في الوقت الذي قررت فيه إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن حجب جزء من المساعدات العسكرية لمصر، بسبب ما قيل إنها مخاوف بشأن وضع حقوق الإنسان. قام رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، الأربعاء، بإجراء تعديل وزاري كبير في حكومته. تضمن تكليف ليز تروس، المعروفة بعلاقتها القوية بالقاهرة، بحقيبة الخارجية. في تناقض واضح لموقف الحليف الأمريكي، الذي يعتزم وزير خارجيته أنتوني بلينكن اتخاذ ما وصفه بـ”خطوة غير مسبوقة بعدم استخدام التنازل الذي كان من شأنه أن يسمح بإرسال الأموال”، حسب ما أورد موقع “بوليتيكو”.
جاء القرار الأمريكي بعد أيام من إعلان الرئيس عبد الفتاح السيسي عن الاستراتيجية المصرية لحقوق الإنسان. وإعلان عام 2022 عامًا لحقوق الإنسان في مصر. بينما قال الرئيس الأمريكي ووزير خارجيته إنهما ملتزمان بتعزيز حقوق الإنسان “حتى عندما يتعلق الأمر بالدول المتحالفة”. ويعتزم منح 170 مليون دولار من المعونة العسكرية المقدرة بـ 300 مليون. ومنع المبلغ المتبقي البالغ 130 مليون دولار إلى أن تفي الحكومة المصرية بشروط غير محددة تتعلق بحقوق الإنسان.
وتقدم الولايات المتحدة لمصر 1.3 مليار دولار كمساعدات عسكرية سنويًا. بينما وضع الكونجرس قيودًا تتعلق بحقوق الإنسان على التمويل العسكري الخارجي. وأتاح استخدام 170 مليون دولار في مكافحة الإرهاب وأمن الحدود وعدم الانتشار.
اهتمامات ليز تروس
في الوقت نفسه، يأتي التغيير المفاجئ في الحكومة البريطانية ليصب في مصلحة القاهرة. بعدما أقال بوريس جونسون وزير الخارجية دومينيك راب بسبب تعامله مع الموقف في أفغانستان في أعقاب استيلاء طالبان على السلطة. وكلفه بالعمل وزيرًا للعدل، واختار بدلًا منه ليز تورس وزيرة التجارة الدولية. والتي تسعى لتعزيز الشراكات والتحالفات في الساحة الدولية بعد تفعيل اتفاقية البريكست وخروج التاج البريطاني من الاتحاد الأوروبي.
ليز تروس، (46 عامًا)، هي ثاني سيدة تتولى حقيبة الخارجية البريطانية بعد مارجريت بيكيت التي جاءت من حزب العمال. وهي أول سيدة من المحافظين، وكذلك الأطول بقاء في الحكومة التي انضمت إليها منذ عام 2014.
وتُعرف ليز في الأوساط الشعبية والسياسية البريطانية بتصريحاتها غير الدبلوماسية والصادمة في كثير من الأحيان. وأنها مدافعة شرسة عن حقوق المرأة والمساواة بين الجنسين، وكذلك الاهتمام بالطبقات الأكثر احتياجًا. فضلاً عن دعوتها لتوفير فرص عمل متكافئة بغض النظر عن العرق أو النوع. كذلك تولي أولوية بالغة نحو التعليم الذي تراه منفذًا للكثير من الإصلاحات الاجتماعية. أو كما قالت في أحد أحاديثها: “بينما كانوا يعلمونا أشياء حول العنصرية والانتهاك الجنسي، كان هناك القليل من الوقت الذي يقضوه في التأكد من أن الناس يمكن أن يقرأون ويكتبون”.
صديقة القاهرة
تتبنى الوزيرة إليزابيث تروس، التي درست الفلسفة والسياسة والاقتصاد في كلية ميرتون بجامعة أكسفورد، مبدأ أشهر سياسي في تاريخ بلدها وينستون تشرشل “في السياسة ليس هناك عدو دائم أو صديق دائم.. هناك مصالح دائمة”. بدا هذا في تغيير موقفها بشأن البريكست، فقد كانت واحدة من المؤيدين لبقاء بريطانيا ضمن سياج أوروبا. لكنها عادت لتغير رأيها بعد الاستفتاء عام 2016.
دعت ليز بريطانيا إلى استغلال فرصة مغادرة الاتحاد الأوروبي لتغيير اقتصادها. وطلبت من الشركات البريطانية بذل المزيد من الجهد للاستفادة من طرق التصدير الجديدة التي فتحها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وقالت “الطريق إلى الانتعاش الاقتصادي لا يكمن في التراجع والتراجع، بل في التجارة الحرة والمشاريع الحرة”.
توطدت العلاقة بين وزيرة التجارة البريطانية والمسؤولين المصريين وتعتبر التعاون مع الإدارة المصرية هامًّا في مكافحة الإرهاب وتحقيق الاستقرار في المنطقة
من هذا المنطلق، توطدت العلاقة بين وزيرة التجارة البريطانية والمسؤولين المصريين. وتنظر- مثل الكثير من نواب حزب المحافظين- إلى مصر باعتبارها شريكًا استراتيجيًا. كما تعتبر التعاون مع الإدارة المصرية هامًّا في مكافحة الإرهاب وتحقيق الاستقرار في المنطقة. فضلًا عن قضايا التجارة والسياحة، وهو الجانب الذي برز فيه دورها جيدًا. لذلك فإن الأيام القادمة حبلى بالمزيد من التعاون في ملفات أخرى مشتركة. مثل التعاون العسكري والأمني، ومكافحة الإرهاب، ومشروعات البنية التحتية، ومكافحة الهجرة غير الشرعية.
ليز تروس.. مهندسة الشراكة التجارية
خلال الفترة السابقة دعمت الوزيرة إتمام صفقة مع الحكومة المصرية لإنشاء خطين جديدين لقطار الـمونوريل. أحدهما من العاصمة الإدارية لشرق القاهرة والآخر من مدينة 6 أكتوبر للجيزة. وتصل تكلفتهما إلى 3.2 مليار جنيه إسترليني، استطاعت هي تأمين دعم يبلغ 1.7 مليار جنيه استرليني من وكالة تمويل الصادرات البريطانية. وهو أكبر مبلغ تمويل قدمته على الإطلاق لمشروع بنية تحتية في الخارج.
وأعلنت في بيان صحفي صدر عن سفارة بريطانيا بالقاهرة عن الضمان الحكومي الذي سيدعم الوظائف التي تتطلب مهارات عالية في مدينة ديربيشاير بإنجلترا. وكانت حاضرة في احتفال توريد أول 70 وحدة من المشروع إلى جوار وزير النقل المصري الفريق كامل الوزير.
إلى جانب صفقة شركة بومباردييه الخاصة بقطار المونوريل، شهد الاستثمار بين البلدين صفقات متعددة. منها صفقة شركة رولز رويس لتوريد محركات طائرات لمصر بقيمة 50 مليون جنيه إسترليني. كذلك وقعت شركة “ماتلان”، وهي إحدى شركات التجزئة البريطانية لبيع الملابس والأدوات المنزلية، وشركة صناعة الأدوية جلاكسو سميث كلاين، صفقات استثمارية مع مصر.
وتعد مصر سوقًا مهمًا لصادرات بريطانيا، فقد بلغت قيمة تعاملاتها 2.3 مليار جنيه إسترليني في عام 2019. منها 1.5 مليار في صادرات السلع، و800 مليون في صادرات الخدمات. كما تعتبر المملكة المتحدة من أكبر المستثمرين في مصر، بقيمة 48 مليار دولار أمريكي، في العديد من القطاعات. منها النفط والغاز والاتصالات والأدوية والسلع الاستهلاكية سريعة التداول. كذلك رفعت مصر استثمار سنداتها الحكومية في بورصة لندن إلى 22 مليار دولار أمريكي.
مواقف سابقة
وفي دليل واضح على قوة العلاقة مع القاهرة، رغم الادعاءات والمطالبات بالضغط عليها تماشيًا مع السياسات الأمريكية. تمت دعوة الرئيس المصري إلى جانب رؤساء من 20 دولة إفريقية إلى قمة الاستثمارات البريطانية الأفريقية العام الماضي. وذلك تنفيذاً للسياسة التي رسمتها ليز تروس، والهادفة إلى تحقيق رغبة بريطانيا في توسيع نفوذها الاقتصادي. خاصة بعدما صارت مصر أكبر منتج للغاز الطبيعي في المنطقة، حيث تمتلك أكبر محطتين لتسييل الغاز. مما ساعدها على أن تكون منصة الغاز في البحر المتوسط.
ويأتي أكبر إنجازات وزيرة الخارجية البريطانية الجديدة في التعاون مع مصر في توقيع “اتفاقية المشاركة المصرية البريطانية”. وهي الاتفاقية التي دخلت حيز النفاذ منذ أول يناير الماضي، عقب انفصال المملكة المتحدة عن الاتحاد الأوروبي. توفر الاتفاقية تحريرًا كاملاً للتجارة بين الدولتين في المنتجات الصناعية ومعظم السلع الزراعية والمنتجات الغذائية والأسماك ومنتجاتها. مع استثناء بعض السلع الزراعية التي ستكون خاضعة لحصص كمية تحددها الاتفاقية وتعد كافية لاستيعاب نسبة كبيرة من صادرات الطرفين.
بعد التوقيع، نشرت الوزيرة صورة على حسابها بموقع التواصل الاجتماعي “تويتر”. وكتبت: “هذه الاتفاقية هي إشارة واضحة على التزام المملكة المتحدة الدائم بعلاقتنا الثنائية الوثيقة مع مصر وستساعد في تعزيز العلاقات التجارية والاستثمارية في المستقبل. سيساعد ذلك في تزويد الشركات البريطانية والمصرية بفرص جديدة ويوفر لهم اليقين الذي يحتاجون إليه لمواصلة التداول. تظل المملكة المتحدة ملتزمة بتأمين الصفقات التي تدعم الوظائف البريطانية، وتوفر مدخرات كبيرة وتساعد على دفع التعافي بعد كوفيد -19.”
سياسة حقوقية نفعية
تتجاهل ليز تروس أية انتقادات تُخالف المصالح الاستراتيجية للتاج البريطاني. حيث تتخذ موقفًا أكثر نفعية تجاه قضايا حقوق الإنسان من الحكومات السابقة. وترى أنه بينما على الدول الديمقراطية أن تشير لاختراقات حقوق الإنسان حول العالم، إلا أن ذلك لا يجب أن يؤثر على التجارة الخارجية مع تلك الدول. وهو ما بدا قبل يومين في خطابها حول السياسات التجارية الجديدة لبريطانيا.
التقارب مع مصر، إضافة إلى إصرارها على إعلاء المصالح الاقتصادية لبلادها دون التدخل في شؤون الدول الأخرى. أو النظر لأية عوامل بعيدة عن الهدف جعلها عرضة للهجوم من سياسيي حزب العمال البريطاني. ومنهم إميلي ثورنبيري، عضوة البرلمان عن حزب العمال. والتي تضع ادعاءات وتقارير المنظمات الدولية نصب عينيها عند الحديث عن الدول الشريكة لبلادها.
في مرمى الانتقادات
وهاجمت ثورنبيري وزيرة التجارة خلال ردها على ورقة التشاور الحكومية حول نظام جديد للأفضليات التجارية للبلدان النامية: “منعت ليز تروس تعديل الإبادة الجماعية ضد الصين. واستأنفت بيع القنابل البريطانية لاستخدامها في اليمن. ووقعت اتفاقيات تجارية مع مصر. لذلك عندما تقول إنها تريد الآن تبسيط المتطلبات التي يضعها بلدنا بشأن حقوق الإنسان عندما نعطي تفضيلات تجارية. فإننا بحاجة ماسة إلى معرفة المتطلبات التي تريد التخلص منها ولماذا وما هي العواقب”.
كذلك كتبت ثورنبيري تغريدة على موقع التواصل الاجتماعي “تويتر”: “تعتبر الصفقة التجارية بين المملكة المتحدة ومصر اختبارًا رئيسيًا للحكومة. هل تحتوي على أحكام قوية وقابلة للتنفيذ في مجال حقوق الإنسان؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك، فهل سيصوت البرلمان على موافقته؟ قبل مناقشات مجلس اللوردات الحيوية حول قانون التجارة”.
رغم توقيع اتفاقيات مشابهة مع تركيا، هاجمت وسائل الإعلام التركية الوزيرة البريطانية وسياسة التقارب الاقتصادي مع مصر. وقالت إن توقيع بريطانيا صفقات تجارية مع مصر هو أحدث مثال يجسد شعارها الجديد “سوف نفعل أي شيء لجعل المملكة المتحدة قوية”. واتهمت الوزيرة البريطانية بأنها تجاهلت ما وصفوه بـ”الممارسات القمعية للنظام المصري في مقابل أمواله”. كان هذا قبل جولات المحادثات المصرية التركية، أما الآن فأبعد ما ترغب فيه أنقرة هو إثارة غضب القاهرة.