تغيرت أوضاع الطبقة الوسطى في مصر بشكل كبير في السنوات الأخيرة وخاصة بعد البدء في تطبيق سياسات صندوق النقد الدولي، بشكل مكثف مع ازدياد الأزمة الاقتصادية العالمية، الأمر وضع الطبقة الوسطى في تهديد غير مسبوق، لكن وبعيدا عن الاقتصاد، سيكون التغير في البناء الاجتماعي المصري، أثار سياسية تنعكس على الإنسان في النهاية.
اقرأ أيضا.. “إمبراطورية النهم”.. الإمارات تلتهم مواني إفريقيا
تاريخ الطبقة الوسطى: الأفندي في التحرير
لطلما كانت الطبقة الوسطى من ركائز العلاقة بين الدولة والمجتمع. كانت الطبقة الوسطى الدافع وراء تحولات الدولة المصرية. يقول الأكاديمي والمؤرخ ريلي شيشتر في دراسته عن الطبقة الوسطى المصرية، إن في أوائل القرن العشرين أصبحت طبقة الأفندية (التي تكونت في عهد محمد علي) – أو المصري أفندي كما كان يمثل في الكاريكاتيرات وقتها– لاعبا سياسيا يطالب بالتغيير والاستقلال.
تصاعد مطالبات طبقة الأفندية الحضرية بالمطالبة بتحسين الظروف الصحية في المدن وأوضاع العمل والقضاء على الفقر. وضعت الطبقة الوسطى خطة لتغيير المجتمع بناء على التعليم والعلم وطالبت الدولة بالتدخل. سيطر الأفندي على الخطاب الاجتماعي والسياسي خاصا مع انتشار الصحافة.
وفي هذه الفترة تشكل العقد الاجتماعي المصري. حيث بدأت الدولة بالتدخل في الوظائف والتعليم وغيرها لإرضاء مطالب الطبقة الوسطى.
يجادل شيشتر بأن العقد الاجتماعي الناصري كان استمرارا للعقد الاجتماعي الذي تشكل في العصر الملكي. فإصلاحات نظام يوليو استهدفت الطبقة الوسطى ولم يكن بين الطبقات الفقيرة والدولة بل كان بين الدولة والطبقة الوسطى أو ما كانت تعرف سابقا بالأفندية.
يجادل شيشتر مجددا بأن الطبقة الوسطى كانت الأكثر استفادة من سياسات “ناصر” مقارنة بالعمال والفلاحين. الطبفة الوسطى في المدن كانت الأكثر استفادة من مشروعات البنية التحتية والدعم وتحديد الإيجار والتعليم والصحة. كما استفادت الطبقة الوسطى بشكل أساسي بالوظائف التي وفرتها الدولة بالقطاع العام. فالأغلبية العظمى من طلاب الجامعات في عهد ناصر كانوا أولاد الطبقة الوسطى وليس من العمال والفلاحين. يجادل شيشتر أيضا بأن على الرغم من سياسات الانفتاح الاقتصادي في عهد السادات، لم يبق السادات فقط على العقد الاجتماعي بين الدولة والأفندي، بل توسع فيه بشكل أكبر عن طريق التوسع في شبكات الحماية الاجتماعية ودعم الطاقة والغذاء وتوفير وظائف أكثر في القطاع العام خاصا عقب انتصار أكتوبر وعودة العمل بقناة السويس وتصدير البترول في سياق ما أطلق عليه الخبير الاقتصادي ووزير المالية الأسبق حازم الببلاوي “العقد الاجتماعي شبه الريعي”.
تزامن هذا مع السماح بنشاط ما للاقتصاد غير الرسمي وسفر المصريين للخارج، مما أدى إلى زيادة الطبقة الوسطى. ولكن لم ينجح السادات في تحقيق مستوى التأييد الذي كان في عهد ناصر بسبب الزيادة السكانية التي كانت تبتلع الدعم والوظائف.
ثم جاء الرئيس الأسبق حسني مبارك الذي كان مدركا لأهمية الحفاظ على تأييد الطبقة الوسطى، ولكن الطبقة الطفيلية الرأسمالية التي تكونت في عهد السادات أرادت المزيد من السلطة. تبنت الحكومة في عهد مبارك سياسة وخطاب نيوليبرالي يدعوا لإطلاق يد السوق وتقليص الدعم وعدم تدخل الدولة.
يقول حازم قنديل -أستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة كامبريدج – إن الثورة في 25 يناير كانت ثورة الطبقة الوسطى اعتراضا على السياسات النيوليبرالية التي هددت مكاسب الطبقة الوسطى وركزت الثروة في يد رجال الأعمال المقربين من النظام. فانهار في عهد مبارك العقد الاجتماعي المرتبط بالتنازل عن الحقوق السياسية في مقابل المزايا الاجتماعية والاقتصادية الذي كان بين الدولة والطبقات.
الطبقة الوسطى محرك التغيير
قد يبدو للوهلة الأولى بأن الفئات الأكثر فقرا واحتياجا هي المفترض أن تكون أكثر الطبقات مطالبة بالتغيير. ولكن الأدلة لا تدعم هذه النظرية. ما يطلق عليها الموجة الثالثة من الديمقراطية – كما سماها صمويل هنتنجتون – في البرتغال وبلغاريا وتايوان وكوريا الجنوبية كانت تحركات وتظاهرات بقيادة الطبقة الوسطى. ومن النماذج الشهيرة في السنوات الأخيرة هي الاحتجاجات في هونج كونج.
تشدد النظريات الكلاسيكية (كتابات سيمور مارتن ليبست على سبيل المثال) حول تلك الظاهرة على الرابط الوثيق بين الطبقة الوسطى والقيم الديمقراطية، التي يمكن تلخيصها بعبارة بارينجتون مور جونيور الشهيرة “لا برجوازية، لا ديمقراطية”. حيث إن تلك الطبقة المتعلمة تبدأ بالمطالبة بالديمقراطية في مقابل الضرائب التي يدفعونها للحكومة. ولكن هناك بعض الدراسات أثبتت أن رغبات ونشاط الطبقة الوسطى ليسوا مرتبطبن بالديمقراطية بشكل دائم بل يوجد استثنائات وحالات مختلفة.
هناك تفسيرات أحدث للظاهرة. هينج تشين ووينج سوين يفسران الظاهرة بربطها الأمل أو التشاؤم ومستوى الوعي. بناء على دراستهما توصلا إلى أن الفقراء مدركون بأن أوضاعهم سيئة ولكنهم يظنون بأنه لا مفر منه لاعتقادهم بأن جميع الأنظمة ظالمة ويرون بأن الجميع يشاركهم نظرتهم المتشائمة، بينما الطبقة الوسطى لديها أمل في تحسين أوضاعها وأفراد تلك الطبقة يرون بأن التغيير للأفضل ممكن عن طريق العمل والنشاط السياسي المنظم، لذلك هناك شعور بأن المواطنين الآخرين يشاركونهم في هذا الأمل.
استراتيجية الطبقة الوسطى في مصر
وبالتالي يمكن استخلاص الآتي: رغم عدم وجود ارتباط تلقائي بين الطبقة الوسطى والديمقراطية ولكن هناك ارتباط بين الطبقة الوسطى والنشاط السياسي والتنظيم والرغبة في التغيير، لأنهم أكثر وعيا وتفاؤلا كما لديهم مصالح اقتصادية يحاولون الحفاظ عليها.
فالطبقة الوسطى المصرية لم تضع الديمقراطية كهدف بل كوسيلة نهائية تلجئ لها عندما تفشل المفاوضات. تاريخيا نظمت الطبقة الوسطى المصرية نفسها للمطالبة بإصلاحات سياسية واقتصادية عامة مع زيادة المزايا الاقتصادية التي يحصلون عليها من الدولة.
استطاعت الطبقة الوسطى المصرية الضغط على الأنظمة المتعاقبة لكسب مزايا اجتماعية وتحقيق إصلاحات في سياق عقد اجتماعي صكته الدولة والطبقة الوسطى معا، ويتضمن التنازل عن الديمقراطية (بشكلها الأمثل على الأقل) مقابل الحصول على مزايا اقتصادية. وعندما شعرت طبقة الأفندية بالتهديد في عهد مبارك تحركت للحفاظ على مكتسباتها التاريخية.
قنبلة الأفندي الموقوتة
ليس من الواضح كيف سيحاول النظام الحالي تخطي تلك الأزمة. يبدو بأن هناك خطة لمحاولة تخفيف أثار الأزمة والسياسات الاقتصادية النيوليبرالية على الفقراء خلال مبادرات لتحسين حياتهم مثل حياة كريمة وتكافل وكرامة اللذين بالفعل لهما أثار إيجابية على الفقراء. ولكن ماذا عن الطبقة الوسطى؟
الدولة لم تتخل عن الطبقة الوسطى. فالدولة تعلم بأنها طبقة لا يمكن استبدالها أو الاستغناء عنها لأنها ركيزة الدولة الحديثة وعامل هام في تحقيق الدولة العصرية والمتقدمة التي تسعى القيادة السياسية لتحقيقها التي تتمثل في شعار الجمهورية الجديدة.
كما أن استقرار الطبقة الوسطى، كما أثبت التاريخ الحديث والمعاصر، العامل الأساسي في نحقيق استقرار الدولة والنظام السياسي، ويبدو من تصريحات رسمية سابقة بأن الدولة تدرك هذا الرابط التاريخي جيدا، حتى وإن كانت مستعدة للمخاطرة هذه المرة في سبيل تحقيق النمو المرجو من سياسات الإصلاح الاقتصادي.
الخطاب الرسمي والإعلامي يطالب المواطنون بالصبر. هذا الخطاب في الواقع موجه بشكل أساسي للطبقة الوسطى. لذلك يبدو أن الدولة تأمل بأن الطبقة الوسطى ستستمر بالصبر حتى تساقط ثمار الإصلاح الاقتصادي.
في 2021 أصدر مركز معلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء إنفوجرافيك مبني على تقرير لوكالة “فيتش سولوشنز” بأن نمو الطبقة الوسطى في 2025 سيكون بنسبة 58% مقارنة 34.3% في 2021. بعيدا عن مدى صحة التوقعات وما هي الأثار النهائية للإصلاح الاقتصادي. يشير هذا إلى تعلق آمال الحكومة على تحقيق نتائج الإصلاح الاقتصادي المرجوة، وأن الخطة الأساسية لتفادي قنبلة الأفندي الموقوتة هو الانتظار مع بعض محاولات التخفيف المحدودة مثل زيادة الحد الأدنى للأجور، وتقديم شهادات بنكية مؤقتة بعوائد مرتفعة (التي تحد من التضخم ولكن توفر أيضا عائد مرتفع مؤقت للطبقة الوسطى).
هذا الخطاب يصاحبه قبضة أمنية أحيانا لمحاولة المحافظة على الاستقرار في المجتمع المصري. ولكن هذا المزيج قد لا يكون كافيا. والدولة تدرك بأن القبضة الأمنية وحدها لا تحقق الاستقرار. كما أن الخطاب الإعلامي ليس كافيا أيضا.
ناصر والسادات اعتمدا بشكل أساسي على العقد الاجتماعي وكانت القبضة الأمنية مجرد عامل مساعد. وهذا أيضا ما حاول فعله مبارك، ولكن سياساته في فترته الأخيرة هددت العقد الاجتماعي للأفندي. وعندما هدد الأفندي تحرك إلى التحرير.
أوضحت بيانات بنك كريدي سويس في 2016 بأن الطبقة الوسطى المصرية تقلصت بنسبة 48%، فانخفضت من 5.7 مليون في في عام 2000 الى 2.9 مليون في 2015.
اليوم، السياسات الاقتصادية النيواليبرالية مثل تحرير سعر العملة وتقليص الدعم وتخفيض وظائف القطاع العام وغيرها من الإجراءات التقشفية، بالتزامن مع الأزمة العالمية لها أثار أكثر شدة على الطبقة الوسطى المصرية من عهد مبارك. التضخم وتراجع الدخول جعلوا معيشة الطبقة الوسطى المصرية صعبة للغاية في الآونة الأخيرة. قنبلة الأفندي الموقوتة لم تنفجر بعد، ولكنها قد تفعل في أي وقت. هناك الكثير على المحك فيما يتعلق بمستقبل الإجراءات الاقتصادية التي يتم تطبيقها حاليا ليس فقط على الأوضاع المعيشية للأفندي بل على استقرار النظام السياسي والاجتماعي أيضا.