تضمنت مخرجات الشق الاقتصادي في “الحوار الوطني”، الذي دعا إليه ريس الجمهورية، مقترحات شديدة الصلة بالحقوق الاقتصادية للمواطنين، وفي مقدمتها الحياة الكريمة في ظل تصاعد معدلات التضخم، التي من المتوقع أن تتزايد بوتيرة ملحوظة مع سلسلة القرارات الحكومية الأخيرة من رفع الفائدة 6%، وتخفيض سعر صرف الجنيه أمام الدولار الأمريكي، الذي يبلغ حاليًا متوسط بين 47 و48 جنيهًا.
هذه القرارات جاءت لتكشف طريقة تعامل الحكومة مع توصيات “الحوار الوطني” الذي دعت هي إليه وباركته. كما تشي وتفصح وقائع ومجريات الرصد التالي عن مدى تقدير الحكومة لتوصيات هذا “الحوار الوطني” للحد من حالة التأزم الاقتصادي الحاد الذي تشهده البلاد. وتكشف هذه الوقائع كيف ان أجهزة الحكومة المختلفة لم تنظر لهذه التوصيات نظرة جدية تستدعي العمل بها ومراعاتها وإلزام الجهات المختلفة في الدولة بما فيها القطاع الخاص بالأخذ بها وضرورة تطبيقها. بل أن هناك من النواب البرلمانيين من يرى أن الحكومة تقدر تكلفة الخدمات على المواطنين بشكل ينطوي على الكثير من المبالغة عن سبق إصرار وتعمد. إذ تضمنت توصيات الحوار تثبيت الرسوم الإدارية والخدمات الحكومية (مثل المياه والكهرباء والغاز) لمدة عام، وإعادة النظر في منهجية احتسابها؛ لتجنب المغالاة فيها. وهو ما ذهب أدراج رياح “القروض الدولارية” التي تريد الحكومة تحميلها على المواطن دون اكتراث أو مبالاة لما يدفعه من ضرائب مقابل خدمات المياه والكهرباء وغيرها.
حصلت “مصر 360″، على نسخة لتوصيات الحوار الوطني في المحور الاقتصادي، التي تضم لجان التضخم وأولويات الاستثمار العام، والموازنة العامة، والعدالة الاجتماعية، والتي تضمنت بنودًا من شأنها إتاحة الحق للمواطن في الحصول على السلع والخدمات بسعر معقول.. وفي هذه السطور قراءة لتوصيات “الحوار” والقرارات الصادرة في مجالي السياستين المالية والنقدية؛ لإظهار مدى الالتزام داخل المجالين بالتعاطي مع نتائج “الحوار”، فيما يتعلق بالتضخم ومستوى المعيشة على مدار الشهر الماضي.
هل التزم البنك المركزي بنتائج الحوار؟
كانت أهم المقترحات التي تبناها “الحوار” التحول من سياسة استهداف، أو تثبيت سعر الصرف، وتبني نظام أكثر مرونة، إذ تضمنت توصيات الحوار، نصًا صريحا، على أن “المرونة” ليست اقتراحا بالتعويم، الذي لا تتوفر شروطه في مصر، بجانب ربط الجنية بسلة متوازنة من عملات أهم شركاء مصر التجاريين.
تعود التوصية الخاصة بسعر الصرف الصادرة عن المحور الاقتصادي داخل “الحوار”، الذي شهد تواجدا للجهات الحكومية، أثناء النقاش إلى 2 مارس الماضي، إلا أن البنك المركزي أصدر قراره بتعويم الجنيه يوم 6 مارس، مع السماح لسعر صرف الجنيه بالتحرك وفقا لآليات السوق، بعد قرار آخر برفع أسعار الفائدة بصورة كبيرة بـ 6%، بينما رفعت الجمارك الدولار الجمركي (الذي يتم التعامل له بمصلحة الجمارك) من مستوى 31 جنيها إلى مستوى 49.5 جنيها، وهو أمر من شأنه التأثير على مستوى الأسعار.
ربط الجنيه بسلة عملات، كان في الأساس توجها من البنك المركزي كشف عنه المحافظ حسن عبد الله في أكتوبر 2022، إلا أنه لم يتم اتخاذ خطوات على الأرض في هذا الصدد حتى الآن، رغم أن عبد الله ذاته وعد بإطلاق مؤشر خاص بالجنيه المصري، يضم سلة من العملات الدولية والذهب، واعتبر أن الربط بين الجنيه والدولار أمر مغلوط، خاصة أن الولايات المتحدة الأمريكية ليست الشريك التجاري الأساسي لمصر.
فمن شأن ربط الجنيه بسلة عملات بدلاً من الدولار؛ إعطاء مزيد من المرونة لنظام الصرف الأجنبي، وهي خطوة لو تحققت لساعدت مصر على العبور من الأزمة الاقتصادية الحالية، دون الحاجة لقرار تعويم الجنيه، أخيرًا، فضلاً عن عدم الحاجة لزيادة الفائدة، ومنع التقلبات، وكبح التضخم، بحسب خبراء اقتصاديين.
بحسب التوصيات، فإن سياسة رفع سعر الفائدة قد يكون لها مبرراتها في الأجل القصير، (ارتفاع معدل التضخم، والرغبة في الحد من الدولرة)، لكنها مكلفة وغير فعالة، إذا كان مصدر الخلل ناتجا عن قلة المعروض من السلع والخدمات مقارنة بالطلب عليها، لذا جرى اقتراح أن تكون هذه السياسة مؤقتة، وأن يصاحبها العمل على حل مشاكل التشغيل.
وتشير نتائج العديد من الدراسات، إلي أن التغيرات في سعر الصرف خلال الفترة (1976 ـ 2014) أثرت سلبًا على معدلات الأسعار، إذ إن انخفاض قيمة الجنية المصري أدى إلي زيادة في مستوى الأسعار خلال الفترة محل الدراسة.
بحسب الدراسات، فإن تغيرات سعر الصرف تؤدي إلى انخفاض الأجر الحقيقي للعاملين، فلا توجد آلية محددة لربط التغير في الأجور بالتغيرات التي تحدث على المستوى العام للأسعار؛ حفاظًا على مستوى معيشة الأفراد.
الحماية من الجشع.. حق أساسي للمواطن
تضمنت “مقترحات الحوار الوطني” تفعيل قرار تدوين الأسعار على السلع، وتطوير وتفعيل آلية، تتبُع السلع من المنتج إلى المستهلك؛ للقضاء على الاختناقات في سلاسل الإمداد، في ظل شكاوى المستهلكين من بيع التجار السلعة الواحدة بأكثر من سعر في منطقة واحدة، بل أحيانا في شارع واحد فقط؛ بسبب “فوضى التسعير”.
كان يفترض تطبيق مبادرة وضع الحد الأقصى للأسعار على السلع بداية من أول مارس الماضي، لكن تبني تلك المبادرة من قبل القطاع الخاص، دون ممارسة رقابة صارمة على أرض الواقع من قبل وزارة التموين، جعل عددا كبيرا من المحال التجارية غير ملتزمة، أو تخالف شروط كتابة سعر المنتج.
بحسب إبراهيم عشماوي، مساعد أول وزير التموين، فإن الوزارة وضعت بداية من شهر مارس حدا أقصى لسعر المنتجات المحلية، وتحديد سقف سعري للمنتجات المحلية التي يدخل في تكوينها مكون محلي.
وطالب “الحوار الوطني” بطرح مبادرة؛ لإتاحة وضبط أسعار مجموعة من السلع التي تغطي نسبة كبيرة من احتياجات المواطن اليومية والدواجن، والألبان، والبيض، والأرز، وأدوية الأمراض المزمنة، وركزت كثيرا على الخبز غير التمويني، الذي يشهد ارتفاًعا بالأسعار .
لكن وزارة التموين تلقي بأدواتها الرقابية في “حجر المواطن”، إذ يقول عشماوي، إن هناك تصغيرا ملحوظا لرغيف الخبز السياحي، لكنه طالب المواطن في الوقت ذاته، بأن يبلغ مباحث التموين والجهات المعنية.
طروحات حكومية لكن بشروط
كان برنامج الطروحات الحكومية أحد المحاور التي ركز عليها “الحوار الوطني”، إذ اشترط في تنفيذ برنامج الطروحات المعلن أن بكون بقيم عادلة لمستثمرين أجانب، مع مراعاة مصالح العمال والمستهلكين، وانتهاء بتعظيم العائد المالي للموازنة العامة، بما ينعكس على المواطن بشكل عام.
تتوقع الحكومة المصرية جمع حصيلة، تصل إلى 70 مليار جنيه من الطروحات الحكومية في العام المقبل، حيث تستهدف وزارة المالية، حصيلة إضافية من الطروحات بنحو 70 مليار جنيه، وهو ما يمثل 0.6% من الناتج المحلي في مشروع موازنة العام المالي 2023/ 2024.
شددت اللجان الأربع للمحور الاقتصادي بالحوار الوطني، في توصياتها أنه على الدولة حال انسحابها من شركات، تعمل في أسواق احتكارية مثل الكهرباء، أن يجري التأكد من تحقيق التوازن بين مصالح المنتج والمستهلك في آن واحد، مؤكدة أن أحد الشروط الضرورية لنجاح التجربة؛ هو توفير أجهزة تنظيم مستقلة تتولى تلك النقطة.
تستهدف الحكومة طرح عدد من المشروعات بإجمالي 5 مليارات دولار، حتى يونيو 2024، منها محطة توليد الطاقة من الرياح بمنطقة الزعفرانة في ديسمبر 2023، ومحطة سيمنز لتوليد الكهرباء ببني سويف في يونيو 2024.
طالبت التوصيات بإعداد وثيقة أخرى للدولة، أكثر عمومية وأكثر استقرارا؛ لتحديد توجهات ودور الدولة في الاقتصاد كمالك، ومراقب للأسواق، وصانع للسياسات، وزيادة فاعلية دور الدولة كمراقب للأسواق وصانع للسياسات؛ حفاظًا على التوازن المنشود بين الدولة والقطاع الخاص، والاستفادة من الميزة النسبية لكليهما.
بحسب الحوار الوطني، فإنه يجب تحديد الأسواق التي تتسم بقلة عدد المنتجين فيها، واتخاذ ما يلزم؛ لزيادة المنافسة، وذلك بإلغاء أي سياسات أو قرارات، تعوق دخول منتجين جدد في الأسواق، أو أي سياسات، تمنح تمييزا بين المشاركين في إنتاج، وبيع السلع المختلفة، ما يصب في مصلحة المواطن مع تفعيل دور جهاز حماية المستهلك، وجهاز منع الممارسات الاحتكارية وحماية المنافسة. وهو الأمر الذي يتطلب تغييرًا تشريعيًا.
الدعم النقدي
طالب الحوار الوطني في شقه الاقتصادي توسيع قاعدة المستفيدين من الدعم النقدي بشكل، يتناسب مع زيادة أو انخفاض نسبة الفقر، وفي حدود الإمكانيات المالية، والعمل على التحول التدريجي من الدعم العيني إلى الدعم النقدي المشروط، وتمكين المستفيدين من هذه البرامج من الحصول على عمل منتج، متى أمكن ذلك.
ويبلغ إجمالي عدد الأسر المستفيدة من برنامج تكافل وكرامة، وهو أكبر برنامج للدعم النقدي المشروط (مشروط ببقاء الأبناء في التعليم دون تسرب) على مستوى مصر، أكثر من 5 ملايين أسرة، بما يشمل 22 مليون مواطن بمتوسط شهري من 620 و740 جنيهًا شهرياً لكل أسرة.
حاليا لا توجد إحصائية حديثة لأعداد الفقراء بمصر، لكن الدكتورة هبة الليثي أستاذة الإحصاء بجامعة القاهرة ومستشار الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، قالت خلال الندوة التي عقدها مشروع حلول للسياسات البديلة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة مؤخرًا، تحت عنوان “أين وصلت أرقام الفقر في مصر؟”، إن 33.3% من سكان مصر تحت خط الفقر خلال 2023.
وطالبت اللجان الاقتصادية بالحوار بتقييم تجربة “حياة كريمة”، وذلك بغرض تعديل المسار، إذا لزم الأمر، وقدمت العديد من التساؤلات للحكومة: هل من الأفضل أن يكون التنفيذ في المرحلة القادمة على مستوى الوحدات وليس القرية؟ وهل من الضروري منح أفضلية لاستخدام المنتج المحلي؟ وهل من المنطقي، أن تتحمل شركات الاتصالات والغاز الطبيعي نسبة من التكلفة؟
وشددت جلسات الحوار الوطني على ضرورة حماية الأجور والمعاشات من تغول التضخم عليهما، بربط الاثنين تفاوضيًا في إطار المجلس القومي للأجور، أو في إطار منظومة جديدة لتنظيم العمل النقابي، وعلاقته بأصحاب الأعمال، مع دراسة إمكانية تحويل المبادرة الاستثنائية التي قدمت، لمن يعملون في القطاع غير الرسمي أثناء جائحة كورونا إلى منظومة دائمة؛ لمواجهة مشكلة البطالة.
يستفيد من مبادرة العمالة غير المنتظمة مليون و159 ألف عامل، وهم المسجلون في قواعد بيانات وزارة العمل، ويتلقون 6 منح دورية، تُصرف في مواعيدها، وتشمل “منحة عيد الفطر، والأضحى، والعمال، والمولد النبوي”، وآخرها كان في شهر رمضان الحالي بقيمة بقيمة 500 جنيه.
كما تعاني العمالة في القطاع الخاص، خاصة غير الرسمي، فضعف النقابات العمالة في التأثير على أصحاب الأعمال؛ بغرض زيادة معدلات الأجور حال ارتفاع التضخم، وما يصاحبه من انخفاض مستوى المعيشة، فضلاً عن أن ارتفاع مستوى البطالة، يؤدي لقبول العمل عند مستويات الأجور المنخفضة، وعدم المطالبة بالزيادة في مستويات الأجور؛ خوفا من الفصل.
شملت المقترحات ربط مظلة الحماية الاجتماعية، خاصة “تكافل وكرامة” بالتغير في معدل التضخم الصادر عن جهاز التعبئة العامة والإحصاء، ما يعني أن ترفع الحكومة مخصصات الحماية الاجتماعية في مشروع الموازنة الجديدة، التي سيبدأ مجلس النواب مناقشتها بـنحو 40%، تعادل التضخم.
تثبيت الرسوم الإدارية.. توصيات “الحوار” وسلوك الحكومة
تضمنت توصيات اللجان الاقتصادية بالحوار التي كان مقررها وزير المالية الأسبق أحمد جلال، أيضًا تثبيت الرسوم الإدارية والخدمات الحكومية (مثل المياه والكهرباء والغاز) لمدة عام، وإعادة النظر في منهجية احتسابها؛ لتجنب المغالاة فيها.
اتخذت لجنة تسعير المنتجات البترولية، أخيرًا، قرارًا برفع أسعار المحروقات؛ لتتضمن أنابيب البوتاجاز، التي ارتفعت من مستوى 75 جنيهًا إلى 100 جنيه بنسبة زيادة 33.33%، ورفع السولار بنحو 175 قرشًا؛ ليبلغ مستوى 10 جنيهات.
وقال علي عبد الفتاح، المسئول بوزارة الكهرباء، خلال اجتماع للجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب، قبل اسبوع، إن خطط رفع الدعم تأجلت عدة مرات، مضيفًا أنه كانت هناك خطة لرفع الدعم على مدار ثلاث سنوات، بدأت 2015، وحدث تعويم نوفمبر 2016، فتم مد الخطة، بحيث ينتهي الدعم في 2020، لكن مع جائحة فيروس كورونا «كوفيد -19»، تم هيكلة تعريفة الكهرباء، وإعادة هيكلة الخطة مرة أخرى، بحيث يتم رفع الدعم عن الكهرباء في 2024/2025.
وقال مسئول الوزارة: “نتحمل فرق سعر أكثر من 6 مليارات في نصف العام المالي، وتقريبا 10 مليارات جنيه في العام المالي كله، ونخسر نحو 20 قرشا في كل كيلو وات/ ساعة، حيث إن تكلفه الكيلو وات/ ساعة تبلغ 135 قرشا، بينما تبيعها الوزارة بـ 125 قرشًا”.
وأثارت تصريحات وزارة الكهرباء جدلا في مجلس النواب، خاصة من جانب النائب عبد المنعم إمام، الذي تساءل حول كيفية احتساب الوزارة التكلفة، وحق المواطن الذي يدفع ضرائب مقابل خدمات مياه وكهرباء وغيره.
وقال إمام، إن الوزارة حصلت على قروض دولارية، وتريد تحميل المواطن فرق السعر، مضيفا: ” الفرق لا يجب أن أتحمله كمواطن، شيل تكلفة القرض اللي أنت حاطتها على السعر، أنتوا مصرين ما تحطوش التكلفة الحقيقية”.