قبل عدة أشهر من نهاية ولايته الرئاسية ومغادرته البيت الأبيض، أدلى الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما بسلسلة مقابلات مع الصحفي في صحيفة “ذي اتلانتيك” جيفري جولدبرج، تحدث فيها عن موقفه من العديد من القضايا التي واجهت العالم ومنطقة الشرق الأوسط، وهاجم فيها دولا ذات دور محوري مثل المملكة العربية السعودية وشخصيات مهمة مثل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
جولدبرج الذي التقى أيضا عددا من كبار مسئولي أوباما بمن فيهم وزير خارجيته جون كيري، ومستشارة الأمن القومي سوزان رايس، ورئيس وكالة الاستخبارات المركزية جون برينان، لم ينشر المقابلة على شكل سؤال وجواب كما هو معتاد، بل نشر مقالا مطولا جمع فيه محصلة اللقاءات، واعتبرت تلك المقالة حينها أنها مراجعة كاملة وعميقة لسياسة الرئيس الأمريكي الخارجية وحملت عنوان “عقيدة أوباما”.
أثارت المقالة التي نشرت في مارس 2016، الكثير من الجدل، بسبب المواقف التي أظهرتها عن السياسة الخارجية للرئيس الأمريكي إزاء قضايا عدة وعلى رأسها ملفات الشرق الأوسط، مثل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والحرب في سوريا والعلاقات الأمريكية مع دول الخليج.
انتقد العديد من صناع السياسة في بلادنا والمعبرون عنهم في المنصات الإعلامية ما حملته المقال، فيما دافع كتاب ومراقبون أمريكيون عن “عقيدة أوباما”، واعتبروا أن نهج الرئيس الأمريكي حينها كان أكثر فاعلية وحكمة من أي نهج آخر خصوصا أنه حقق العديد من الإنجازات بأقل تكلفة متوقعة بالنسبة للمواطن الأمريكي.
جولدبرج قال في مقاله إن الرئيس الأمريكي لم يأت إلى البيت الأبيض مسكونا بالشرق الأوسط، “كان يرى أن عليه تجنب تلك المنطقة التي لن تكون مهمة للاقتصاد الأمريكي بفضل ثورة الطاقة الأمريكية”، في إشارة إلى تراجع الاهتمام الأمريكي بنفط الشرق الأوسط بعدما أصبحت الولايات المتحدة دولة النفطية الأولى في العالم.
تركيز أوباما كان منصبا على شرق آسيا في ذلك الوقت الذي كانت فيه صراعات سوريا والشرق الأوسط مستمرة بالاندفاع، “يعتقد أوباما أن آسيا هي جزء من العالم الذي يمثل الأهمية الكبرى للمستقبل الأمريكي ولا يوجد رئيس يمكن أن يزيح عينيه عن هذا”.
وخلال مرافقته له على متن الطائرة الرئاسية المتوجهة إلى العاصمة الماليزية كوالالمبور سأل جولدبرج الرئيس الأمريكي عما إذا كان هناك أي شيء في الشرق الأوسط يسعده فأجاب: “في الوقت الراهن لا أظن أن هناك أي أحد يمكن أن يشعر جيدا تجاه الحالة في تلك المنطقة، فهناك بلدان تفشل في تأمين الازدهار والفرص لشعوبها، وهناك أيديولوجيا متطرفة عنيفة.. هناك بلدان لديها القليل من التقاليد المدنية، ولذلك فبينما تبدأ الأنظمة المستبدة بالانهيار لا تظهر مبادئ ناظمة.. لا تظهر سوى الطائفية”.
“في المقابل يحصل العكس في جنوب شرق آسيا”، يقول أوباما لمحدثه، مضيفا: “هناك مشاكل ضخمة -فقر شديد وفساد- لكن تلك المنطقة مليئة بأشخاص طموحين ومكافحين ومشحونين ويسعون كل يوم لبناء أعمال والحصول على تعليم ووظائف وبناء بنية تحتية.. الفرق شاسع جدا”.
ويرى أوباما وفق ما جاء في المقال أن الحال في آسيا كما هو الحال في أمريكا اللاتينية وأفريقيا، “هناك أشخاص وشباب يسعون للتطور الذاتي، والحداثة، والتعليم، والثروة المادية”.
أبدى أوباما في مقال “ذي اتلاتنك” ضجره من الشرق الأوسط، الذي تتحكم فيه القبلية والطائفية وتنتشر فيه الصراعات، ويرى أنه لم يكن حينها مهيأ للتطور والحداثة وأن حكامه منفصلون عن تطلعات وطموحات شعوبهم، معبرا عن غضبه من العقيدة السياسة لمؤسسات بلاده التي تجبره على معاملة دول تلك المنطقة كحلفاء للولايات المتحدة، وخص بالذكر المملكة العربية السعودية التي تتحمل بشكل أو بآخر، وفق اعتقاده، مسئولية انتشار التشدد في عدد من الدول الإسلامية، وضرب المثل بإندونيسيا التي قضى فيها نحو 4 سنوات ورأى أنها تأثرت كثيرا بالنسخة الوهابية من الإسلام نتيجة تأسيس السعوديين وتمويلهم للكثير من المدارس الدينية بها.
وبحسب أوباما فإن الحروب والفوضى لن تنتهي حينها، إلا إذا تمكنت السعودية وإيران -التي تمكن من إقناعها بتوقيع الاتفاق النووي- من التعايش معا والتوصل إلى سبيل لتحقيق نوع من السلام.
“المنافسة بين السعوديين والإيرانيين التي ساعدت في إذكاء الحروب بالوكالة والفوضى في سوريا والعراق واليمن تتطلب منا أن نقول لأصدقائنا وكذلك للإيرانيين أنهم بحاجة للتوصل إلى طريقة فعالة للتعايش معا وتحقيق نوع من السلام البارد”، قال أوباما في مقال “ذي اتلانتك”.
بعد شهور من نشر هذا المقال غادر البيت الأبيض أوباما الذي صاغ سياسة أو رسخ عقيدة صارت إرثا للديمقراطيين فيما يخص الشرق الأوسط، وخلفه تاجر لا يعرف سوى لغة المكسب والخسارة، قامر مع زعماء دول المنطقة، وكسب ودهم وذهبهم أيضا.
استدعى دونالد ترامب عقيدة صناع السياسة الخارجية الأمريكية الحقيقيين، وغازل حكام الشرق الأوسط باللغة التي يعرفونها، جنب الحديث عن حقوق الإنسان والحريات العامة والديمقراطية، تقرب من المستبدين وأبدى إعجابه ببعضهم، وأجزل لهم عبارات المديح، ورقص معهم رقصة العرضة حاملا سيوفهم الذهبية ليس خلال الرقصة فقط بل حملها مع صناديق أخرى مليئة بالمجوهرات الثمينة على متن طائرته وهو عائد إلى بلاده بعدما أخبرهم في عقر دارهم أنه لا حماية أمريكية بدون مقابل.
“دفعنا 7 تريليونات دولار خلال 18 عاما في الشرق الأوسط وعلى الدول الثرية دفع مقابل ذلك.. هناك دول لن تبقى لأسبوع واحد دون حمايتنا. عليهم دفع ثمن لذلك”، قال ترامب مشيرا إلى أن على دول الخليج الثرية أن تدفع مقابل تمتعها بالحماية الأمريكية.
سقط ترامب في أكثر الانتخابات الرئاسية الأمريكية إثارة للجدل، وجاء جو بايدن نائب الرئيس الأمريكي الديمقراطي الأسبق باراك أوباما متبنيا نفس سياسته ومحملا بإرثه وعقيدته، وأعلن مبكرا وخلال حملته الانتخابية أنه “لا شيكات على بياض” لحكام الشرق الأوسط.
تكشفت نواياه تجاه المنطقة الأكثر إزعاجا واضطرابا في العالم، ومهد في أكثر من مناسبة بأن إدارته لا تنوي البقاء في الشرق الأوسط، وتعهد بإعادة إحياء الاتفاق النووي مع إيران تمهيدا لتقليص وجود الولايات المتحدة في الخليج.
ظل بايدن يقاوم لشهور طويلة فكرة استمرار الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، “على مدار شهور حاول مساعدوه إقناعه بفكرة البقاء في المنطقة، بحجة أنه إذا تركت أمريكا قضايا الشرق الأوسط، فستفتح المجال أمام تمدد الصين وروسيا”، تقول صحيفة “بولتيكو” الأمريكية في تقرير لها نشر قبل يومين عن زيارة بايدن الأخيرة إلى المنطقة.
“ظل بايدن لفترة طويلة غير مقتنع، وأكد في جلسات خاصة أن على إدارته أن تبحث الأمر مليا، وأشار إلى أنه تعهد أثناء حملته الانتخابية بأن تظل السعودية دولة (منبوذة) بعد تورط قادتها في جريمة قتل الصحفي جمال خاشقجي”، تضيف الصحفية.
ولكن لأن الساسة عليهم أن يعقدوا صفقات مع بعض الجهات الدولية الفاعلة لتأمين مصالح بلادهم، وافق بايدن على الأساس المنطقي الاستراتيجي لرحلته إلى الشرق الأوسط الذي صاغه مستشاره للأمن القومي جيك سوليفان، وبريت ماكجورك أكبر مسؤول في الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي.
قضى بايدن 4 أيام في الشرق الأوسط، وذهب العديد من المراقبين إلى أن الزيارة فشلت وأن الرئيس الأمريكي أخفق في حمل السعودية ودول الخليج على زيادة إنتاجهم من النفط للتخفيف من تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، ولم يحرز أيضا أي نتيجة تذكر في حشد دول المنطقة في حلف عسكري يضم إسرائيل لمواجهة التهديدات الإيرانية.
لكن تلك التحليلات تتحدث عن النتائج الآنية المباشرة، ولم تلتفت إلى النتائج الاستراتيجية التي أحدثتها الزيارة، فالولايات المتحدة وفق ما أعلن رئيسها قبيل مغادرته المنطقة “لن تتخلى عن الشرق الأوسط” الذي تؤدي فيه منذ عقود دورا سياسيا وعسكريا محوريا، وأنها ستعتمد رؤية جديدة للمنطقة الاستراتيجية ولن تسمح بوجود فراغ تملؤه قوى أخرى.
قال بايدن في كلمته قبل العودة إلى بلاده بعد لقائه في جدة بزعماء عدد من دول المنطقة حلفاء الولايات المتحدة: “لن نتخلى عن الشرق الأوسط ولن نترك فراغا تملؤه الصين أو روسيا أو إيران”، مضيفا: “اسمحوا لي أن أختتم بتلخيص كل هذا في جملة واحدة: الولايات المتحدة ملتزمة ببناء مستقبل إيجابي في المنطقة، بالشراكة معكم جميعا، ولن تغادر”.
اكتشفت واشنطن بعد الحرب في أوكرانيا أن وضعها في الشرق الأوسط مزعزع، وأن دولا لم تكن تجرؤ على الخروج عن فلكها امتنعت خلال جلسة مجلس الأمن عن التصويت بإدانة الحرب الروسية على أوكرانيا، إضافة إلى تطور علاقات تلك الدول بالصين، لذا قررت مؤسسات صناعة السياسة الخارجية الأمريكية تغيير وجهة بايدن وأقنعته بضرورة لملمة الحلفاء لقطع الطريق على الاختراق الصيني الروسي وطمأنتهم أن العلاقات والتحالفات قائمة، وأن ما جرى من خلافات وتباين في المواقف لا يجب أن يتكرر.
لا يمكن الحكم الآن بفشل أو نجاح زيارة الرئيس الأمريكي للمنطقة، لكن ما يمكن الجزم به أن مؤسسات صناعة القرار الأمريكي أجبروا بايدن على تعديل توجهاته والانقلاب على “عقيدة أوباما” الذي حاول تبنيها، ودفعوه إلى استعادة زمام المبادرة في منطقة ظلت تحت الوصاية الأمريكية لعقود حتى لا تقع فريسة لتمدد الخصوم.
كيف سيتفاعل زعماء المنطقة الذين التقاهم بايدن بالاستراتيجية الأمريكية القديمة المتجددة؟ هذا ما يجب على المراقبين رصده ومتابعته بتأني قبل إصدار أحكام قاطعة.