رغم ارتفاع أسعار غالبية المنتجات الغذائية بالسوق المحلية، إلا أن صدور الدجاج المقطعة “البانيه” بالذات، كانت المنتج الأكثر جدًلا في الشارع المصري، مع التزايد المستمر في أسعارها. والأكثر تدليلًا من قبل الجمهور، على معدل التضخم في السوق المحلية.
يشبه تحول أسعار البانيه إلى مقياس للتضخم بمصر مقياسًا عالميًا مشابهًا ظهر عام 1986 باسم مؤشر “بيج ماك أندكس”، كطريقة غير رسمية لقياس تعادل القوة الشرائية بين عملتين، وتقديم اختبار لمدى قوة سعر الصرف بالسوق، أو تكلفة السلع ذاتها في مختلف البلدان.
“بيج ماك أنديكس” وضعته الإيكونوميست لقياس الصحة الاقتصادية بقياس الأسعار المتفاوتة لعناصر وجبات “ماكدونالدز”. وهو دليل سريع ولطيف، لمعرفة ما إذا كانت العملات عند مستواها “الصحيح”.
تلك النوعية من المؤشرات، تجعل نظرية سعر الصرف أكثر قابلية للفهم، بعيدًا عن تعقيدات الفوركس، وقياس أزواج العملات. ذلك بمقارنة السعر الحقيقي لمنتج “ماكدونالدز” حول العالم، بناءً على سعر الصرف لكل دولة على حده. ويُفترض أن تكون الأسعار نفسها في مختلف دول العالم.
اقرأ أيضًا: البنك الدولي: التزامات الدين المصري “كبيرة”.. والتضخم “يتجاوز المستهدف للمركزي في 2023”
“البيج ماك” مُعترف به عالميًا، وظهر في العديد من الكتب الجامعية والتقارير الأكاديمية، التي وضعت له إطارًا نظريًا، ينص على أن سعر الصرف بين عملتين، يجب أن يساوي أسعار سلة متطابقة من السلع.
القياس التقليدي للتضخم يقارن “سلات” من السلع في شهر معين مع النوعية ذاتها في الشهر السابق، ويتم جمع الأسعار من آلاف المحلات سواء جملة أو تجزئة. وهي عمليات قياس معقدة، يتم تبسيطها بسندوتش “البرجر” و”مكوناته”، من دقيق ولحوم وزيوت وغيرها.
مع نجاح ذلك المؤشر، استحدثت “الإيكونوميست” متغيرات فرعية مثل “كوب القهوة اللاتيه الكبير” الذي يقيس مستويات الأسعار وفق سعر فنجان قهوة ستاربكس. وتم تطوير المؤشر عام 2019، ليشمل قهوة اللاتيه في 76 دولة حول العالم.
في إفريقيا، مؤشر “بيج ماك” محدود بالتغطية الجغرافية، بسبب عدم انتشار امتياز ماكدونالدز على نطاق واسع. ويفضل البعض استبداله بمؤشر مواز يتضمن وجبات “كنتاكي”، باعتبارها أكثر انتشارًا بالقارة السمراء.
قفزات أسعار البانيه
في مصر، يعادل “البانيه” تمامًا وجبات الماك أو البرجر في التدليل على نسبة التضخم. وقد ارتفعت أسعاره خلال شهر ونصف الشهر فقط من مستوى 100 و110 جنيهات لمستوى يتراوح بين 185 و200 جنيه حسب المنطقة، وعلى صعيد سنوي (19 فبراير/ شباط 2022 ـ 2023) ارتفع سعره من مستوى 90 جنيهًا إلى 200 جنيه.
“البانيه” وجبة سريعة الإعداد وكثيفة الاستخدام من قبل المستهلكين، وتحتاج لسلسلة من المكونات معها حتى تصبح صالحة للاستهلاك. أي أنها تمثل سلة من السلع تتضمن: البيض والدقيق والزيت. مع اختلاف وحيد في أن المصريين يشترونها طازجة، أو نصف مطهية وليس وجبة كاملة الصنع.
يتم قياس “التضخم الشهري” من قبل الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، بحساب نسبة التغير في أسعار السلع الاستهلاكية يوم 28 من الشهر الميلادي، ومقارنتها باليوم ذاته من الشهر السابق. ويتم الإعلان عن النتيجة في اليوم العاشر من الشهر التالي (فبراير/ شباط على سبيل المثال يتم رصد الأسعار حتى يوم 28 ومقارنتها بالفترة ذاتها من يناير، ويتم الإعلان عن تلك المؤشرات في 10 مارس/ آذار).
التضخم في أعلى مستوى
قفز معدل التضخم السنوي بالمدن المصرية خلال يناير/ كانون الثاني الماضي، لأعلى مستوى له بأكثر من خمس سنوات، مدفوعًا بزيادة كبيرة في أسعار المواد الغذائية وأغلب السلع والخدمات الأخرى، متأثرةً بانخفاض العملة المحلية.
وارتفع مؤشر أسعار المستهلكين السنوي بمصر لـ 25.8% خلال يناير/ كانون الثاني الماضي، مقابل 21.3% خلال ديسمبر/ كانون الأول الذي كان الأعلى منذ ديسمبر 2017.
تصل نسبة السلع التي يقيسها الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء لألف سلعة وخدمة مجمعة في فئات مثل: الركوب والتعليم والفاكهة والخضروات واللحوم. ويتم جمعها من 10 آلاف، و58 مصدرًا في الحضر، و4337 ألف مصدر بالقرى.
ويقصد بالمصدر أماكن بيع السلع الغذائية والصناعية بالتجزئة ومصادر تقديم الخدمات للمستهلك. ويصدر الجهاز إحصائيتين بالتضخم في القرى منفصلة عن الحضر أو المدن، قبل أن يدمجهما في رقم نهائي أي أنه يصدر ثلاث معدلات للتضخم (عام، حضر، ريف).
يقول أحمد حمدي، صاحب محل لبيع الدواجن بطنطا، إن الجزء الأكثر طلبًا من منتجاته قبل ارتفاع الأسعار الأخير كان “البانيه”. ولكن منذ ارتفاع الأسعار، أصبح الأقل طلبًا، بعدما تضاعفت أسعاره، وباتت الجزء الأكثر إقبالًا من الجمهور الأجنحة باعتبارها الأرخص سعرًا.
اقرأ أيضًا: السلع المضروبة.. فتش عن الجيوب البيضاء والتضخم
يضيف “حمدي” أن البانيه هي السلعة الأكثر استخدامًا من قبل المرأة العاملة لسهولة إعدادها، والقدرة على تجهيزها المسبق وإعدادها بوقت سريع. لكنها تحتاج لمكونات خارجية، كلها ارتفعت أسعارها، خاصة الزيوت والدقيق والبيض.
مكونات وحبة “البانيه” ارتفعت، فسجلت أسعار البيض ارتفاعات مستمرة على مدار الأسابيع الأخيرة لتلامس الكرتونة ببعض المناطق مستوى 150 جنيهًا بما يعادل 5 جنيهات للبيضة الواحدة. بينما بلغ سعر زجاجة الزيت القلي سعة 800 ملي 60 جنيهًا، سجل سعر كيلو الدقيق حاليًا بين 18 و32 جنيهًا حسب النوع. ويبلغ سعر رغيف الخبز الأبيض “فينو” ما بين 1.5 و2 جنيه.
يقول الخبير الاقتصادي، نادي عزام، إن أرقام التضخم الصادرة من البنوك المركزية هي الأكثر مصداقية، ويمكن الاعتداد بها باعتبارها نتائج معممة على عكس الأمور المتعلقة بالطعام فقط، والتي تفتقد بعض الموضوعية في الحكم على الأمور.
فعلى سبيل المثال مؤشر “بيج ماك أنديكس” قد يكون منخفضًا في بلد ما بسبب توافر مكونات صناعته محليًا من القمح والدواجن والزيوت، وفي بلد اخر قد يرتفع بسبب استيرادها، والأمر لا يعبر في هذه الحالة عن قوة الاقتصاد بوجه عام.
لكن أساتذة الاقتصاد بجامعة هارفارد العريقة، كان لهم رأي آخر إذ يسعون للتحرر من القياسات التقليدية، ودراسة كل ما من شأنه التعبير عن حركة السوق، ببيانات الأسعار على شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، من أجل تتبع التضخم بطريقة أكثر دقة وفي الوقت المناسب من مؤشرات أسعار المستهلك الرسمية، التي تحتاج لشهر كامل للمقارنة، وتمت الاستعانة بخبراء في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا لجمع معلومات أكثر مصداقية.
الملابس الداخلية
في أمريكا، بدأ المواطنون يقتنعون أكثر في المؤشرات غير الرسمية التي في مقدمتها الملابس الداخلية للرجال فهي ضرورة. لكن عندما يكون القلق الاقتصادي منتشرًا، فإن المشترين لن يقبلوا على الشراء، ما يؤدي إلى انخفاض المبيعات وتخفيف تضخم الأسعار.
مبيعات الملابس الداخلية للرجال تسير على شكل خط مسطح لا يتغير. لكن عندما تنخفض فهذا يعني أن الرجال “مقروص للغاية” لدرجة أنهم يقررون عدم استبدالها مهما كانت حالتها، بحسب آلان جرينسبان الذي خدم خمس فترات كرئيس لمجلس الاحتياطي الفيدرالي بين عامي 1987 و2006.
انخفضت مبيعات الملابس الداخلية للرجال في أمريكا الشمالية في عامي 2008 و2009 وسط الأزمة المالية العالمية. ومع ارتفاع الثقة في الاقتصاد الأمريكي خلال شهري يناير/ كانون الأول وفبراير/ شباط ارتفعت أسعار الملابس الداخلية الرجالية بنسبة 5.5% بين ديسمبر ويناير.
اقرأ أيضًا: زيادة الحد الأدنى للأجورلـ2700 جنيه| مستثمر: لا يكفي فردا.. نقابي: التضخم تجاوز 100%.. خبير: حتى 5000 لا تكفي أسرة
وحينما وصلت ثقة المستهلك إلى أدنى مستوياتها العام الماضي، حققت أسعار الملابس الداخلية للرجال ركودًا كبيرًا ثم انخفضت بعد ذلك. حينها قال حوالي 90% من الأمريكيين الذين استطلعت آراءهم جمعية الطب النفسي، إنهم قلقون أو قلقون للغاية بشأن التضخم.
بجوار مسجد السيد البدوي بطنطا، يشكو محمود الرفاعي، بائع الملابس الداخلية، من تراجع المبيعات رغم أن المنتج الذي يبيعه هو الأرخص في السوق، والأقل جودة بالطبع والذي استقطب فئات من مستويات اجتماعية متوسطة وفقيرة.
لا تعلن مصانع الملابس عن مبيعاتها التفصيلية. لكن إحدى الشركات أعلنت عن تضاعف أرباحها ما يزيد على ست مرات، بسبب رفع الأسعار والاتجاه للتصدير إلى الخارج، في ظل انخفاض سعر صرف الجنيه الذي عزز من تنافسيتها في الخارج.
“محمود” يرى أن مبيعات الملابس الداخلية في العام الحالي أقل بكثير من الأعوام السابقة. إذ لا يبيع سوى زوج أو اثنين على أقصى تقدير حتى في أيام الجمعة التي تشهد توافدًا كبيرًا لزائري المسجد من المحافظات كافة. ويعتبر أن هناك فئة تشتري الملابس الغالية مهما زاد سعرها.
نادي عزام، يقول إن المؤشرات المستجدة تعطي دلالات على سلع بعينها، لكنها تختلف باختلاف الأسواق. فالمستهلك المصري لا يأخذ قراراته بدراسة مثل باقي دول العالم، ولا ينظر كثيرًا للأوضاع الاقتصادية العامة، ويتعامل أحيانا بمنطق “العيش يوم بيوم”.
ليست مؤشرات غريبة
الوصول لمؤشرات للتضخم الحقيقي مثار مساعي الاقتصاديين على مستوى العالم حاليًا والمؤشرات التي تبدو للبعض غريبة في تزايد مستمر. كما يعتبرها البعض دالة أكثر على حركة الأسعار ونفسية المتعاملين وتحركاتهم المستقبلية وفقا لثقافتهم وعاداتهم.
اللازانيا المجمدة على سبيل المثال تجد رواجًا كبيرًا في قياس معدل الأسعار. نيل كاشكاري، رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في مينيابوليس، يقول في مقابلة مع شبكة “سي إن إن”، إنه يقيس التضخم وتأثيره على المستهلكين من خلال النظر في تكلفة عنصر عشاء عائلي مفضل.
ويضيف أن هناك صينية كبيرة من “اللازانيا” (نوع من المكرونة)، كان يشتريها وكانت تكلفتها حوالي 16 دولارًا يبلغ سعره حوالي 21 دولارًا أمريكيًا. وهذا هو مقياس صغير خاص به لكيفية حدوث التضخم. وهو المقياس الذي ربما يحكم به المصريون على الأسعار أيضًا.