في عام 1971 وحينما كان في العاشرة من عمره، شاهد محمد بن زايد حُكم والده يتحول من إدارة إماراة واحدة إلى سبع إمارات اتحادية. وفي السنوات التالية شاهد كيف أدار الوالد بذكاء مخاطر أن تكون مطمعا لجارتين قويتين كالسعودية وإيران.. وحينها تعلم الدرس الأول: أن تصبح ذي فائدة استراتيجية لقوى أكبر تحميك لحماية مصالحها.
وفي شبابه أظهر ملامح ذكائه لوالده فيما تعلق بلعبة الحكم: نصحه بمد يد السخاء للأمريكيين خلال حرب الخليج الثانية عام 1991. وبعد سنوات سبع بات فيها رئيسا لأركان القوات المسلحة شاركت بلاده لأول مرة بقوة عسكرية خارجية. كان ذلك في كوسوفو وكانت المهمة حفظ السلام.. ومن ثم بدأ مهمة التطوير العسكري التي ستصبح لاحقا اليد الطولى لأهدافه الخارجية.
تقدم خطوة تلو أخرى في مناصبه ونفوذه وصاغ رؤى تنموية واقتصادية طموحة. أعوام قليلة مضت حتى صار وليا للعهد مع وفاة والده عام 2004. مضت أعوام أخرى أقل حتى صار الممسك بكل الزمام مع المرض العضال الذي أصاب الحاكم، أخيه خليفة. وحينها أطلق يده وطموحه لتشكيل المنطقة من جديد، وفقا لأفكاره ورغباته ومخاوفه المتصورة.. والأكيد أنه حلم -ولا يزال- بأن تكون بلاده القوة الأكبر في المنطقة. وفي سبيل ذلك يبذل كل غالي ونفيس.
هكذا بإيجاز يمكن الحديث عن الرجل الذي تحول من حاكم فعلي إلى حاكم رسمي. الرجل الذي صنع نهضة اقتصادية محلية تتجاوز النفط، ورسم سياسة خارجية تعادي الديمقراطية وتنقلب على “اللاءات” العربية: محمد بن زايد، الرئيس الثالث لدولة الإمارات العربية المتحدة والحاكم السابع عشر لإمارة أبو ظبي.
البداية: كن مفيدا
في الأكاديمية الملكية بالرباط بالمغرب بدأ محمد تعليمه حيث درس هناك حتى سن العاشرة، ثم عاد إلى مدينة العين في أبو ظبي ليواصل دراسته. وأمضى صيفًا واحدًا في مدرسة “جوردونستون”، وهي مدرسة مستقلة مختلطة التعليم في اسكتلندا قبل أن يتخرج من أكاديمية “ساند هيرست” الملكية العسكرية البريطانية عام 1979.
وسرعان ما ترقى في الرتب ليصبح قائدًا للقوات الجوية ونائبًا لرئيس الأركان ثم رئيسًا للأركان في يناير 1993، وبعد عام تمت ترقيته إلى رتبة فريق. وقد تزامن ذلك مع مشاركة بلاده في عملية “استعادة الأمل” في الصومال، التي قادتها الأمم المتحدة في عام 1992، وفي جهود الوساطة التي بذلها أيضا عندما اندلعت الحرب الأهلية في اليمن في عام 1994.
تقول مجلة “ذا ويك” البريطانية إن محمد بن زايد، تلقى إعجاب المسؤولين الأمريكيين في وقت مبكر عندما أقنع والده بدفع 4 مليارات دولار للولايات المتحدة في عام 1991 للمساعدة في تمويل حرب الخليج. وعلى الصعيد الدولي أشرف بن زايد على مهمة حفظ السلام في كوسوفو بقيادة “حلف الناتو” عام 1998 إذ شاركت فرقة إماراتية قوامها 1200 جندي في عمليات حفظ السلام في القطاع الذي تسيطر عليه فرنسا في كوسوفو، بينما تمركز 250 جنديًا إماراتيًا إضافيًا، بما في ذلك القوات الخاصة، في القطاع الأمريكي.
وفي حديثه عام 2000، أشار محمد بن زايد صراحةً إلى أهمية مشاركة الإمارات إلى جانب قوات الناتو في عمليات تحقيق الاستقرار بعد الصراع في كوسوفو؛ وقال إن المهمة “تقدم لقواتنا خبرة عملية حقيقية وفرصة للعمل عن كثب والاندماج مع أفضل الجيوش في العالم”.
في العام التالي وبعد الغزو الأمريكي، عام 2001، أرسلت الإمارات قوات إلى أفغانستان حيث شاركت بكثافة في الأعمال الإنسانية، مثل تقديم المساعدات والمعونات الطبية، بالإضافة إلى الدعم الجوي القتالي للقوات الأمريكية وقوات الناتو. وقد فاز أداؤهم في أفغانستان بإعجاب المؤيدين الأقوياء في واشنطن العاصمة، بحسب “المركز العربي في واشنطن“. وهو ما تجلى في اللقب الشهير الذي أطلقه الجنرال جيمس ماتيس “سبارتا الصغيرة”.
وخلال الفترة الفاصلة بين عمليات الانتشار في كوسوفو وفي أفغانستان وقعت هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول في الولايات المتحدة، حيث كان اثنان من الإماراتيين من بين الخاطفين التسعة عشر. يضيف المركز “لقد كان محمد بن زايد من نظم معظم الاستجابات السياسية لبلاده لأحداث 11 سبتمبر/أيلول، وفي بعض الحالات في مواجهة شكوك والده، وآخرين من جيله”.
عمل بن زايد عن كثب مع نظرائه الأمريكيين بطرق تجاوزت منصبه الرسمي في ذلك الوقت كرئيس للأركان. وقد ذكر دبلوماسي أمريكي أن محمد بن زايد “نظر حوله ورأى أن العديد من جيل الشباب في المنطقة منجذبون بشدة لشعار أسامة بن لادن المناهض للغرب”. يشير الدبلوماسي “قال لي ذات مرة: إذا كان بإمكانهم فعل ذلك بكم، فيمكنهم فعل ذلك بنا”.
وتلك الخطوات كانت “مقدمة لترقيته اللاحقة في خط الخلافة” كنائب لولي عهد أبو ظبي في 2003، وولي العهد عندما توفي والده، عن عمر ناهز 86 عامًا، في اليوم الذي أعيد فيه انتخاب جورج دبليو بوش رئيسًا للولايات المتحدة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2004.
المنعطف: السلطة في جعبتك
على الرغم من أنه، على الورق، لم يكن محمد بن زايد يشغل أي منصب رسمي داخل الحكومة الفيدرالية الإماراتية، وكان أخوه الأكبر غير الشقيق، الشيخ خليفة رئيسًا للدولة وحاكمًا لإمارة أبوظبي منذ عام 2004، إلا أن الأول أصبح مركز النفوذ والسلطة بحكم الواقع، أولاً داخل أبو ظبي نفسها، ثم في جميع أنحاء الإمارات.
وكنائب للقائد الأعلى للقوات المسلحة، كان له الفضل في تحويل الجيش الإماراتي إلى واحد من أكثر القوات المسلحة فعالية في العالم العربي، وفقًا للخبراء الذين يقولون إنه أقام الخدمة العسكرية “لغرس القومية بدلاً من الاستحقاق بين السكان الميسورين”.
في مذكرة عام 2009 إلى الرئيس الأمريكي آنذاك باراك أوباما، سربها موقع ويكيليكس، قال السفير الأمريكي السابق ريتشارد أولسون إنه “الرجل الذي يدير الإمارات العربية المتحدة”. وتم تسهيل هذه العملية من خلال قاعدته القوية داخل الأسرة الحاكمة باعتباره الأكبر سنًا من بين ستة أشقاء جاءوا لشغل مناصب رئيسية في الحكومة الفيدرالية.
بالإضافة إلى ذلك، تعزز دوره من خلال حقيقة أن الشيخ خليفة عانى بشكل متزايد من مشاكل صحية خطيرة استمرت فترة طويلة ولكنها بلغت ذروتها في سكتة دماغية أدت لانسحابه من الحياة العامة في عام 2014.
وتحت قيادت محمد بن زايد “كرئيس تنفيذي”، بتعبير صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية، باتت الإمارات “أكثر حزماً وتأثيرًا، مستندة على الأسس التي وضعها الشيخ زايد. وخطت خطوات كبيرة في الاقتصاد والتعليم والتنمية والحوكمة والثقافة والإعلام والصحة والجغرافيا السياسية”.
في عام 2004، أشارت برقية دبلوماسية أمريكية إلى أن “محمد بن زايد ومحمد بن راشد (حاكم دبي) لديهما القدرة على رؤية الصورة الأكبر ولديهما رؤى متوافقة لتنمية البلاد”. وقد عمل الثنائي معًا بشكل وثيق منذ التسعينيات كرئيس للأركان ووزير للدفاع على الترتيب. ومع ذلك، بدت دبي أحيانا كما لو أنها تتبع أجندتها السياسية المنفصلة عن جدول أعمال أبو ظبي.
لكن الأزمة المالية العالمية عام 2008 التي ضربت دبي بشدة وأوصلت ديونها إلى 140 مليار دولار فتحت الباب أمام بن زايد وأبو ظبي لتقوية النفوذ بعد مساعدة الإمارة، التي يحكمها آل مكتوم، عبر عدة قروض. وإعادة التسمية المفاجئة لأطول مبنى في العالم من “برج دبي” إلى “برج خليفة” كانت أبرز مظاهر النفوذ الجديد لأبو ظبي على دبي -وفقا للمركز العربي- لتشهد السنوات التالية “خسوف دبي وحاكمها من على المسرح الوطني الفيدرالي”.
تقول “بلومبيرج” إن بن زايد ساعد في صقل صورة الإمارات كواحة ليبرالية اجتماعية ومؤيدة للأعمال في منطقة مضطربة مع الحفاظ على قبضة محكمة على المعارضة وتغطية الدولة بمراقبة عالية التقنية.
بينما تذكر “ذا ويك” أن الإمارات أكثر تسامحًا من كثير من الدول العربية “على عكس المملكة العربية السعودية، فهي تسمح للعمال الأجانب بالعبادة في الكنائس المسيحية والمعابد الهندوسية. تتمتع المرأة بحقوق أكثر مما تتمتع به دول الجوار؛ ثلث أعضاء مجلس الوزراء الإماراتي من النساء”. ولكن تلك القشرة أخفت جزءا مما تحتها وهو أنها “لا تتمتع بحرية صحافة ولديها سجل بشع في إساءة معاملة المهاجرين الآسيويين ذوي الأجور المنخفضة الذين بنوا وعملوا في مدن مثل أبو ظبي ودبي. بينما قمع محمد بن زايد المعارضة المحلية”.
الربيع العربي: إطلاق اليد
مع انطلاق ثورات الربيع العربي عام 2011 تولى محمد بن زايد زمام المبادرة في سياسة الأمن الداخلي التي لا ترحم. وقاد السياسة الخارجية التي أعادت تشكيل التحالفات في الشرق الأوسط وصدت سياسات الإسلاميين و”استخدم موارد بلاده العسكرية والمالية لإحباط ظهور اتجاهات ديمقراطية في المنطقة، وكل ذلك تحت ستار محاربة التطرف الإسلامي”، وفق “فوربس“.
كان محمد بن زايد -الذي تأثر بالإخوان المسلمين في شبابه- يعتقد أن الإسلاميين المحليين لديهم مخططات للسلطة السياسية داخل الإمارات ويشكلون تهديدًا لرؤيته العلمانية لنموذج التنمية الإماراتي. وقد قال ذات مرة إن “الشرق الأوسط ليس كاليفورنيا”، في إشارة للرفض المبدئي للديمقراطية.
“أنا عربي ومسلم وأصلي. وفي السبعينيات وأوائل الثمانينيات كنت واحدًا منهم”، قال بن زايد ذلك في اجتماع عام 2007 مع المسؤولين الأمريكيين. وأضاف “أعتقد أن هؤلاء الرجال لديهم أجندة”.. ولذلك لم يكن ليسمح بأي محاولة معارضة في بلاده.
قمع الليبراليين بشدة واعتقلهم وعذبهم في 2011 و2012. ثم أجبرهم على توقيع “وعود مذلة” بأنهم لن يجرؤوا على المطالبة بالديمقراطية مرة أخرى. وعندما تم الإفراج عنهم، فعل الكثير منهم ذلك بالضبط. وبعدها أصدر قوانين مكافحة الإرهاب التي هدفت إلى إبقائهم في السجن أو المنفى إلى الأبد.
“كان القصد من ذلك أيضًا إرسال رسالة إلى جماعة الإخوان المسلمين في البلاد، والتي بدت في 2011-12 أنها قد تصبح الحزب السياسي الجديد في الشرق الأوسط. إذ وفّر وجود السلطة في مصر للإخوان منبرًا ضخمًا لنشر نفوذهم. ولم تكن الدعوة الإسلامية للإخوان المسلمين أبدًا من المعجبين بالممالك الخليجية. وقد لقيت صدى لدى الإماراتيين المستائين من النفاق الذي أحدثته التنمية على النمط الغربي”، بحسب مركز “أتلانتيك سينتينل” الأمريكي.
في كتابه “إعادة اختراع المشيخة: العشيرة والسلطة والمحسوبية في دولة الإمارات في عهد محمد بن زايد“، يشير البريطاني ماثيو هيدجز -الذي تعرض للاعتقال في الإمارات بسبب هذا الكتاب- إن استراتيجية بن زايد ركزت على استباق التهديدات من السكان الأصليين لبلده، وليس من المغتربين أو الجهات الفاعلة الأجنبية. ونتيجة لذلك، عزز سلطته ووزع إدارتها على حلفائه من القبائل والأقارب. إذ “في جوهره، دفع محمد بن زايد التحديث من أجل تعزيز قبضته على السلطة”.
وقد أيقن الرجل، الذي تخطى الآن العقد السادس من عمره، أن حكام دول الخليج العربي لم يعد بإمكانهم الاعتماد على داعمهم الرئيسي الولايات المتحدة، وفقًا للمبعوثة الأمريكية السابقة للإمارات باربرا ليف، خاصة بعد أن تخلت واشنطن عن حسني مبارك في مصر.
وظهر طموحه في السنوات الأخيرة لبناء مكانة بلاده كلاعب إقليمي. إلا أن النهج الذي اتبعه -ويتبعه- عرّض بلاده للتورط في صراعات إقليمية تبدو غير قابلة للفوز. بجانب سلوك السياسة الخارجية الذي يعتمد بشكل أكبر على الشخصيات بدلاً من المصالح المؤسسية المستقرة، بتعبير “المركز العربي“.
يقول مسؤول في وزارة الخارجية الأمريكية يعمل في إدارة الرئيس الحالي جو بايدن إن بن زايد “استراتيجي يجلب منظورًا تاريخيًا للمناقشات.. يريد أن يعرف ما الذي لا يعمل بشكل جيد، وليس فقط ما الذي يعمل”. ووفقًا لمذكرات أوباما فقد وصفه بأنه “الزعيم الخليجي الأكثر ذكاءً”.
الإفلات من الانتقادات
أنفق محمد بن زايد مئات المليارات من الدولارات على بناء “الجيش الأكثر تقدمًا في العالم العربي” -وفق “ذا ويك”- فالإمارات لديها ترسانة من الأسلحة الأمريكية. وجيش يقوده ضباط أميركيون سابقون يجتمعون مع مرتزقة من كولومبيا وجنوب إفريقيا وآخرين؛ وجهاز استخبارات عالي التقنية شكله جواسيس أميركيون سابقون.
وتلفت المجلة البريطانية إلى أنه استخدم الجيش بحرية، وشن حربا إلى جانب السعوديين ضد المتمردين الحوثيين المدعومين من إيران في اليمن. وفي ليبيا، انتهك الحظر الذي فرضته الأمم المتحدة بإرسال أسلحة ودعم جوي ومقاتلين سودانيين إلى خليفة حفتر. وفي سوريا، سعى لمساعدة الديكتاتور بشار الأسد في حربه على المتمردين الإسلاميين المدعومين من تركيا. كما أنه يعتبر القوة الحقيقية وراء صعود ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، الحاكم الفعلي للمملكة.
يشير ويليام هارتونج، مدير مشروع الأسلحة والأمن في مركز السياسة الدولية، إلى أن أحد أسباب إفلات الإمارات من انتقادات أكبر هو أن لديها واحدة من أقوى جماعات الضغط في واشنطن، كما وثق بن فريمان من مبادرة شفافية التأثير الخارجي. وفي عام 2018 وحده، أنفقت أكثر من 20 مليون دولار على 20 شركة ضغط منفصلة. وشاركت هذه الشركات في أكثر من 3 آلاف نشاط ضغط منفصل، بما في ذلك اجتماعات مع أعضاء الكونجرس ووسائل الإعلام ومراكز الفكر المؤثرة.
يقول هارتونج إن محمد بن زايد لا يزال رقما نادرا في الشرق الأوسط: زعيم ذكي ذو ميول علمانية لديه مخطط من نوع ما لمستقبل المنطقة والموارد اللازمة لتنفيذه. وعلى الرغم من كل عيوبه، فإن البدائل تبدو قاتمة بشكل متزايد. إلا أن أول شيء يجب ملاحظته هو أنه إلى الحد الذي يبدو فيه مستقبل الخليج العربي والشرق الأوسط الأوسع قاتمًا، كان محمد بن زايد حتى الآن جزءًا من المشكلة، وليس جزءًا من الحل. إنه ديكتاتور في النهاية.