في أفريقيا. وهذا الخبز الأولي يمكن أن يكون قد نتج عن المزج بين العصيدة والكعكة والذي بقي موجودا على مدار قرون. وكان رغيف العيش قديما يتم إعداده بسهولة لعدم احتوائه على خميرة وكان يطهى على النيران بمكان مفتوح أو على أسطح ساخنة.
في بعض الحالات كان يتم إنبات الحبوب ثم تجفيفها قبل طحنها، ووصلت هذه الطريقة إلى مصر وأصبحت تُستخدم في أولى طرق التخمير.. ووهو ليس فقط عملية تتم لإعطاء حجم للخبز ولكن أيضا لإضافة الطعم المميز للعيش كما هو الحال حاليا.
الخبز عند المصري القديم
وفي بلاد سومر أو في بلاد ما بين النهرين عام 6000 ق.م. بدأ أحد الأشخاص بإعداد الخبز، فكانوا يستخدمون الرماد من أجل تسوية الخبز. وأثناء فترة ما يعرف بجمدة نصر قام السومريون بتعليم المصريين طريقة طهي الخبز. ثم تبنى المصريون هذه المعرفة وأخذوا ينظمون ويحسنون عملية الزراعة إلى أن أصبح عنصرا غذائيا لا يمكن الاستغناء عنه في المجتمع.
العمود الفقري
“الخبز يساوى النيل والاستقرار والزراعة” قالت وهيبة صالح والخبيرة الأثرية. مضيفة أن الخبز هو العمود الفقري للوجبة المصرية حتى يومنا هذا. ولقيمته التاريخية شاع استخدام كلمة “عيش” باللغة العامية في الحياة اليومية وخاصة في وصف الحياة.
وقالت صالح إن المصريين عرفوا الخبز من عصر ما قبل التاريخ. حيث جاءوا إلى وادي النيل من قبل 3200 عاما. بعد وصولهم إلى موقع “النبطة” الذي يبلغ عمره 9 آلاف سنة وتم اكتشاف “الرحايا” بها. وكانت تستخدم في جرش الحبوب.
ويحمل الخبز لدى القدماء المصريين مكانة دينية، وأرجعت صالح هذه المكانة لارتباطه بأسطورة أوزوريس إله الزراعة، والذي مثل حلم أي متوفي بأن يحيا معه في العالم الآخر، مستشهدة بتمثاله الذي وضع بالمتحف المصري وهو يخرج من جسده حبوب القمح.
أخذ الخبز شكلا مقدسا لدى المصريين القدماء بل برعوا فيه، فهناك حوالي 120 اسما للخبز طبقا للنصوص القديمة، حسب الخبيرة الأثرية وهيبة صالح.
ومرت صناعته بـ 10 مراحل بداية من حصاده وتنقيته ودقه حتى خبزه، واختلفت أنواعه من الخبز العادي الدائري والمخروطي الذي كان يستخدم أيضا كقرابين، والخبز الحلو “الفطائر” حاليا، والذي كان يزود بالعسل والعجوة المصنوعة من البلح والفواكه قديما.
الخبز الأبيض للنبلاء
لم يكن الخبز مجرد منتج غذائي ولكنه أصبح دليلا على التمييز الطبقي بين الفئات المجتمعية، منذ عصر الفراعنة، إذ كانت هناك ثلاثة أصناف منه في مصر الفرعونية من دقيق القمح للأغنياء، ومن دقيق الشعير للطبقة المتوسطة، أما الفقراء فكان لهم خبز أسمر مصنوع بدقيق من الحبوب البرية.
وفي الحضارتين اليونانية والرومانية كان الخبز الأبيض خاصا بالطبقات الأرستقراطية والنبيلة. وقد أصدر أحد قياصرة روما قرارا يقضي بسجن كل من يقدم خبزا أسمر اللون إلى نبيل روماني. أما امتلاك الفقراء للخبز الأبيض فكان جريمة قد تؤدي إلى الإعدام.
وخلال القرون الوسطى ظل الخبز موضع انقسام وتقسيم في أوروبا. والطريف أن الاعتقاد ساد آنذاك بأن أمعاء الفلاحين كانت وحدها قادرة على تحمل الخبز الأسمر القاسي. أما أمعاء النبلاء فمرهفة ولا تهضم سوى الخبز الأبيض الخفيف والطري. وعليه لم يسمح باستهلاك الخبز الأبيض إلا للنبلاء.
الخبز يسقط حكومات
في الأربعينيات من القرن الماضي، وفي سوريا، أدى وزن الرغيف إلى إسقاط حكومة الشيخ تاج. بعدما اكتشف أحد المواطنين في حلب أن أصحاب الأفران يقومون بوزن الخبز قبل أن يجف ماؤه تماما. نظرا لاتباع معايير ومواصفات دقيقة تتعلق بالوزن في بيع الخبز. فانتشر الخبر وعم الغضب واعتبرت الحكومة مسؤولة عن ذلك وسقطت.
وفي مصر لم ينس الكثيرون انتفاضة الخبز التي حصلت عام 1977 حين حاولت الحكومة تقليص دعم الخبز وسلع أخرى. فثار المواطنون وخرجوا إلى الشوارع في غضبة حقيقية. ثم بعد 44 عاما من الانتفاضة يتجدد الحديث عن رفع سعر الخبز.