احتجاجا على قانون «حظر الحجاب» شهدت إيران قبل نحو 9 عقود انتفاضة ضد سياسات الشاه رضا بهلوي الذي فرض على الإيرانيات نزع الحجاب ومنعهن من ارتداء الزي النسائي التقليدي والمعروف بالشادو باعتباره «مظهرا من مظاهر التخلف».
كان بهلوي قد أُبهر بالنموذج العلماني الذي أقره صديقه مصطفى كمال أتاتورك مؤسس تركيا الحديثة في بلاده، وحاول الشاه استنساخه في إيران وسعى إلى فرض تغييرات جذرية على بنية مجتمعه المحافظ، ما أدى إلى صدام مع علماء الدين الذين كان لهم سطوة في ذلك الوقت.
أصدر الشاه عددا من القوانين والقرارات وضعته في مرمى غضب فئات واسعة من المجتمع الإيراني، بدأها بسحب امتيازات رجال الدين ثم فرض التجنيد الإجباري وإلغاء التقويم الهجري، وصولا إلى قانون حظر الحجاب الذي صدق عليه مطلع عام 1936 وبادرت الشرطة في تنفيذه فشنت حملات لخلع الحجاب بالإجبار من على رؤوس النساء في شوارع المدن، وهو ما دفع عدد كبير منهن إلى البقاء في بيوتهن أو التحرك بالعربات لتجنب المواجهة مع الأمن.
تصاعدت الاحتقانات في المجتمع الإيراني، وتم التعبير عنها بمظاهرات حاشدة قادها رجال الدين الذين ظلوا يمثلون المرجعية الأعلى للإيرانيين للتنديد بمحاولات الشاه تغريب الدولة في وقت كانت معظم دول العالم الإسلامي تتمسك بتقاليدها الدينية المحافظة.
نُفي الشاه رضا بهلوي وتولى السلطة خلفا له ابنه محمد الذي قرر تخفيف الحظر الذي فرضه والده على الحجاب، وأصدر تعديلات على القانون الخاص به عام 1944، وشوهدت النساء مجددا في شوارع المدن الإيرانية يرتدين الشادور كما ترتدي آخريات الزي العصري.
مغالاة الشاه الأب في التعامل مع الحجاب أدت إلى تحوله لرمز سياسي لدى فئة كبيرة من الشباب الإيراني الذي اعتبروه وسيلة للتعبير عن رفض النظام الملكي بتسلطه واستبداده وفساده، وكان يكفي أن ترتدي الفتيات الزي التقليدي في الجامعات للتعبير عن معارضتهن لنظام بهلوي.
وعندما اندلعت الثورة على حكم آل بهلوي في نهاية سبعينيات القرن الماضي، انتشر الحجاب بصورة لافتة، وهو ما رآه البعض علامة على قرب سقوط ونهاية عصر الشاه، إلا أن أحدا لم يتوقع حينها أن يتم فرض الحجاب بقوة القانون، لكن ذلك ما حدث فمرشد الثورة الأول آية الله روح الله الموسوي الخميني الذي لم يكتف بعد نجاح الثورة بإقصاء شركائه من القوى المدنية بل أسكتهم إلى الأبد إما بالسجن أو الإعدام، قنن الحجاب وأصدر عام 1983 قانونا يفرض على النساء تغطية رؤوسهن وارتداء معاطف طويلة فضفاضة في الأماكن العامة.
وكلف نظام الخميني قوات الأمن وحرس الثورة بإنفاذ هذا القانون استنادا إلى مواد الدستور الديني الذي رفع قوات الجيش وحرس الثورة إلى مرتبة حراس العقيدة الذين يتحملون أعباء الرسالة الآلهية للدولة وهي «الجهاد في سبيل الله.. والنضال لبسط حاكمية القانون الآلهي في العالم».
فرض القانون الجديد عقوبات تعزيرية على عدم ارتداء الحجاب تتراوح بین الغرامة المالية، مرورا بالحبس من عشرة أيام إلى شهرين، وصولا إلى الجلد 74 جلدة، بحسب المادة رقم 638 في قانون العقوبات الإسلامية، وتولى قسم خاص بالشرطة متابعته وفرضه في الشوراع.
في عام 2006 شكل الرئيس الإيراني المحافظ أحمدي نجاد ما عُرف بشرطة الأخلاق أو «دوريات الإرشاد»، أوكلت إليها مهمة مراقبة الانضباط في الشارع وملاحقة النساء الغير ملتزمات بالزي المحتشم، انتهكت تلك الشرطة التي تماثل في مهامها هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي كان معمولا بها في المملكة العربية السعودية حقوق عشرات الآلاف من سيدات إيران.
خلال العقود الأربعة الماضية لم يتوقف نضال النساء والمجتمع الإيراني ضد قانون الحجاب، لكن في السنوات الأخيرة تحولت الاحتجاجات ضد «فرض الحجاب» إلى رمز للتمرد على سياسات نظام ولاية الفقيه، كما كانت الاحتجاجات قبل 86 عاما على «حظر الحجاب» رمزا لرفض سياسات الشاه.
الحجاب في الحالة الإيرانية «محظورا» أو «مفروضا» صار مدخلا للعصيان والتمرد السياسي، حظره بالقوة هيئ المناخ للخلاص من حكم آل بهلوي، وفرضه عنوة هز أركان نظام ولاية الفقيه.
رفض المجتمع الإيراني لفرض الحجاب ولممارسات قوات الأمن القمعية، تصاعد في الأسابيع الأخيرة وتحول إلى ثورة على نظام الحكم بعد مقتل الشابة الكردية الإيرانية مهسا أميني التي احتجزتها دوريات شرطة الأخلاق في سبتمبر الماضي بدعوى عدم التزامها بالزي المناسب، وبعد ساعات من احتجازها فارقت الحياة، لتندلع موجة احتجاجات عارمة انتقلت من مرحلة المطالبة بحل شرطة الأخلاق وإسقاط قانون الحجاب والعفة إلى الدعوة لإسقاط نظام ولاية الفقيه الذي اتخذ من الحجاب رمزا للجمهورية الإسلامية.
ومع بلوغ الاحتجاجات ذروتها بعد دخولها شهرها الثالث، ومع سريان دعوات الإضراب العام والعصيان المدني في البلاد، حاول النظام امتصاص الحالة الثورية التي تمددت في معظم المدن الإيرانية، وأعلن المدعي العام الإيراني محمد جعفر منتظري إلغاء «شرطة الأخلاق» مبدئيا من قبل السلطات المختصة، في الوقت الذي أعلن فيه البرلمان والمجلس الأعلى للثورة نيتهما بحث مسألة فرض الحجاب واتخاذ قرار بشأنها خلال أسبوعين.
في رد على سؤال طُرح عليه خلال مؤتمر ديني بمدينة قم قال منتظري إن «شرطة الأخلاق ليست لها علاقة بالسلطة القضائية ومن ألغاها هو مؤسسها». لم يُنظر إلى تصريحات منتظري باعتبارها قرارا، فالنظام الذي لا يقبل التنازلات أو حتى الحلول الوسط، لم يعلق على كلام المدعي العام الغامض عن «شرطة الأخلاق».
ورغم الدوي الهائل لتصريحات منتظري، إلا أنه يظل محل شكل حتى كتابة هذه السطور، فمنصات الإعلام الرسمية أو المحسوبة على نظام ولاية الفقيه تجاهلت نقله أو شككت في دلالاته، «أقصى استنتاج يمكن أن يستشفّ من كلام منتظري هو أنّ دوريات شرطة الآداب لم تكن مرتبطة ديناميكيا بجهاز القضاء منذ إنشائها»، قالت قناة «العالم» الرسمية الناطقة باللغة العربية، أما وكالة أنباء الطلبة الإيرانية فقالت إنّها اتصلت بمكتب العلاقات العامة لشرطة طهران الذين تهرب مسئولوها من الإجابة عن سؤال حول «دوريات الإرشاد».
المحلل البارز المتخصص في الشؤون الإيرانية أوميد ميماريان يرى أن «الإلغاء المفترض لشرطة الأخلاق الإيرانية لا معنى له إذ أنه بات غير ذي صلة بالفعل بسبب المستوى الهائل للعصيان المدني الذي تقوم به النساء والتحدي للقواعد المرتبطة بالحجاب».
وبحسب ما نقلت عنه وكالة «فرانس 24» وصف ميماريان الحجاب الإلزامي بأنه «أحد ركائز الجمهورية الإسلامية»، لافتا إلى أن «إلغاء هذه القوانين والهيكليات سيعني تغييرا جوهريا في هوية ووجود الجمهورية الإسلامية».
ورغم اختفاء أو انزواء «دوريات الأخلاق» عن شوارع المدن الإيرانية منذ أسابيع، إلا أن ذلك لم يمنع قوات أمن أخرى مثل «الباسيج» من ممارسة حملات توقيف للنساء غير الملتزمات بالحجاب، فيما لاتزال أصوات من داخل النظام تتصدى للدفاع عنه باعتباره رمزا للجمهورية الإسلامية.
«لن نتراجع عن سياسة الحجاب والعفة، وإلا فإن التراجع سيكون مساويا للتخلي عن كل الجمهورية الإسلامية»، قالها النائب البرلماني، حسين جلالي، خلال مشاركته في تظاهرة مؤيدة للحجاب بمدينة قم، مشددا على أن الحجاب هو عنوان النظام والدولة «الحجاب هو رايتنا ولن نسمح لها بالسقوط».
وفيما دعا المرشد الإيراني الأعلى، آية الله علي خامنئي، إلى «إعادة بناء ثورية للنظام الثقافي في البلاد»، نددت شقيقته بحملته القمعية على المحتجين في أنحاء البلاد ودعت الحرس الثوري لإلقاء السلاح، بحسب ما ورد في رسالة نشرها ابنها المقيم في فرنسا.
خامنئي قال خلال اجتماعه مع مجلس ثقافي تابع للدولة قبل أيام «من الضروري إحداث ثورة في البنية الثقافية للبلاد.. وعلى المجلس الأعلى مراعاة ضعف الثقافة في مجالات مختلفة في البلاد»، أما شقيقته بدري حسين خامنئي فانتقدت المؤسسة الدينية المسيطرة على البلاد منذ عهد الخميني وحتى حكم شقيقها بحسب ما ورد في الرسالة التي نشرت الأسبوع الماضي.
وكتبت بدري في رسالتها التي نشرها ابنها محمود مرادخاني على حسابه بـ«تويتر»: أعتقد أنه من المناسب الآن أن أعلن أنني أعارض تصرفات أخي وأعبر عن تعاطفي مع كل الأمهات اللائي يبكين بسبب جرائم الجمهورية منذ عهد الخميني إلى عصر الخلافة الاستبدادية الحالي، مضيفة: «مثل كل أمهات الإيرانيات، اللواتي يعشن الحداد، أشعر بالحزن أيضا لابتعاد ابنتي عني، فعندما يعتقلون ابنتي بالعنف، من الواضح أنهم يمارسون العنف آلاف المرات على أبناء وبنات الآخرين المضطهدين»، في إشارة إلى اعتقال ابنتها فريدة مرداخاني الشهر الماضي ضمن حملة شنتها قوات الأمن على نشطاء وناشطات بدعوى عمالتهم وتآمرهم مع قوى أجنبية.
ورغم دخول التيار الإصلاحي على خط معظم الاحتجاجات التي اشتعلت في إيران خلال العقود الماضية إلا أن أصوات رموز هذا التيار خفتت خلال الاحتجاجات الأخيرة التي اندلعت قبل 3 أشهر، حتى خرج الرئيس الأسبق محمد خاتمي قبل أيام منتقدا تعامل قوات الأمن مع المحتجين، وأعرب عن تأييده للحركة الاحتجاجية التي أشعلتها وفاة مهسا أميني، واصفاً شعارها الأبرز «امرأة، حياة، حرية» بـ«الرائع».
«يجب ألا يتم وضع الحرية والأمن في مواجهة بعضهما البعض»، وقال خاتمي (79 عاما) في بيان أودرته وكالة «إسنا» الإخبارية الأسبوع الماضي، مضيفا «يجب ألا يداس على الحرية من أجل المحافظة على الأمن وينبغي عدم تجاهل الأمن باسم الحرية».
ليس في المنتظر أن يسمع خامنئي لا لشقيقته ولا للرئيس خاتمي ولا لغيرهما من دعاة التغيير والإصلاح، فالنظام الإيراني الذي يحكم بالأمر الآلهي لا يقبل بالحلول الوسط ولن يبادر بتقديم تنازلات تُرضي المجتمع وتخفف من منسوب الغضب لا في قضية الحجاب ولا في غيرها من قضايا يعتبرها الملالي من ثوابت وأسس الجمهورية الإسلامية.
ولاية الفقيه المطلقة هي «الولاية في الأمور العامة المطلقة تثبت في جميع ما ثبت للمعصوم من السلطة على الأمة إلا ما استثناه الدليل»، على ما قال روح الله الخميني في كتابه «الحكومة الإسلامية»، وعليه فإن أي خروج على ولاية الفقيه هي خروج على الحكم الآلهي، والخارجون هم متمردون مفسدون في الأرض يطبق عليهم حد الحرابة لأنهم مدانون بارتكاب «جرائم ضد أمن الأمة والإسلام»، وهي الاتهامات الذي أدت إلى تنفيذ حكم بإعدام الناشط محسن شكاري صباح الخميس الماضي.