تطورات متسارعة تشهدها الساحة الليبية مؤخرًا، وسط حراك للأطراف الداخلية، على صعيد القوى الإقليمية الفاعلة في المشهد الليبي، قبل أن تصل تلك التطورات ذروتها بزيارة هي الأولى من نوعها لمدير وكالة الاستخبارات الأمريكية وليام بيرنز إلى البلاد.
فبينما كانت الأوساط الليبية تنتظر ترجمة الاتفاق الذي جرى في القاهرة بين رئيس مجلس النواب عقيلة صالح ورئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري، لإجراءات عملية تنهي المراحل الانتقالية وتقود للتوافق على قاعدة دستورية تجري بموجبها الاستحقاقات الانتخابية للوصول إلى سلطة تنفيذية منتخبة، تبدد التفاؤل سريعًا بعدما تراجع الرجلين عن اتفاقهما معتبرين أنه كان مجرد تقاربًا لفظيًا فقط.
وفي الخامس من يناير/ كانون الثاني الجاري اتفق صالح والمشري خلال اجتماع في القاهرة على “وضع خارطة طريق واضحة” لإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في ليبيا.
وذكر صالح والمشري، في بيان مشترك عقب مؤتمر صحفي عقداه في مقر مجلس النواب بحضور رئيس المجلس حنفي جبالي، أنه “حرصًا على إنجاز أساس دستوري توافقي للوصول إلى الانتخابات الرئاسية والبرلمانية تم الاتفاق على قيام اللجنة المشتركة بين المجلسين (مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة) بإحالة الوثيقة الدستورية للمجلسين لإقرارها طبقًا لنظام كل مجلس”.
اقرأ أيضًا: إدارة أزمة ليبيا الاقتصادية.. مسكنات مؤقتة والعلاج رهن توافق سياسي غائب
وأضاف البيان أنه تم الاتفاق على “وضع خارطة طريق واضحة ومحددة يعلن عنها لاحقًا لاستكمال كل الإجراءات اللازمة لإتمام العملية الانتخابية سواء التي تتعلق بالأسس والقوانين أو المتعلقة بالإجراءات التنفيذية وتوحيد المؤسسات”.
لكن سرعان ما تبددت حالة التوافق، ليعلن رئيس مجلس النواب الليبي عقيلة صالح، أن ما حصل في القاهرة هو مجرد “تقارب لفظي” دون أفعال، وفق تعبيره. وذلك بعد تضارب موقفهما من مسألة ترشح العسكريين للانتخابات.
ووسط ضجيج الاجتماعات ذات الطابع السياسي، عادت الاشتباكات بين المجموعات المسلحة في طرابلس. وذلك بعدما اندلعت اشتباكات مسلحة عنيفة بالأسلحة الثقيلة بين كتيبة “الردع” ومجموعة تتبع “الكتيبة 111″، في منطقة قصر بن غشير في طرابلس بالقرب من المطار الدولي، بعدما رفضت “الكتيبة 111” تسليم إدارة المطار من أجل إجراء أعمال صيانة.
وفي ورشفانة على بعد 30 كيلو متر جنوب العاصمة طرابلس، تستنفر المليشيات المتمركزة بالمدينة على خلفية محاولة اغتيال آمر مليشيا “3مشاة” الجمعة الماضية، في الوقت الذي يحمل فيه أتباعه مسئولية الهجوم لـ”مليشيا 55″ التي تعد الأكبر والأقوى في المدينة.
صراع أمريكي روسي
خلال الأيام الأخيرة، شهدت الساحة السياسية في ليبيا تحركات مكثفة من الجانبين الروسي والأميركي، وصلت حد التسابق في ممارسة ضغوط على أطراف ليبية وعربية فاعلة في محاولة من جانب موسكو لتأمين تواجدها في ليبيا عبر قوات فاجنر. فيما تحاول واشنطن تضييق الخناق على روسيا ومنع تحويلها ليبيا قاعدة تنطلق منها إلى القارة الإفريقية.
نشاط روسي
ورغم انشغال روسيا بالحرب الأوكرانية الراهنة، فإنها أعادت أخيرًا الكثير من عناصر فاجنر الروسية إلى ليبيا مرة أخرى في ظل حرص موسكو على تعزيز تواجدها في القارة الإفريقية، وترسيخ حضورها في ليبيا لاستخدامها كورقة ضغط على الغرب.
إذ أن حالة الانشغال الروسي بأوكرانيا لم تمنعها من بث رسائل للولايات المتحدة على الأراضي الليبية. خاصة بعد إسقاط الطائرة المسيّرة الأميركية طراز “إم كيو-9 ريبر” بسلاح روسي، أثناء تحليقها بالقرب من مركز قيادة الجيش الليبي بمنطقة الرجمة شرق ليبيا، وتنفيذها عمليات استطلاع بشأن نشاط عناصر فاجنر.
وكثفت موسكو أخيرًا اهتمامها بليبيا، فبعد فترة من اتخاذ مسافة من حكومة الدبيبة في طرابلس، أصدر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مرسومًا بتعيين آيدار أغانين سفيرًا مفوضًا فوق العادة لبلاده في طرابلس.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد أعلن وزير الخارجية سيرجي لافروف أنه يعتزم إجراء جولة تشمل سبع عواصم أفريقية تصدرتها طرابلس، بهدف الإعداد للقمة الروسية الإفريقية الثانية والمقررة في شهر يوليو/ تموز المقبل في سانت بطرسبورج. وذلك في ظل محاولاتها للتحرك في المنطقة التي تمثل خاصرة أوروبا التي تخوض موسكو منافسة جيو سياسية شرسة معها ومع الولايات المتحدة الأمريكية.
دخول أمريكي مفاجئ
بشكل مفاجئ، زار مدير وكالة الاستخبارات الأميركية “سي آي إيه”، وليام بيرنز، ليبيا والتقى خليفة حفتر قائد الجيش الليبي (قوات شرق ليبيا)، وعبدالحميد الدبيبة رئيس حكومة الوحدة المنتهية ولاياتها. لكنها لا تزال تحظى بالاعتراف الدولي.
كما كشفت السفارة الأميركية لدى ليبيا، أن حفتر التقى بعد ذلك مسئولين أميركيين في مدينة بنغازي شرق ليبيا، هم القائم بأعمال السفارة ليزلي أوردمان، ونائب قائد القوات الجوية الأميركية في إفريقيا الجنرال جون دي لامونتاني.
دخول أمريكا المفاجئ بثقلها إلى ليبيا أخيرا، يمكن قراءته على ضوء دراسة أعدتها خدمة أبحاث الكونجرس. وهي الهيئة البحثية التي توفر معلومات وبيانات موثقة لأعضاء مجلسي الشيوخ والنواب، عن القضايا محل اهتمام واشنطن، التي تشير إلى قلق أمريكي من استعادة روسيا علاقاتها القوية مع ليبيا وتأمين الاستثمارات المربحة معها، وتقويض نفوذ أوروبا الغربية والولايات المتحدة.
اقرأ أيضًا: سيناريوهات لوقف التصعيد العسكري في ليبيا.. والأمل في تقارب مصر وتركيا
وسبق أن أعربت الولايات المتحدة عن قلقها إزاء دور تلعبه روسيا على ساحة الصراع الليبي. فضلًا عن استمرار المخاوف من أن يؤثر عدم الاستقرار في البلد العضو بمنظمة أوبك على سلاسل إمدادات الطاقة العالمية.
ووفقًا لعضو بمجلس النواب الليبي، تحدث لـ”مصر 360″ مفضلًا عدم ذكر اسمه، فإن زيارة مدير الاستخبارات الأمريكية نقلت رسائل شديدة الوضوح للأطراف الليبية التي التقاها خلال زيارته، تركزت أهدافها على محاصرة النفوذ الروسي في ليبيا، عبر التضييق على مرتزقة فاجنر المتواجدين في سرت والجفرة.
ووفقًا لعضو مجلس النواب الليبي، فإن “بيرنز” أكد على الدبيبة ضرورة إنهاء الخلاف مع قائد الجيش الليبي في الشرق خليفة حفتر، بشأن المخصصات المالية اللازمة لقواته. وذلك في محاولة لفض الشراكة بينه وبين موسكو.
وأوضح النائب الليبي أن “بيرنز” شدد في المقابل على حفتر بعدم التعاطي مع ما يخص ليبيا ضمن أجندة موسكو في الصراع الدائر بينها وبين أوروبا والولايات المتحدة، مؤكدًا على ضرورة مواصلة ليبيا لضخ النفط، وعدم القبول بأي عمليات غلق للحقول النفطية مجددًا.
خطورة الصراع الروسي الأمريكي
تتمثل خطورة الصراع الروسي الأمريكي في ليبيا، والذي انتقل إلى المواجهة المباشرة، بعدما ظل طيلة السنوات الماضية صراعًا بالوكالة عبر وكلاء محليين وإقليميين، في تفخيخ المشهد الليبي مجددًا، في ظل جهود دولية تقودها واشنطن، ومن خلفها دول أوروبية لمحاولة الوصول إلى آلية تتيح إفراز سلطة جديدة وإنهاء الأجسام القائمة خلال بضعة أشهر وبرعاية أممية.
وتخشى الولايات المتحدة من تمدد موسكو داخل إفريقيا، كونها أيضًا أصبحت لديها سواحل على البحر المتوسط تستطيع إثارة القلق لحلفائها منها، والهيمنة على نقاط حيوية في العالم.
وما يزيد من المخاوف الأمريكية والأوروبية أن النشاط الروسي على الصعيد الليبي، يأتي بعد إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في يوليو/ تموز الماضي العقيدة البحرية الجديدة لأسطول بلاده، والتي شملت الوجود الروسي في البحار والمحيطات عبر العالم، ومنها البحر المتوسط، حماية للأمن القومي أمام تمدد قوات الخصوم من دول حلف الناتو. وهو ما يعني أن ما يجري من شأنه جر ليبيا ودول جوارها للمعركة الأمريكية الغربية مع روسيا من جهة، ومن جهة أخرى توريط دول الشرق الأوسط في الحرب الأوكرانية وتوسيع نطاق الأزمة.