قبل خمس سنوات، خطط مستثمرون لتحويل قطعة أرض شاسعة بمركز إطسا في الفيوم إلى مشروع تعليمي ضخم يخدم المنطقة التي تفتقر لمثل تلك المشروعات، ورغم مرور 6 سنوات، لم ير المشروع النور بسبب تعقيدات إدارية.
تقدم أصحاب المشروع بطلب ترخيص مجمع مدارس بقطعة أرض معروفة باسم أرض “السوداني”، في مشروع يوفر آلاف من فرص العمل وبحجم استثمار ضخم، وجاء الرد بضرورة إجراء “تقسيم” رغم عدم حجبها الغير، فتقدموا بطلب للهيئة العامة للتخطيط العمراني لدراسة الموضوع فنيًا، وجاء الرد بأحقية المستثمرين بإدراج طرق على حدود ملكيتها وإمكانية ترخيص كنشاط تعليمي.
تنازل المستثمرون عن مساحات من الأرض لإدراجها كشوارع فاصلة بالمخطط التفصيلي وفق ما ورد لخطاب الهيئة العامة للتخطيط العمراني ولبوا جميع المتطلبات، وحتى الآن لا يتحرك مسئولو المحافظة في المشروع بسبب تعقيدات بيروقراطية، ولم ينجح أي منهم في عقد لقاء مع مسئولي هيئة الاستثمار أو مجلس الوزراء، رغم سعيهم الحثيث لتلافي الخسائر وتغير دراسة الجدوى مع ارتفاع مواد البناء والدولار وتكاليف العمالة وغيرها.
تعتبر تلك الواقعة واحدة من عشرات تشرح كيف يتم عرقلة الاستثمار في مصر، والتي يتحدث عنها رجال أعمال مشهورون باستمرار مثل الأخوين نجيب وسميح ساويرس، ولم تسفر تغييرات قانون الاستثمار المستمرة في علاجها، لتصبح مرضا مزمنا يمكن توصيف مسبباته في “البيروقراطية العميقة”.
اقرأ أيضًا: من الهند إلى مصر.. إجابة سؤال “الاستثمار في البشر أم الحجر؟”
لكن يوجد قدر من التفاؤل حاليا بين قطاع من المستثمرين بإمكانية أن تسفر قرارات المجلس الأعلى للاستثمار أمس عن حلحلة تلك المشكلات المعقدة شريطة أن يتم تنفيذها من قبل قطاع من الموظفين الصغار الذين لطالما عقدوا الإجراءات على مدار السنوات الماضية.
تتعدد تحديات الاستثمار بمصر، وأهمها مشكلتا “الأرض” والتراخيص” وهما ضاربتان بجذورهما منذ القدم، ما بين عقبات تسجيل وتقنين عقود الأراضي الزراعية، وتملك الأراضي الصحراوية، وتحديات إجراءات التعويض عن نزع الملكية، وطول أحبال إصدار التراخيص والموافقات، وفوق ذلك كله المحليات ودهاليزها.
بحسب البيانات الحكومية بلغ إجمالي الشكاوى المسجلة بخطابات على البوابة الإلكترونية للوحدة الدائمة لحل مشكلات المستثمرين 1830 شكوى، منذ منتصف يونيو 2022 وحتى نهاية إبريل 2023 ما يقترب من 19 شكوى شهريًا.
بحسب اللجنة، تم الانتهاء من فحص 1330 من تلك الشكاوى، وإفادة المستثمر بنتيجة الفحص، بنسبة إنجاز بلغت 73%، وجار متابعة 500 شكوى مع جهات الاختصاص، وكانت كثير من تلك المشكلات متعلقة بالتراخيص والأراضي.
وكلف المجلس الأعلى للاستثمار، الثلاثاء، وزارة العدل بإعداد مجموعة من التعديلات التشريعية اللازمة للتغلب على القيود المتعلقة بتملك الأراضي، وتسهيل تملك الأجانب للعقارات، والتوسع في إصدار الرخصة الذهبية والنظر في عدم قصرها على الشركات التي تؤسس لإقامة مشروعات استراتيجية أو قومية.
كيف يأتي الاستثمار؟
انتقد النائب محمد مصطفى السلاب، وكيل لجنة الصناعة بمجلس النواب، في طلب إحاطة قبل أيام، غياب البيئة الآمنة المستقرة للمستثمر، والذي لا يرغب في فرض رسوم أو ضرائب جديدة، وألا توجد ضبطية قضائية في يد كل الجهات، بجانب قانون عمل يحميه هو والعامل في الوقت ذاته، وهذا هو المناخ الآمن لأي مستثمر.
وقال النائب، الذي ينتمي لعائلة استثمارية تعمل في أكثر من مجال بينها السيراميك أبا عن جد سواء في القاهرة أو الدقهلية، إنه حينما تقوم الحكومة ببيع الأراضي للمستثمرين متضمنة رسوم المرافق، يفاجئ بشركة الكهرباء تطلب رسوما جديدة ومثلها شركة الغاز، فالأرض التي يفترض تسليكها يتم دفع المرافق عليها مرتين.
وأقر المجلس الأعلى للاستثمار مشروع قرار بألا يجوز لأي جهة إصدار قرارات تنظيمية عامة تُضيف أعباء مالية أو إجرائية تتعلق بإنشاء أو تشغيل مشروعات تخضع لأحكام قانون الاستثمار أو فرض رسوم أو مقابل خدمات عليها أو تعديلها، إلا بعد أخذ رأي مجلس إدارة الهيئة العامة للاستثمار وموافقة مجلس الوزراء والمجلس الأعلى للاستثمار.
واشتكى المستثمرون كثيرا من القوانين الخاصة بالمنظومة الضريبية بشكل دائم واتخاذ القرارات بكثير من الأحيان دون حوار مجتمعي مع المستثمرين رغم أنهم أصحاب الشأن، وغياب الإستراتيجية التي تحدد نوعية القطاعات والصناعات التي تحتاجها السوق، ووضع بوصلة توضح رؤية مشاركة القطاع الخاص مع الدولة لضخ استثمارات محلية أو المشاركة فى مشروعات استثمارية أجنبية بالسوق المحلى.
وحاول المجلس الأعلى للاستثمار حل تلك المشكلة بالموافقة على مشروع قرار بالإسراع في الإعلان عن وثيقة السياسات الضريبية للدولة خلال السنوات الخمس المُقبلة التي يتحدث عنها وزير المالية منذ شهور، للقضاء على عدم استقرار التشريعات الضريبية وتعدد الجهات المنوطة بها فرض رسوم إضافية.
الاستثمار.. ليس مجرد صفقة
لكن لا يزال الاستثمار في مصر بحاجة لتحديد المستهدف المطلوب، فهو ليس صفقة، وإنما علاقة، وبالتالي، يجب تجاوز مسألة جذب الاستثمارات المبدئية لأنها جزء ضئيل وأن نركز في الفوائد الحقيقية التي تتحقق بمرحلة تالية عندما تنجح في الاحتفاظ بالاستثمار وبناء علاقات قوية مع أنشطة الأعمال المحلية.
لدى مصر قطاع من رجال الأعمال بني ثروته واسمه في مصر لكنه أحجم عن ضخ استثمارات جديدة مثل سميح ساويرس الذي أعلنها صراحة قبل أيام وشقيقه نجيب الذي تحدث عنها قبل سنوات، أو الشقيقتين ياسمين وفريدة محمد فريد خميس حينما باعتا حصتيهما المقدرتين بمجموع 24.6% في شركة النساجون الشرقيون لصالح شركة “FKY limited” التي يملكانها ومقرها في المملكة المتحدة.
ويجمع الخبراء على أن الاستراتيجية هي الطريق الأول لأي استثمار، وتبدو صناعة الفضاء في المكسيك مثال على دور الدولة فلم تكن تلك الصناعة موجودة حتى عام 2000، لكنها تطورت لتحقق صادرات تبلغ قيمتها 5 مليارات دولار، ويعمل فيها نحو 31 ألف شخص، وتقوم وزارة الاقتصاد بتنسيق خطة وطنية تستند إلى نقاط القوة التي تتمتع بها مناطق معينة في البلاد.
صناعة السيارات مثال آخر على تلك النقطة، فرغم أن مصر بدأت في تجميع السيارات منذ الخمسينيات، إلا أنها توقفت لعدة أسباب أهمها غياب الرؤية الواضحة للصناعة بالكامل، بالإضافة إلى النظر بشكل خاطئ إلى السيارة كسلعة ضمن الكماليات التي يمكن الاستغناء عنها، في المقابل وضعت المغرب خطة لجذب الشركات الأجنبية ولديها حاليًا مصانع تنتج سيارات “رينو” الفرنسية و”ستيلانتيس” الفرنسية الأمريكية، بطاقة إنتاجية مجتمعة تبلغ 700 ألف سيارة، وتستهدف البلاد إنتاج مليون سيارة في غضون الثلاث إلى أربع سنوات مقبلة.
شرط ضروري لدفع الاستثمار
يشتكي المستثمرون كثيرا من تشويه الحوافز عبر أفراد يوظفون طاقاتهم في البحث عن المنافع الريعية وإنجاز الأنشطة عن طريق ممارسات الفساد لا عن الإنتاج. ويخفض الفساد الاستثمار الأجنبي لأنه يرفع من تكاليف الحصول على التراخيص والتصاريح اللازمة للعمل، ويؤدى لزيادة عدم ثقة المستثمر في الدولة التي يريد الاستثمار فيها.
كما يطالب القطاع الخاص المصري بتفعيل وتعميم الضمانات الملزمة ﻟﺤﻤﺎﻳﺔ وﺗﺸﺠﻴﻊ اﻟﻤﺴﺘﺜﻤﺮﻳﻦ ﻣﻦ اﻟﻤﺨﺎﻃﺮ ﻏﻴﺮ اﻟﺘﺠﺎرﻳﺔ، وإشراكهم في كافة القرارات الاقتصادية المؤثرة على المناخ العام للاستثمار حيث أنه شريك أساسي في المنظومة الاقتصادية، مع إيجاد قنوات اتصال دورية بين المجلس الأعلى للاستثمار ومراكز التحكيم والجهات الخدمية المختصة بالاستثمار مثل: المحامين والمراجعين الدوليين ومنظمات وجمعيات رجال الأعمال.
اقرأ أيضًا: “البيك” والاستثمار في بطون المصريين.. هل نحتاج إلى من يعلمنا “قلي الدجاج”؟
ويقول الخبير الاقتصادي نادي عزام إن المجلس الأعلى للاستثمار تصدى للكثير من مشكلات القطاع الخاص في مصر عبر إنشاء وحدة دائمة بمجلس الوزراء برئاسة الرئيس التنفيذي للهيئة العامة للاستثمار، تختص بوضع السياسات واللوائح المناسبة لنمو وازدهار الشركات الناشئة في مصر، وكذا تلقي شكاوى الشركات الناشئة بالتنسيق مع وحدة حل مشاكل المستثمرين ووضع حلول ملائمة لكل منها بالتنسيق مع جهات الاختصاص.
وأشاد بقرار المجلس الأعلى للاستثمار توسيع صلاحيات المحاكم الاقتصادية والجزئية، لفض النزاعات التجارية، مع رفع نصاب عدم الطعن، بما يُعزز آليات تسويات النزاعات التجارية ومن ثم تسريع إنفاذ العقود، بجانب تحديد مدى زمني مُحدد لصرف تعويض للمستثمرين في حالات نزع الملكية بما لا يزيد على 3 أشهر مع إلزام الجهات الإدارية بتكثيف التفاوض مع المستثمرين على التعويضات الملائمة.
قرارات “الأعلى للاستثمار”.. ترحيب ولكن
بينما رحب اتحاد المستثمرين بقرارات المجلس الأعلى للاستثمار، قال مجد الدين المنزلاوي، الأمين العام لجمعية رجال الأعمال المصريين، إن غالبية قرارات المجلس الأعلى للاستثمار الـ 22 ترتبط بتأسيس الشركات وسرعة الإجراءات اللازمة وهي مشكلة كانت أهم أسباب طرد المستثمرين.
وقرر المجلس تحديد مدى زمني محدد لكافة الموافقات بـ 10 أيام عمل، ولمرة واحدة عند التأسيس، بما يضفى المزيد من الثقة في المناخ الاستثماري في مصر، مع توجيه هيئة الاستثمار لإنشاء “منصة إلكترونية موحدة لتأسيس وتشغيل وتصفية المشروعات وإقرار تعديلات قانون التوقيع الإلكتروني”.
أكد المنزلاوي أن ملف الاستثمار يعني إنتاج وبزيادة الإنتاج يزيد حجم الصادرات وتحل مشكلة العملة وتؤدي إلى تشغيل العمالة ووجود اقتصاد قوي، متوقعا أن يقوم كل مستثمر وطني بجذب شركائه من الخارج واستقطاب مستثمرين أجانب وشركات عالمية والترويج للفرص المتاحة في مصر.
لكن لا تزال بعض المعوقات تقف في طريق الاستثمار تحدثت عنها جمعية رجال الأعمال المصريين في مقدمتها مشكلة سعر الصرف، والإفصاح عن السياسات النقدية والمالية بشكل معلن وواضح وإعلان إستراتيجية مستهدفة لنمو الاقتصاد وتنوعه وحجم السوق المستهدف ورفع كفاءة مؤسسات الأعمال العامة والحكومية على وجه الخصوص.
شدد رجل الأعمال سميح ساويرس في تصريحات تلفزيونية مؤخرا على ضرورة إنهاء تعدد أسعار الصرف لضمان استمرار تدفق الاستثمارات الأجنبية والمحلية، وهي نقطة أعاد شقيقه نجيب ساويرس التأكيد عليها حينما قال إن شركاته تعجز عند تحضير أي دراسات جدوى عن وضع سعر الدولار في المعادلة.
يقول رئيس شركة تعمل في مجالي العقارات والسياحة، إن قرارات المجلس الأعلى للاستثمار جيدة لكن المستثمرين يطالبون بالمزيد في ظل عقبات ارتفاع سعر الفائدة وتضاعفت تكلفة الإنشاء للمتر ليتراوح بين 11 إلى 13 ألف جنيه للأنشطة السكنية لنظام النصف تشطيب بسبب زيادة أسعار مواد البناء.
وطالب رئيس الشركة بإعادة مبادرة التمويل 8% أو إعفاء النشاط السياحي من الجمارك والضرائب لمدة 5 سنوات، بجانب توافر البيانات والمعلومات حول المشروعات العقارية وتدخل الدولة لضبط سوق مواد البناء والتي تسببت في عجز المستثمرين عن تحديد تكلفة تنفيذ المنتج العقاري وتكبدهم خسائر جراء ارتفاع التكاليف.