في إسرائيل، تبدو ملامح الشقاق والانقسام المجتمعي آخذةً في الازدياد نتيجة الأزمة السياسية الحالية، وما تحمله من نُذر صراع أهلي حال استمرت على جمودها. ولكن الأخطر بالنسبة للكيان المحتل كان ارتفاع موجة العصيان داخل المؤسسات العسكرية والأمنية الاستراتيجية، والتي انتهى أحد فصولها بإقالة وزير “الدفاع” يوآف جالانت.
بعد القرار اشتعلت الشوارع في تل أبيب بمئات الآلاف من المتظاهرين، وتعرض منزل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو للحصار، ورفع الجيش حالة التأهب بعد فقدان السيطرة. فيما صرح رئيس الوزراء الأسبق نفتالي بينيت بأن “إسرائيل تعيش أكبر خطر يهدد وجودها منذ 1973”.
وتحت هذا الضغط الكبير، اضطر نتنياهو لإعلان تعليق خطة الإصلاح القضائي -التي أشعلت الاحتجاجات- قائلًا إنه “من أجل منع حدوث انشقاق في شعبنا، قررت تعليق التصويت.. من أجل محاولة الوصول إلى تفاهم بشأن التشريع خلال جلسة الكنيست المقبلة”. وأضاف أنه يريد تجنب حرب أهلية، وحذر من أن المجتمع الإسرائيلي “يسير في مسار تصادمي خطير”.
أخطر أزمة منذ إنشاء الكيان
تقول مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية إن إسرائيل تمر حاليًا بأخطر أزمة دستورية وسياسية منذ إنشائها قبل 75 عامًا. إذ واجهت أزمتين خطيرتين مترابطتين: العصيان داخل الجيش وانخفاض عدد الملتحقين بالخدمة العسكرية.
وخلال الأسابيع الماضية، أعلن مئات الضباط وجنود الاحتياط في سلاح الجو والوحدات الخاصة والاستخبارات الإسرائيلية، أنهم لن يخدموا في وحداتهم حال تمرير خطة رئيس الوزراء، نتنياهو، المثيرة للجدل التي تضعف سلطات القضاء إلى حد بعيد. وتشير “فورين بوليسي” إلى وجود أكثر من 20 مبادرة من قبل جنود الاحتياط، أو حتى المحاربين القدامى.
“العديد من المسئولين الأمنيين المتقاعدين رفيعي المستوى، بما في ذلك رئيس الموساد (الاستخبارات الخارجية) السابق تامير باردو، ورئيس الشاباك (الأمن الداخلي) السابق نداف أرجمان، تحدثوا بقوة ضد الإصلاحات، مما يشير إلى وجود معارضة عميقة داخل الأجهزة الأمنية لمثل هذه التغييرات الهائلة دون دعم شعبي واسع”، تلفت المجلة الأمريكية.
وتضيف أن السؤال عن كيفية تأثير نقاش سياسي داخلي حول الإصلاحات القضائية، على استعداد إسرائيل العسكري وأمنها الإقليمي هو الآن في المقدمة.
دفع ذلك بعض المحللين الإسرائيليين للقول إن كيانهم أظهر -عبر أجهزته الأمنية- استعدادًا لـ”انقلاب عسكري هادئ” حتى وإن لم يحدث. وذلك الاستعداد تجسد في الرسائل التي مررها رؤساء الأجهزة الأمنية “التي بدونها لا يمكن أن ينجح انقلاب”، وهي الجيش والشرطة والاستخبارات، عبر إعلان معارضتهم لخطة “الإصلاح القضائي” التي يُنظر إليها كأكبر تهديد لـ”ديمقراطية” إسرائيل.
ماذا حدث؟
لأكثر من 12 أسبوعًا، مازال عشرات الآلاف من المتظاهرين الإسرائيليين في الشوارع احتجاجًا على خطة نتنياهو وائتلافه المتطرف المُسماة “الإصلاح القضائي” والتي تُضعف من صلاحيات المحكمة الإسرائيلية العليا وتتدخل في تعيين أعضائها.
وتحمل خطة نتنياهو دافعًا شخصيًا إذ يواجه المحاكمة في ثلاث تهم فساد مختلفة. وإذا أدين، فقد يواجه عقوبة السجن. أما شركاؤه الآخرون في الائتلاف -الأحزاب الأرثوذكسية المتطرفة- فتسعى إلى استغلال وضعه للحصول على إعفاء كامل من الخدمة العسكرية لعشرات الآلاف من أتباعها من طلاب المدارس الدينية.
والأزمة السياسية امتدت تأثيراتها إلى صفوف الأجهزة العسكرية.
يوم 23 مارس/آذار الجاري، أبلغ مئات من جنود الاحتياط من وحدات مختلفة وحساسة بالجيش الإسرائيلي قياداتهم بأنهم لن يستجيبوا لاستدعاء الخدمة؛ اعتراضًا على مُضي حكومة نتنياهو قُدُمًا في خطط تعديل النظام القضائي.
وأفاد تقرير في صحيفة “هآرتس” أن الجيش الإسرائيلي لاحظ انخفاضًا كبيرًا في عدد القوات البرية التي تلتحق بخدمة الاحتياط. ففي وحدة النخبة “لواء المظليين 551″، التحق 57% فقط من جنود الاحتياط بالخدمة ذلك الأسبوع، مقارنة بنسبة الإقبال المعتادة والتي تبلغ 90%.
وتوقعت وحدة النخبة نسبة إقبال تبلغ 78% بين 700 من جنود الاحتياط التابعين لها، لكن المسئولين العسكريين شعروا بالفزع عندما علموا أن نطاق الاحتجاج قد ذهب إلى أبعد مما توقعوا. وقال مصدر عسكري للصحيفة إن نسبة الالتحاق المنخفضة هي مؤشر على ما سيحدث في المستقبل إذا مضت الحكومة قُدمًا بخطتها.
كما ذكرت القناة 12 العبرية أن 150 ضابطًا وجنديًا في “الوحدة 8200″، التابعة لشعبة الاستخبارات العسكرية، أبلغوا الجيش بأنهم يعتزمون إلغاء عقودهم إذا تم تمرير الإصلاح القضائي.
وأفادت القناة ذاتها أن 700 جندي احتياط في لواء “ناحل” (أحد وحدات النخبة) بعثوا برسالة إلى وزير الدفاع يوآف جالانت (قبل إقالته)، ورئيس الأركان هرتسي هليفي، يحثوهما فيها على بذل كل ما في وسعهما لوقف خطة الإصلاح القضائي. وكتب الجنود “هذا انتهاك للعقد الاجتماعي. ليست هذه هي طريقة دولة إسرائيل”.
وانضم إليهم 100 من ضباط القوات المدرعة الذين تم تسريحهم مؤخرًا، وكتبوا رسالتهم إلى قادة الأمن يحذرون فيها من أن “بعضنا سيتوقف عن الالتحاق بخدمة الاحتياط إذا مر الانقلاب”. وفي رسالة أخرى، أعلن 100 من كبار ضباط الاحتياط في سلاح الجو الإسرائيلي عن نيتهم التوقف عن الالتحاق بالخدمة غير الطارئة بسبب الخطة.
والقائمة لم تتوقف في باقي الوحدات. إذ انضم هؤلاء إلى 180 طيارًا، و50 مراقب حركة جوية، و40 مُشغل طائرات مُسيرة، وفقًا لما حصرته صحيفة “تايمز أوف إسرائيل“.
وذكرت القناة 12 أن الطيارين الذين أعلنوا عن تجميد خدمتهم في الاحتياط، هم طيارون حربيون كبار ويقودون غارات جوية “لا تعترف إسرائيل علنًا أنها هاجمتها”، مثل سوريا. ويعتبرون “طيارون نشطون جدًا ويشاركون في تدريبات وعمليات عسكرية أسبوعيًا”.
وذكرت إذاعة الجيش أن قادة رفيعي المستوى في الجيش أعربوا عن مخاوفهم من أن الاتجاه المتزايد لجنود الاحتياط الذين يرفضون الخدمة احتجاجًا على الإصلاح القضائي الذي تخطط له الحكومة “قد يُضعف القدرات العملياتية للقوات المسلحة في غضون شهر”.
بالإضافة إلى ذلك، أعرب جنود عن خشيتهم من أن انعدام الثقة الدولية باستقلالية القضاء الإسرائيلي قد يعرضهم للملاحقة القضائية في المحافل الدولية بسبب أفعال أُمروا بتنفيذها خلال خدمتهم العسكرية.
صدام قادة الأمن مع نتنياهو
دفع هذا العصيان، وزير “الدفاع” جالانت ورئيس الأركان هيرتسي هليفي، ورئيس الشاباك، رونين بار، ورئيس الموساد، ديفيد بارنيا، إلى محاولة إثناء نتنياهو عن خطته عبر تقديم تقارير تشير إلى الغليان في الشارع الإسرائيلي وداخل الجيش وأجهزة الأمن.
ونقلت الإذاعة العامة الإسرائيلية “كان” عن مصادر قولها إن التخوفات ليست من احتجاجات عناصر الاحتياط، وإنما من حالة الغليان المتصاعدة في أوساط الذين يخدمون في أجهزة الأمن. والرسالة التي جرى نقلها إلى نتنياهو تفيد بأن الاحتجاجات ستتصاعد وأن الجيش الإسرائيلي يتخوف من المس بقدراته وانتشار العصيان بين صفوفه.
رغم ذلك، في 19 مارس/آذار، طالب نتنياهو الجيش علنًا باتخاذ خطوات حازمة ضد “الرافضين”، بينما حث الشرطة على التصرف بعدوانية ضد “المتظاهرين العنيفين”. ومع ذلك، فإن الجيش لا يملك أي خيار، وفق “فورين بوليسي”. إذ لا يمكنه سجن الرافضين لأنهم متطوعون، ولا يمكنه طردهم لأنه سيكون من الصعب جدًا العثور على أي شخص لديه خبرة ليحل محلهم.
وهنا، أبلغ رئيس الأركان، هاليفي، وفقًا لإذاعة “كان”، نتنياهو في اجتماع أن الجيش لديه خط أحمر لن يعبره. ويجب على الحكومة إيقاف تشريع الإصلاح القضائي “قبل أن نصل إلى هناك”. كان هذا تهديدًا واضحًا من قبل رئيس الجيش ضد المسئول المنتخب الأعلى في البلاد، بتعبير صحيفة “jewish press“.
وفي 26 مارس/آذار، دعا وزير “الدفاع”، الحكومة لوقف مشروع قانون التعديلات القضائية، قائلًا إن الخلاف المحتدم بشأنه في إسرائيل يمثل خطرا على أمن البلاد. وقال جالانت في بيان مقتضب “يتسرب الانقسام الداخلي المتفاقم إلى مؤسسات الجيش والدفاع، هذا خطر واضح ومباشر وحقيقي لأمن إسرائيل”.
تقول وكالة “رويترز” إن موقف جالانت كان أول اعتراض علني واضح من عضو بارز في الحكومة. لاحقًا، انضم إليه ثلاثة نواب آخرون في حزب “الليكود” الحاكم، المُنتمي إليه جالانت.
وقال إيتمار بن جفير، وزير الأمن القومي من اليمين المتطرف، إن جالانت رضخ لضغوط المعارضة. بينما أشاد زعيم المعارضة يائير لابيد “بالخطوة الشجاعة”، وقال إنه مستعد لإجراء محادثات حول التعديلات بمجرد أن توقف الحكومة مشروع القانون.
وخلال الأسابيع الأخيرة، دخل بن جفير في صراع مع كبار ضباط الشرطة حيث طالبهم باتخاذ موقف أكثر عدوانية تجاه المتظاهرين.
وعند هذا المنعطف وفي اليوم التالي مباشرةً، اتخذ نتنياهو قرارًا سريعًا بعزل جالانت من منصبه، وأبلغه أنه فقد الثقة به بعد أن عمل ضد الحكومة وضد التحالف بينما كان كان رئيس الوزراء في الخارج (لندن)، وخرب جهود التوصل إلى حل، بحسب بيان مكتب رئيس الوزراء.
ولنتنياهو وحلفائه 64 مقعدًا من إجمالي مقاعد الكنيست البالغ عددها 120. لكن وجود معارضة من داخل الليكود ألقت بظلال الشك على ما إذا كان هذا التصويت، سيجري من الأصل.
وقد وصف موقع “والا” العبري، خطوة نتنياهو بأنها “أحد أكثر التحركات المخيفة والصادمة التي اتخذها رئيس وزراء إسرائيلي منذ قيام الدولة”، مشيرًا إلى أنه “فقد إحساسه بالواقع وأصبح ديكتاتورًا”. وأن الإقالة جاءت في “أكثر الفترات الأمنية حساسية التي مرت بها إسرائيل منذ سنوات”.
ولفتت تقارير إلى أن عشرات الآلاف من جنود الاحتياط الآخرين اقتنعوا بأنه لم يعد من الممكن الوثوق بحكم القيادة، ويفتح الباب أمام مزيد من الانشقاقات في حزبه ما يهدد استمرارية حكومته.
وفي خطوة نادرة، أعلنت نقابة العمال الإسرائيلية إضرابًا عامًا في جميع أنحاء البلاد. ونتيجة للإضراب، تم إغلاق مطار إسرائيل الدولي والمدارس، وبدأت المستشفيات في التعامل مع الحالات الطارئة فقط.
وبناء على كل هذه الضغوطات والاحتجاجات والانشقاقات المحتملة، اضطر نتنياهو لتأجيل خطته والدخول في حوار مع المعارضة “من أجل التوصل إلى إجماع واسع حول خطة الإصلاح القضائي”. وأضاف “سنقوم بإصلاح من شأنه أن يعيد التوازن بين مختلف فروع الحكومة مع تعزيز الحريات المدنية”.
“لا ديمقراطية مع الاحتلال”
“لن يكون من المبالغة وصف هذه الأيام بأنها الأكثر مصيرية في عصر إسرائيل الحديث”، يقول موقع “المونيتور“.
بينما تعتبر “فورين بوليسي” أنه لسنوات، كان ينظر إلى إسرائيل من قبل الأصدقاء والأعداء على حد سواء على أنها أقوى قوة عسكرية في الشرق الأوسط. ولكنها الآن “تواجه تهديدًا داخليًا شبه وجودي، قد يعطي بعض الأفكار لخصومها”.
وتوضح أن أعداء إسرائيل يراقبون الأزمة الداخلية وهي تتكشف ويستخلصون استنتاجاتهم الخاصة حول قدرة الدولة واستعدادها للانخراط في المعركة، إذا لزم الأمر. “في ظل الظروف الجديدة، وكما يعلم الإسرائيليون من التجربة، غالبًا ما تندلع الحرب في الشرق الأوسط عندما لا يخطط أحد لبدئها”.
من زاوية أخرى، تلفت مايراف زونسزين، محللة الشؤون الإسرائيلية والفلسطينية في مجموعة الأزمات الدولية، إلى التناقض داخل بنية الحكم الإسرائيلية وما تدعيه من إيمان بالديمقراطية. وتقول إن عملية وضع قوانين جديدة لخدمة مصالحها على الأرض -في إشارة لخطة الإصلاح القضائي- هو بالضبط ما تفعله إسرائيل منذ 56 عامًا كقوة محتلة في الضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة ومرتفعات الجولان السورية.
فمن خلال خبرائها العسكريين والقانونيين، وضعت دولة الاحتلال “إطارًا قانونيًا جديدًا ومتميزًا تمامًا” لتنفيذ حكم عسكري طويل الأمد على السكان المحتلين بما يتماشى مع “سيادة القانون”، وبتصريح من المحكمة العليا. “تتجاهل الاحتجاجات غير المسبوقة التي تجري في جميع أنحاء البلاد هذه الحقيقة إلى حد كبير”، تشير زونسزين.
إذ يقول المحتجون -بما يشمل فئات وطبقات مختلفة- إنهم خاطروا بحياتهم من أجل دولة “يهودية وديمقراطية” وأنهم لن يتعاونوا مع الدولة إذا لم تعد ديمقراطية. لكن الاحتلال العسكري الإسرائيلي الذي دام 56 عامًا (تُرجع الباحثة بداية الاحتلال من عام 1967 وفقًا للقانون الدولي وليس 1948) تجاهل بشكل منهجي مبادئ الديمقراطية والمساواة التي يقولون إنهم يقاتلون من أجلها.
وتضيف أنه بينما المتظاهرين -وكثير منهم من الأكثر حظًا في المجتمع الإسرائيلي- يسيرون في الشوارع مطالبين “بسيادة القانون” و”الديمقراطية”، تهدم القوات الإسرائيلية منازل الفلسطينيين، وتقف إلى جانب المستوطنين الذين يرهبون الفلسطينيين.
بالإضافة لإنكار حرية الحركة والتجمع، واحتجاز الأشخاص لفترات طويلة دون محاكمة، وقتل المتظاهرين العزل، وممارسة التعذيب، وترحيل النشطاء الفلسطينيين. بينما داخل إسرائيل، يواجه المواطنون الفلسطينيون تمييزًا هيكليًا وعدم مساواة في ظل سياسة صريحة تعطي الأولوية لحقوق اليهود. لذا فإنه بالتأكيد “لا ديمقراطية مع الاحتلال”.