مع دخول الحرب في أوكرانيا عامها الثاني، ركزت كل من الولايات المتحدة وأوروبا اهتمامهما على مجموعة فاجنر/ Wagner، المقاول العسكري الروسي الخاص، وأنشطتها في ليبيا، وأجزاء أخرى من إفريقيا. يأتي هذا التدقيق في الوقت الذي صنفت فيه الولايات المتحدة فاجنر كمنظمة إجرامية دولية في يناير/ كانون الثاني، وتسعى لعزلها مالياً وسياسياً.
يشير تحليل نشرته المونيتور/ Al Monitor، إلى أنه من المرجح أن تحذو أوروبا حذو واشنطن في معاقبة الذراع العسكري الخاص للكرملين، وتسعى أيضًا إلى زيادة الضغط على فاجنر وداعميها. ومع ذلك، يلفت كذلك إلى أن إلقاء نظرة فاحصة على عمليات فاجنر في ليبيا، يشير إلى أنها تطور تكتيكاتها للتكيف مع التدقيق والضغط الغربي المتزايد.
في أعقاب الحرب الأهلية عام 2014، وما تلاها من انقسام سياسي ومؤسسي بعد رفض المؤتمر الوطني العام -ومقره طرابلس- والجماعات المسلحة المتحالفة معه نتائج الانتخابات التشريعية، اعتبرت روسيا فترة الاضطرابات تلك، فرصة مثالية لبدء التدخل على الأرض، خاصة وأن موسكو نجحت في التدخل سابقا في سوريا لدعم نظام الرئيس بشار الأسد.
وعلى الرغم من أن عمليات فاجنر القتالية في ليبيا لم تبدأ إلا في صيف 2019، لدعم الهجوم العسكري للجيش الوطني الليبي التابع لخليفة حفتر، للسيطرة على طرابلس، وإزاحة حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليًا. إلا أن عملياتهم غير القتالية بدأت قبل بضع سنوات.
اقرأ أيضا: ليبيا.. ولاءات مليشيات الغرب تدفع الحلول السياسية للخلف
فاجنر في ليبيا
حسب التحليل لم تقتصر أعمال فاجنر على الأنشطة العسكرية والأمنية، وتخطتها إلى المساعدة فى الأنشطة الاقتصادية والتجارية، بل واجراء بحوث ميدانية لدراسة ما يجرى فى ليبيا.
يرصد التحليل ذلك: من عام 2015 إلى عام 2019، ركزت عمليات مجموعة فاجنر في ليبيا على الملفات المتعلقة بالأمن. مثل التدريب على استخدام أنظمة تشغيل الأسلحة الروسية وصيانتها، بما في ذلك أنظمة الدفاع الجوي المتقدمة، وأنظمة التحكم في القيادة، فضلاً عن خدمات إزالة الألغام للجيش الوطني الليبي في مدينتي بنغازي ودرنة.
إجراء البحوث الميدانية
بالإضافة إلى ذلك، سعت الشركات التابعة لفاجنر إلى تطوير الروابط التجارية والثقافية مع أصحاب المصلحة والمجتمعات الليبية. من خلال إيفاد علماء الاجتماع والخبراء في ليبيا، لإجراء البحوث الميدانية، والمقابلات، والعمل على مجموعات مع القادة والمجتمعات المحلية.
في أواخر عام 2015، توصلت السلطات في شرق ليبيا إلى اتفاق مع شركة الأسهم الروسية جوزناك/ Goznak لطباعة الأوراق النقدية للبنك المركزي الشرقي “المقصود الشرق الليبي حيث خليفة حفتر” -الذي يعاني من ضائقة مالية- وهو تطور أعقب رفض الشركات البريطانية والألمانية طباعة تلك الأوراق النقدية، خوفًا من حدوث انقسام في النظام المصرفي الليبي.
ضمن سياقات التأثير الاقتصادي يقول التحليل: رأت موسكو الفرصة واغتنمتها. مبررةً ذلك بأن السلطات الشرقية معترف بها من قبل المؤسسة التشريعية، مجلس النواب الليبي وأنه بالنسبة للشركة الروسية كان الأمر بسيطًا. بعض المعاملات التجارية.
ومع ذلك، ليس هناك من ينكر أن طباعة الأوراق النقدية الليبية في روسيا كان له تأثير عميق على ديناميكيات الصراع في البلاد. حيث لا يزال من الممكن الشعور بعواقبه اليوم، فيما يتعلق بالاقتصاد المتعثر في ليبيا كلها.
على المستوى السياسي: سعت موسكو إلى تطوير العلاقات مع كل الفصائل الليبية. وحاولت تمكين شخصيات النظام السابق والموالين له.
يقول التحليل: ضغطت موسكو من أجل ضم جنرالات وضباط وجنود من عهد القذافي إلى صفوف الجيش الوطني الليبي. وضغطت على قيادة مجلس النواب لإصدار قانون عفو يسمح بعودة رجال النظام السابق -بما في ذلك سيف الإسلام القذافي- إلى الحياة السياسية في ليبيا.
لكن، عمليا كان قد جرى إطلاق سراح سيف الإسلام من الأسر من الزنتان في عام 2016، بناءً على قانون العفو الذي أقره مجلس النواب في طبرق في ذلك الوقت.
يشير التحليل إلى أنه “على هذا النحو، تمكنت موسكو في غضون سنوات قليلة من تنصيب نفسها كشريك اقتصادي وسياسي وعسكري للفصائل الليبية الرئيسية. بما في ذلك مجلس النواب، والجيش الوطني الليبي الذي يقوده الجنرال خليفة حفتر، وشخصيات النظام السابق مثل سيف الإسلام”.
تحول الصراع
ساهم قيام أبو ظبي والرياض بدفع فاتورة للصراع المسلح- فى دعم أعمال مجموعة فاجنر، والقيام بدور قتالي نشط في طرابلس حيث تم دعم تقدم الجيش الوطني الليبي نحو العاصمة.
يقول التحليل: وصل المئات من مقاتلي فاجنر إلى جبهات القتال في طرابلس أواخر صيف 2019. وأدى تدخل فاجنر إلى قلب ميزان القوى لصالح الجيش الوطني الليبي، وكاد يؤدي إلى انهيار دفاعات القوات الموالية لحكومة الوفاق الوطني في طرابلس.
بعد ذلك، انتهزت تركيا الفرصة لتعميق شراكتها مع حكومة الوفاق الوطني المنهارة، وفرضت صفقات أمنية وبحرية على حليفتها. وهما صفقتان منحتا أنقرة وجودًا عسكريًا رسميًا على الأرض في غرب ليبيا، من خلال اتفاقية تعاون أمني، ونفوذ بحري في شرق البحر الأبيض المتوسط.
لكن، وفق التحليل، على الرغم من دعم الأطراف المتصارعة في الصراع الليبي، رأت كل من أنقرة وموسكو فوائد وأهمية التنسيق بينهما في ليبيا، مما جعلهما تمتلكان أدوات فعلية على الأرض للتأثير على الأحداث لصالحهما.
يؤكد: في الواقع، بعد بضعة أشهر من تورط تركيا عسكريًا، وقلب ميزان القوى لصالح قوات حكومة الوفاق الوطني. توصلت أنقرة وموسكو إلى تفاهم، لفرض وقف إطلاق النار على الطرفين المتحاربين في ليبيا.
يضيف: تم استدعاء حفتر وفايز السراج – رئيس ما كان يعرف بحكومة الوفاق الوطني في ذلك الوقت- إلى موسكو، للتوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار في 13 يناير/ كانون الثاني 2020. وافق السراج على التوقيع تحت الضغط التركي، لكن حفتر انسحب، وغادر موسكو دون التوقيع على الصفقة.
كان هذا بمثابة إحراج كبير للدبلوماسية الروسية. على هذا النحو، سعت موسكو إلى معاقبة حفتر على سلوكه، ونسقت مع الأتراك لإعادة تشكيل المشهد العسكري والأمني في ليبيا، وفرض وقف إطلاق النار بشروطهم الخاصة.
بعد ذلك بوقت قصير، انسحب مقاتلو فاجنر من الخطوط الأمامية دون تنسيق مع الجيش الوطني الليبي. وتأكدت تركيا من أن قوات حكومة الوفاق الوطني لم تتقدم نحو سرت أو الجفرة، حيث تمركز مقاتلو فاجنر.
وأكد التحليل أن موسكو -مستفيدة من ضعف الجيش الوطني الليبي بعد هزيمته وانسحابه من طرابلس- توسطت في صفقة بمدينة سوتشي الروسية في سبتمبر/ أيلول 2020، بشأن إدارة موارد وإيرادات الهيدروكربونات في ليبيا.
أسفر الاتفاق عن رفع الحصار النفطي الذي كانت تفرضه الفصائل الموالية للجيش الوطني الليبي، ومهد الطريق لمحادثات بين قادة الجيش الوطني وحكومة الوفاق الوطني في جنيف، حيث توصلوا إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في أكتوبر/ تشرين الأول 2020. ومهد وقف إطلاق النار الطريق لانطلاق منتدى الحوار السياسي الليبي برعاية الأمم المتحدة في نوفمبر/ تشرين الثاني.
اقرأ ايضا: ليبيا| تعديلات دستورية ومبادرة أممية.. الانقسام لا يزال سيد الساحة
قاعدة أمامية لفاجنر
سعت الشركات التابعة لفاجنر، خلال السنوات الماضية، إلى تأمين عقود مع السلطات الليبية في كل من الشرق والغرب.
كانت القطاعات التي أبدت الشركات التابعة لفاجنر اهتمامًا بها -وفقًا للوثائق الحكومية الرسمية- واسعة النطاق. هناك طلب فاجنر على قطاع الطاقة، بما في ذلك طلبات الامتيازات وعقود التنمية في شرق وجنوب شرق البلاد. كما تمثل الأحكام الأمنية لمنشآت النفط والغاز، وكذلك التعدين في المنطقة الجنوبية، جزءًا مهمًا من العقود التي يتابعها الروس.
يقول التحليل: حاليا، تتواجد وحدات فاجنر في الغالب في المنطقة الشرقية، وتحديدا في قاعدة الخادم الجوية بالقرب من مدينة المرج. وكذلك في مدينتي سرت والجفرة في المنطقة الوسطى. هذا هو المكان الذي يُعتقد أن فيه غالبية مقاتلات فاجنر وأصولها الأكثر قيمة، بما في ذلك أنظمة الدفاع الجوي المتقدمة والطائرات المقاتلة.
وبينما تزيد موسكو من اعتمادها على مجموعة فاجنر في أوكرانيا، تبذل الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى المزيد من الجهود والموارد لفرض عقوبات على الجماعة وحرمانها من الوصول إلى الأسلحة والتمويل.
يشير التحليل إلى أن مجموعة فاجنر سعت إلى استخدام ليبيا كقاعدة أمامية لأنشطتها في منطقة الساحل، ولا سيما تشاد والنيجر. بالإضافة إلى ذلك، تمكنت من بناء مناطق نفوذ مع المجتمعات المحلية وشبكات التهريب في المناطق الحدودية الجنوبية لليبيا، حيث ساعدت المجموعة في توفير الأسلحة، وفي بعض الأحيان تقنيات استخراج الذهب أو المعادن الثمينة الأخرى.
ويلفت إلى أن إحدى المخاطر الرئيسية المرتبطة بوجود مجموعة فاجنر في البلاد تتمثل في أنها متمركزة بشكل أساسي في هذه المناطق الغنية بالنفط في وسط وجنوب ليبيا.
يقول: هناك خطر دائم من أن شركة عسكرية خاصة روسية، أو مجموعة تابعة لها، ستقرر استهداف إنتاج الطاقة والبنية التحتية في ليبيا، من أجل الرد على الضغوط الغربية المتزايدة على موسكو. مما يعرض أمن الطاقة في أوروبا لخطر أكبر.
تكثيف الضغط الأمريكي
عندما قام مدير وكالة المخابرات المركزية، وليام بيرنز، بزيارة مفاجئة ليوم واحد إلى ليبيا في يناير/ كانون الثاني، كان ملف فاجنر على رأس جدول الأعمال. حيث التقى بحفتر في بنغازي، وعبد الحميد الدبيبة رئيس ما يسمى حكومة الوفاق الوطني في طرابلس.
وقالت مصادر داخل الجيش الوطني الليبي إن بيرنز أرسل رسالة واضحة إلى حفتر، مفادها أن “أي نوع من التعاون مع فاجنر في ليبيا لن يتم التسامح معه، وستكون له عواقب”. كما تمت مشاركة هذه الرسالة مع جهات إقليمية فاعلة أخرى أيضًا.
كما استمر تصنيف الولايات المتحدة في 26 يناير/ كانون الثاني لمجموعة فاجنر على أنها “منظمة إجرامية عابرة للحدود الوطنية”، في ترسيخ لرسالة مفادها أن الولايات المتحدة ستكثف الضغط على المجموعة.
في بنغازي، وفقًا لمصادر الجيش الوطني الليبي، فوجئ الوفد الأمريكي بانفتاح حفتر واستعداده لمناقشة رحيل فاجنر عن ليبيا. ومع ذلك، طلب تأكيدات وضمانات من الولايات المتحدة باتخاذ تدابير لضمان مغادرة الأتراك أيضًا من ليبيا، وأن تقدم الولايات المتحدة الدعم للجيش الوطني الليبي ليحل محل المساعدة العسكرية التي قدمتها فاجنر والروس. بما في ذلك تشغيل الطائرات المتقدمة، وأنظمة دفاعية تساعد في تأمين مقره الرئيسي في منطقة الرجمة جنوب بنغازي.
يقول التحليل: من غير المحتمل أن تقدم الولايات المتحدة مثل هذه الضمانات، فيما يتعلق بالأتراك أو أي نوع من المساعدة العسكرية المباشرة. لكن من المحتمل أن تجد واشنطن أطرافًا ثالثة لتلعب هذا الدور، مثل فرنسا أو مصر.
منذ زيارة بيرنز، أكدت مصادر محلية زيادة حركة وحدات فاجنر في مختلف المناطق التي توجد فيها. في 2 فبراير/ شباط، زعمت تقارير إعلامية محلية مختلفة، وحسابات على وسائل التواصل الاجتماعي، أن غارات جوية استهدفت أصول فاجنر في قاعدة الخادم الجوية، بالقرب من المرج، وكذلك في الجفرة بوسط ليبيا.
أيضا، مع تحرك الولايات المتحدة، وحلفائها في الناتو، لتقليص عمليات فاجنر ونفوذها في ليبيا. هناك قلق متزايد بشأن تطور الصراع. يثير هذا الوضع خطر وقوع هجمات على البنية التحتية للنفط والغاز في ليبيا، أو اندلاع صراع آخر بين الأطراف الليبية المتعارضة.
ويوضح التحليل أنه بالإضافة إلى عملياتها العسكرية والأمنية وغير المشروعة، كانت الشركات التابعة لفاجنر نشطة أيضًا في مجال العمليات المعلوماتية، بهدف التأثير على الرأي العام في ليبيا لصالح حلفائها، وضد سياسات وإجراءات الولايات المتحدة والغرب الأوسع.
يؤكد: على وجه الخصوص، فإن سيف الإسلام القذافي وفصائل النظام السابق هي الأكثر استفادة من هذه العمليات.