لم يكن بوسع أحد أن يتوقع، وهو واثق من صلابة التوقعات التي يراهن عليها، ما قد يحدث غدا في مصر.
في خريف (2006) بدا لمراسل صحفي مقرب من دائرة رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق “رومانو برودي”، عمل في القاهرة وبيروت لسنوات طويلة، أن يسأل بعض أصدقائه القدامى من المصريين عن تصوراتهم للمستقبل السياسي في مصر جاءته الإجابات مقتضبة وصريحة: فوضي يعقبها تدخل لمؤسسات القوة، وتذهب السلطة إلى أصحابها الجدد.
سأل مندهشا: هل يمكن أن يحدث ذلك فعلًا؟!
بدت مصر أمامه، وهو يطل على نيلها مغلقة على أسرارها، ومصائرها معلقة على مجهول.
كانت الإشارات ماثلة لمن يريد أن يقرأ، فلم يكن هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأننا بصدد إصلاح سياسي ودستوري يستجيب لمتطلبات نقل السلطة بصورة آمنة وسلمية، أو أن بوسع نظام الحكم التغلب على مشاكله الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة، أو إدراك طبيعة الأزمة وحجمها وما يمكن أن تذهب إليه.
في إحدى زياراته الأخيرة للولايات المتحدة كان من ضمن الذين استقبلوا الرئيس “حسني مبارك” شاب مصري والده ضابط كبير سابق تربطهما صلات قديمة.
سأله الرئيس: ماذا تفعل هنا؟
أجابه: “أعمل في الأمم المتحدة، ولكني أتمنى العودة إلى مصر”.
كان تعليق الرئيس صادما: “هي دي بلد حد يعيش فيها!”.
نشرت القصة بحذافيرها في وقته وحينه.
يدرك الذين سمحت لهم الظروف بالاقتراب من “مبارك” أن بعض تعليقاته عفوية، لكن هذه الواقعة بحمولاتها السياسية الثقيلة انطوت على رؤية بالغة السلبية للبلد الذي يحكمه ويعمل على توريثه لنجله!
كان البلد يزحف فوق حقل من الألغام السياسية والاجتماعية، ورئاسته تغض الطرف عن أخطارها، والأمن يتجاهلها بظن أن الملف السياسي هو المصدر الوحيد لتهديد النظام دون تنبه أن التهديد الحقيقي قد يضرب ضربته من خارج المعادلات السياسية كلها، كما حدث فعلا في عواصف “يناير”.
لم تكن مصر بلدا واحدا ومجتمعا واحدا، فهناك مجتمعان، كل منهما في عزلة تامة عن الآخر، مجتمع ثراء فاحش، مصدره غير مشروع في الأغلب، له مدارسه وجامعاته ومنتجعاته وثقافته الخاصة وارتباطاته بالمصالح الأمريكية والغربية في المنطقة، ومجتمع فقره مدقع ويضربه اليأس من أية احتمالات للترقي الاجتماعي، ولو بالتعليم والتفوق فيه، وبدأت تجرفه انهيارات مستويات المعيشة إلى قاع بلا نهاية.
لم يكن ممكنا أن يتعايش المجتمعان، كل في عوالمه، إلى الأبد.
في لحظة لابد أن يحدث انفجار، وأن تجرف حممه من تصوروا أن بوسعهم أن ينهبوا البلد ويبيعوا ويشتروا فيه دون عقاب، أو حساب.
لم يكن المصريون العاديون يطلبون أكثر من “الستر والصحة”.. غير أن النظام لا يأبه بما يحدث حوله من تدهور كبير في مستويات المعيشة، وارتفاع معدلات التضخم والبطالة إلى مستويات قياسية.
لم يكن أحدا مستعدا أن يصدق أن هناك تحسنا في مؤشرات الاقتصاد العام، ومعدلات النمو، الناس تصدق الأسواق لا أرقام الحكومة، ثم لا تثق في نزاهة الحكم، وهي ترى المقدرات العامة تنهب دون حسيب أو رقيب.
تصاعدت الاحتجاجات الاجتماعية على خلفية تدني الأجور مع زيادة مضطردة في الأسعار وانسحاب الدولة من أدوارها الاجتماعية.
كان أهم وأخطر تلك الاحتجاجات الاعتصام المفتوح لموظفي الضرائب العقارية، أول إضراب للموظفين في التاريخ الحديث!
كانت تلك أزمة نظام وصلت خياراته الاجتماعية والاقتصادية إلى خط النهاية، أو نقطة الانفجار.
تفاقمت أزمة الثقة بين الحكم والشارع إلى حد أن المشير “محمد حسين طنطاوي” احتج في مجلس الوزراء على بيع أحد بنوك الدولة.
استدعى رئيس الوزراء “أحمد نظيف” إلى مكتبه وسأله بصورة استنكارية: “صحيح انتوا بتبيعوا مصر يا أحمد؟!”.
كان السؤال بصياغته وإيماءاته تعبيرا عن أزمة أوسع من شخوصها تضرب الدولة المصرية في صميم أدوارها الاجتماعية.
لخصت قضية الدعم الملغمة أحد أوجه أزمة النظام، الذي وجد نفسه محشورا بين تقارير أمنية تحذر من ثورة جياع، وأن رفع الدعم عن السلع الرئيسية سيكون شرارتها المؤكدة، وبين سياسات حكومية معلنة تدعو لإلغاء “الدعم العيني” والانتقال إلى ما أسمته “الدعم النقدي”.
التقارير الأمنية استندت على خبرة انتفاضة الخبز في يناير (1977) إثر رفع مفاجئ لأسعار السلع الرئيسية، بما استدعى فرض الطوارئ في شوارع القاهرة وحظر التجوال مع نزول القوات المسلحة إليها لضبط الأمن.
على مدى عقود متصلة نجح نظام الحكم في تمرير سياساته الاقتصادية بالمراوغة وتجنب الصدامات المفاجئة، لكنه وجد نفسه قرب ثورة يناير أمام خيار صعب، فالأحوال الاقتصادية تدهورت بصورة خطيرة، وفجوة الكراهية مع نظام الحكم اتسعت، واحتمالات انتفاضة خبز جديدة تخيم على المشهد السياسي.
بدا أن كل شيء قد أُحكم لتمرير “التوريث” بلا إزعاج أو ممانعة، غير أن الحقائق غلبت في النهاية.
بإحساس فنان يستشرف ما هو غامض في الأفق لم يكن المخرج السينمائي “يوسف شاهين” مقتنعا بأننا سوف نصل إلى عام (2011) على الطريقة التي يفكرون بها ويخططون على أساسها.
“ما يمكن يكون الشعب نزل من هنا إلى 2011، ما حدش يعرف، رغم إني ساعات بيجيلي إحباط من الشعب، إزاي ساكت على كل ده، الناس مش لاقيه تأكل حقيقي بجد، زيادة عن كده إيه علشان يتحرك”.. “ليستعد الشباب المصري الحقيقي لمعركة مصير على الفوز بها وتاني أقول ماحدش عارف من هنا لغاية 2011 ممكن يحصل إيه”.
في نبوءة أخرى قال الشاعر “عبدالرحمن الأبنودي” في يناير (2007): “المصريون يعرفون الفولة.. والنظام ستأكله الغولة”!
وفي قصيدة للشاعر “ماجد يوسف” في أكتوبر (2010): “الجو ملبد كله غيوم”.. “الشعب خلاص على وش هجوم”.. وهو ما حدث بعد ثلاثة أشهر.
لم تهب عواصف التغيير مرة واحدة، ولا نشأت فجأة في ميادين الغضب.
على مدى عشر سنوات تتالت التوقعات والنبوءات تحت الأفق المأزوم.
“مصر دخلت منطقة الزلازل السياسية”.
كان ذلك توصيفا مبكرا في (18) نوفمبر (2001) أطلقه المفكر اليساري الدكتور “فوزي منصور”.
بخيال كاتب السيناريو توقع “محفوظ عبدالرحمن” ما قد يحدث غدا: “النمل الأبيض يقرض كرسي السلطان”.
غير أن السلطان لم يكن بوارد الالتفات إلى أن عرشه على وشك أن يهوي بفعل بنية نظامه.
بنظرة إلى المستقبل توقع المفكر الاقتصادي “سمير أمين” في أكتوبر (2003) أن “الإسلام السياسي هو البديل المطروح لكنه لن يخرج مصر من المأزق”.
هذا ما حدث فعلا.
“دخلت مصر مرحلة المخاض المؤذن بميلاد جديد بإرادة الشعب، هذا ما يبدو جليا لك ذي عينين يبصر بهما”.
هكذا لخص الموقف السياسي الحرج الفقيه القانوني الدكتور “هشام صادق” في فبراير (2005).
في أبريل من العام التالي توقع السفير “أمين يسري” أن “مصر على أبواب يوليو جديد”.
“لا سكة السلامة ولا سكة الندامة.. نحن الآن في سكة اللي يروح ما يرجعش”.
كان ذلك توصيفا متشائما للمخرج المسرحي “سعد أردش” في فبراير (2007).
“للصبر حدود وثورة الفقراء تقترب”.
كان ذلك استخلاصا مثيرا من قلب مجتمع الأعمال أطلقه “محمد فريد خميس” في سبتمبر (2007).
“مصر في حالة مخاض والمستقبل مجهول”.
هكذا تحدث الدكتور “محمد كمال” من قلب الدائرة الضيقة حول نجل الرئيس.
“أتوقع اضطرابات اجتماعية”.
وهكذا تحدث اللواء “فؤاد علام” بخبرة المؤسسة الأمنية في مايو (2008)
“مصر مقبلة على ما لم تشهده من قبل”.
كان ذلك توقعا مدويا للأستاذ “محمد حسنين هيكل” في يونيو (2008).
“حضرة النظام المستبد.. التغيير أو الانفجار”.
كان ذلك إنذارا أخيرا في (9) يناير كتبه الدكتور “محمد أبو الغار” قبل انفجار الحوادث بأسبوعين في (25) يناير (2011).