أثارت زيارة رفيعة المستوى من مسئولين مصريين إلى الخرطوم مؤخرا أسئلة بشأن طبيعة التفاعل المصري الراهن مع حالة الاتفاق الإطاري السوداني، ومدى قدرتها على أن تساهم في تشكيل توافق سوداني حوله يفضي إلى اتفاق نهائي أصبح مطلوبا بإلحاح بعد أن تصاعدت المهددات الأمنية الداخلية خصوصا في كل من شرق السودان ودارفور، وكذلك بات المواطن السوداني باحثا عن ملاذات بديلة لبلاده يستطيع فيها أن يلبي الاحتياجات التعليمية لأولاده بعد تباطؤ أو تعطل معظم مرافق الدولة الحيوية.
اقرأ أيضا.. بمناسبة حوار لا تتحرك عجلاته: نحو مسار ثالث في المعادلة المصرية
وقد تعود هذه الأسئلة في المجال العام السوداني بسبب أن مصر لم تكن شريكا في الجهود الإقليمية والدولية المشتركة خلال الفترة الماضية والتي حاولت أن تصنع توافقا سياسيا سودانيا بشأن مسار الفترة الانتقالية المجمدة بسبب إقدام المكون العسكري على الانفراد بالسلطة منذ أكتوبر 2021 فضلا عن طبيعة العلاقة المصرية بمولانا محمد عثمان الميرغني وأحد أولاده.
وعلى الرغم من أن أيا من الأطراف السودانية أو المصرية لم تفصح عن محتوى الزيارة التي التقي فيها السيد عباس كامل مدير المخابرات بكل من رموز المكون العسكري وقيادات تحالف الحرية والتغيير المركزي فإن الاتجاهات الأساسية في التصريحات المصرية تحدثت عن ضرورة توافق سوداني سوداني، وتوسيع قاعدة المشاركة بما يمهد الطريق نحو تأسيس الهياكل الانتقالية لفترة عامين، بينما جاء موقف بعض الأطراف السياسية السودانية متحفظا، بينما لعبت الأطراف الخارجية المناوئة دورها المعتاد في تسميم أي تحرك مصري إزاء السودان وبكافة الوسائل.
وفي هذا السياق يبدو أن الموقف المصري قد تبلور على عدد من المعطيات منها أن الاتفاق الإطاري السوداني قد تم الترحيب به من جانب مصر في حينه أي عند التوقيع عليه في 5 ديسمبر الماضي، وتأكيدا على أن مصر تقف على مسافة واحدة من كل الأطراف السودانية، وبالتالي فإن فكرة التحفظ المصري على الاتفاق الإطاري التي تروج لها بعض الجهات الخارجية لا تملك أساسا من حقيقة، وقد تكون القاهرة في تقديري الشخصي تركز في هذه الفترة على إفرازات الاتفاق الإطاري في عمليات التمثيل السياسي بالهياكل الانتقالية أكثر ماتطرح مبادرة نوعية بأي محتوى جديد.
ويقع تحت مظلة المعطيات أيضا أن هناك جهودا مصرية متواصلة مع كافة الأطراف السودانية منها ما هو في القاهرة مثل زيارة استضافت فيها القاهرة حزب الأمة على مدى أيام للنقاش بشأن سبل تقدم المشهد السوداني نحو التوافق العام، فضلا عن دعم أطراف في الحزب الاتحادي الأصل بقيادة مولانا محمد عثمان الميرغني ومنها ما هو في الخرطوم بالتواصل الدائم مع الأطراف السودانية عبر هياكل الدبلوماسية المصرية التقليدية.
ويقع في ذات النطاق أن مجموع الجهود الإقليمية والدولية التي شاركت فيها كل من الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي ومنظمة الإيجاد فيما سمي بالمبادرة الثلاثية أو تلك الرباعية التي تشارك فيها دول كل من المملكة السعودية والإمارات وكل من بريطانيا والولايات المتحدة، وإن كان قد أسفرت عن إنتاج الدستور الانتقالي كمخرج لورشة نقابة المحامين فإنها لم تسفر عن تقدم في مشاركة كل الأطراف، من هنا فإن التوافق النهائي يبدو أنه مازال بعيدا.
ومن المعطيات أيضا أن التقارب المصري مع ما سمي بالكتلة الديمقراطية التي يشارك فيها قسم من الحزب الاتحادي لم تساهم واقعيا في عرقلة التوافق السوداني وذلك بحقيقة أن هذه الكتلة قوامها فصائل مسلحة درافورية انشقت عن تحالف الحرية والتغيير المركزي أولا وساهمت في دعم المكون العسكري وحالة التلاسن السياسي بينها وبين قيادات “قحت” مشهودة ولا تحتاج لأية أدلة إضافية.
أما المعطى الأساسي فهو أن استمرار الجمود السياسي السوداني ينذر بأخطار كبيرة معظمها مرتبط بإمكانية تفكك السودان وتصاعد التهديدات الأمنية الإقليمية نتيجة لذلك وهو أمر يلقي بأثقال كبيرة على الأمن القومي المصري خصوصا مع النزوح السوداني الكبير نحو مصر.
في هذا السياق فإن المجهود المصري الراهن يتطلب في ظني خلال المرحلة القادمة أمرين: الأول، هو على المستوى الداخلي، أي التعامل بجدية مع مخاوف قوى الحرية والتغيير المركزي بشأن وجود قوى سودانية قد تحالفت سابقا مع المكون العسكري يمكن أن يكون لها تمثيل سياسي في المرحلة القادمة قد يعوق القدرة لتحقيق تحول ديمقراطي له مصداقية ويكون تعبيرا حقيقيا عن طموحات الثورة السودانية ومتطلبات الشباب السوداني الذي مازال ينخرط في احتجاجات مجدولة في الشارع السوداني.
أما الأمر الثاني فهو في الاتجاه الدولي والإقليمي حيث نجحت القاهرة أن تثبت أنها عصية على الإقصاء من المعادلة السودانية، ويكون عليها في هذه المرحلة تقديم الحلول اللازمة لبلورة التوافق السوداني الداخلي من جهة، وترتيب توافق إقليمي ودولي بهذا الشأن بحيث يتم مراعاة المصالح الحيوية لدول الجوار المباشر للسودان وعلى رأسها مصر.
أما على جانب تحالف الحرية والتغيير فإنه قد يكون من المطلوب التفكير في آليات جديدة لتوسيع وزن وقدرة مكوناته السياسية بحيث يكون تمثيلها التشريعي وفي الحكومة المدنية القادمة وازنا ضد أي قوي شمولية وربما يكون عنوان ذلك كله هو التحلي بالأفق الوطني العام وليس الأفق السياسي الضيق الذي هدد المسار الثوري السوداني ومايزال.
وأخيرا فإنه يبدو أننا كنخب مصرية وسودانية مستقلة في حاجة أكثر من أي وقت مضي لبلورة نوع من أنواع الحوار الموازي للمجهودات الرسمية، ولكن بعيدة عنه، وذلك بشأن إجراءات لبناء الثقة بعدما كثرت في الفضاءات سموم الأفاعي المعادية لوجود وتفاعل مصري في السودان، والتفكير في كيفية إنتاج تمثيل سياسي في الهياكل الانتقالية يكون كفيلا بتحقيق فترة من التقاط الأنفاس عساها تفضي إلى بلورة بيئة سياسية عادلة لكل الأطراف ومنتجة لانتخابات مؤسسة لاستقرار سياسي طويل الأمد في السودان لا يعادي المصالح المشتركة لشعبي وادي النيل.