إذا كان القرنُ الماضي هو قرن الكُتّاب العظام الذين كتبوا في كل ما يشغل الناس من هموم وآمال وأحلام بالتّقدّم، فإن القرن الحالي هو قرن القُرّاء على اختلاف مستوياتهم وتنوع تجاربهم ومواقفهم، هو قرن التقييم المباشر والمراجعات القصيرة التي يقوم بها القُرّاء للكتب التي يطالعونها، فلم يعدّ اسم الكاتب يمثّل سُلْطة كما كان من قبل، لم يعد كافيًا أن يضع اسمه على غلاف ما لكي يجد هذا الغلاف الرّواج المناسب أو المطلوب، كما أنّ التأليف لم يعد عملية رأسية تسير من أعْلى إلى أسفل: من الكاتب الذي يجلس على المنصة المرتفعة (المجلة أو الجريدة مثلا) إلى القارئ الذي يجلس في محيط القاعة الممتدة ينصت لما يقدم إليه من فوق، وإنما أصبحت الكتابة اليوم صناعة مشتركة؛ كاتب يرسل وجمهور يتلقى، ثم كاتب يتلقى وجمهور يُرْسل ويتحكم في عدد النجوم ودرجات التقييم.
اقرأ أيضا.. أنا الكاتب..!
وهذه العلاقة الجديدة بين الكاتب والقارئ لم تحدث فجأة؛ إذ يمكننا أن نجد بذورها الأولى في الرُّبْع الأخير في القرن الماضي، ففي تلك الفترة رحل تباعًا كبار الكُتَّاب الموسوعيين؛ فقد غادرنا الأستاذ العقاد 1964م وطه حسين 1975م ثم توفيق الحكيم 1987م، ولم تكن هذه مغادرة للجسد فحسب، بل كانت بالأساس انتهاء لحقبة الكاتب الموسوعيّ وبداية الكاتب المتخصص الذي يتناول علمًا فنًّا محددًا يتعمّق فيه ولا يشغل نفسه بغيره من العلوم أو الفنون.
كان ذلك بالتزامن مع عديد من التحولات المحلية والعالمية؛ فقد انهارت المقولات الكبرى والإيديولوجيات الشاملة، وغربت شمس دعوة القومية، وطغت النزعة الاستهلاكية بوعودها الخلابة وقدرتها على تزكية الروح الفردية، والإعلاء من فكرة السوق الحر والتنافس الواسع والعولمة والنمو الأسطوري لإمبراطورية الدعاية، والمساحة الهائلة التي نالتها ثقافة الهامش على مستويات الوعي المعرفي والسياسي والاقتصادي، حتى طغى الهامش في كثير من الممارسات على المتن..إلخ
ثم جاءت تكنولوجيا التواصل بوعود لم تكن تخطر على عقل أحد، فقامت قيامة القارئ وصرنا عمليًّا إزاء عصر القارئ بلا جدال.
موت المؤلف…!
في نهايات السيتينيات من القرن الماضي 1967م يكتب الفيلسوف الفرنسي “رولان بارت” مقالته ذائعة الصيت “موت المؤلف”، لتكون عنوانًا كبيرًا على نشاط واسع من الأفكار، يتقاطع مع دوائر متعددة، كالمعتقدات الدينية والنقد الأدبي والعولمة والديموقراطية.. فمقولة “موت المؤلف” أكبر من مجرد مقالة نقدية أو فلسفية؛ لقد كانت عنوانًا دراميًّا دالا على جوهر الثقافة الغربية. وقد وجدت رواجًا بين النقاد العرب وبخاصة لدى الجيل الذي جاء بعد طه حسين، وأقصد به جيل النقاد المتخصصين الذين اعتبروا النص بنية مغلقة، لا علاقة له بسياقه التاريخي أو الاجتماعي، فهم حين يحللون نصًّا لا يشغلهم المؤلف أو الكاتب، ولا يهتمون بمعرفة حياته وما أثّر عليه؛ فالنص – من وجهة نظرهم- عالَم قائم بنفسه، ومُكتمل بذاته، ولا حاجة له بصاحبه. إنه قادر على البقاء دون أب يفكّ مغاليقه ويدلّ القارئ على مقاصده..!
فأنت مثلا لست مضطرًا – وأنت تقرأ كتابًا لطه حسين أو قصيدة لامرئ القيس- أن تعرف شيئًا عن سيرة أيّ منهما، أو عن عصرهما، وما تعرضوا له من حوادث ومحن، وما انتصروا عليه أو أخفقوا فيه، لستَ مضطرًا لأن تعرف شيئًا عن عاهة طه حسين أو ما كان يطمح إليه.. أنت – أي القارئ – لستَ مضطرًا إلى كل هذه المعارف لتحلل النص، والنص أيضًا ليس في حاجة إليها كي يتكشّف لك، وهذا يعني أن وجود المؤلف بات عبئًا على القراءة والتحليل، ويجب التخلص منه وإعلان وفاته.
بالتأكيد أنت إزاء واحدة من مقولات الفرنسيين التي لا تخلو من المبالغة أو قل لا تخلو من الصياغات الدرامية، ورغم ذلك فلا توجد مقولة لاقت من الرواج والنقاش مثل ما حظيت به هذه المقولة؛ لقد أثرت في كثير من المناهج وشكّلت قناعات ما لا يحصى من الدارسين في الشرق والغرب…!
لقد كان بارت جزءًا من سياق ديمقراطي حر، وجزءًا من منظومة قيمية وعقدية لا علاقة لها بالترتيب الهرميّ الذي نعرفه نحن في الثقافة العربية، كانت أفكار نيتشه عن موت الإله والديمقراطية والسوق الحُرّ والعولمة والنسبية وغياب المركزية والعولمة وموت الأب أفكار شديدة الذيوع.. وهذا يعني أن الحديث عن “وفاة المؤلف” حديث طبيعي ضمن سياق تعددي، ورغم ذلك فلا يمكن إنكار انتشارها وتأثيرها حتى لكأنها تنطوي على بُعْد استشرافي.. أو قل: ربما لم يجر بخلد بارت أن مقولته ستغدو عنوانًا على عصر كامل بعد انتشار تكنولوجيا التواصل داخل قارات العالم بشكل غير مسبوق..!
ولادة القارئ
والنتيجة المترتبة على موت المؤلف هي بالتأكيد “ولادة القارئ”، القارئ الذي سيطلق يده في النصوص ويعيد تأويلها وتفسيرها وفق مقاصده هو، لا يهم هنا أن تلتقي مقاصد القُرّاء مع مقصد المؤلف الذي لم يعد موجودًا بأي صورة. لقد أنتج المؤلف نصه وتركه في يد القرّاء، وهم سوف يتولون تفسير النص وإنتاج دلالته أو دلالتهم.. إنهم الآن الملّاك الجُدد للنص.
وهذا المالك الجديد لا يشبه المالك القديم. القارئ الجديد لا يشبه القارئ القديم، القارئ الجديد لا يخلو من جبروت وقسوة، لقد شيّع المؤلف إلى مثواه الأخير، وأغلق عليه بابًا قويًّا بمثل هذه المقولة القاسية:
“لا شيء خارج النص”..!
إنها واحدة من مقولات النقد المعاصر القاسية، فكل ما هو خارج النص لا وجود له في الفهم والتحليل، ويأتي المؤلف على رأس هذه الأشياء التي لا وجود لها..!
وبالتأكيد لك أن تتوقع مع تعدد القرّاء تضاربًا في التفسير والتحليل، وهذا أيضًا لا بأس به، وهو ما سوف تتكفل به تلك المقولة القادمة من قلب إستراتيجية التفكيك للفرنسي جاك ديريدا، حيث يقول: “كل قراءة هي إساءة قراءة”.
بمعنى أنه لا توجد قراءة معتمدة ونهائية، كل قراءة صواب حتى تأتي قراءة أخرى تزيحها وتقدم نفسها، وهكذا نمضي في سلسلة من القراءات والقراءات المستبعدة، وقد ترى في هذه السلسة قدرًا من الفوضى، وقد ترى فيها- إذا كنت متفائلًا- نوعًا من الثراء، وإذا كان رأيك هذا أم ذاك، فالمؤكد أنك تتفق معي أن هذا الوضع أوجد حالة من السيولة لا حد لها، حتى باتت السيولة جوهر حياتنا المعاصرة على كافة المستويات.
لقد ولد القارئ إذن، ولم يعد الكاتب- كما يقول بارت – يكتب من أجل التعبير عن ذاته الفردية الحرة، وإنما هو مجرد ممثل لثقافته ولغته، يكتب نصًّا من نصوص أخرى، ويخضع للثقافة وأنساقها.. الكاتب الجديد لا يكتب النص وإنما تكتبه الثقافةُ. وما يقوم به الكاتب هو إعادة ترتيب اللغة التي كتبت قبله ملايين المرات فحسب.. اللغة تسبق الكاتب الوجود، ولا وجود لشيء غير اللغة.
كان هذا الكلام في العقود الأخيرة قبل القرن العشرين يقدم في كتب الفلسفة والنقد بصيغ درامية شديدة الإبهار، وهناك معارك أقيمت حوله في ثقافتنا وفي غيرها من الثقافات، ولكن هذا لم يمنع الحقيقة الماثلة التي موضوع كلامنا، وهي أن القارئ قد ولد، وأن كل شيء كان يمهد لعصر القارئ الجبار، ولم يكن بارت وديريدا وفوكو وكل هؤلاء يطالعون الفناجنين، وإنما كانوا يعبرون عن عصر ومزاج كامل، ثم جاءت وسائل التواصل، وبات الكاتب موضوعًا لحصار القارئ وتقييمه، بل صار القارئُ كاتبًا، أو لنقل إنّ قُرَّاء الأمس أصبحوا على هذه المنصات كُتّاب اليوم..!
وبهذه الأفكار وتلك التحولات، انتهى زمن الكتّاب وبدأ زمن القُرّاء.!