في كلمته أمام الاجتماع المشترك للجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي ومجلس الشعب في 18 إبريل عام 1974، دعا الرئيس الراحل أنور السادات إلى مواجهة التحديات التي تواجه الأمة، لافتا إلى أن «تحقيق الرخاء يحتاج إلى عمل كثير وطويل وشاق».
السادات شدد في الكلمة التي كشف فيها عن تفاصيل «ورقة أكتوبر» على أنه لا سبيل للخروج من الأزمة الاقتصادية التي واجهت الدولة بسبب امتداد الحرب مع العدو الصهيوني لنحو 6 سنوات إلا برفع معدلات التنمية إلى أعلى مما كانت عليه قبل عام 1965، «هذا هو الهدف الأول والحيوي والضروري في مرحلة التقدم والبناء».
وبطريقته المسرحية المعهودة حاول السادات التمهيد لمرحلة الانفتاح الاقتصادي: «لدينا قطاعات الاقتصاد القومي الثلاثة، القطاع العام، والقطاع الخاص، والقطاع التعاوني، وبسياسة الانفتاح الاقتصادي يتسع المجال أمام الاستثمارات العربية والأجنبية، وهذا كله في إطار من التخطيط الذي رسم أهداف استراتيجية لتغيير صورة البلاد تغييرا جذريا».
وأسهب في شرح الشوائب التي طالت تجربة القطاع العام التي دشنها سلفه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، «تسللت إليه البيروقراطية الإدارية، وتدخل في قطاعات ما كان له أن يتدخل فيها، وحدث به الكثير من الانحرافات والقصور».
ونوه الرجل إلى الدور الذي يريده للقطاع العام في ظل سياسة الانفتاح وتشجيع القطاع الخاص والاستثمار العربي والأجنبي، «يجب أن يكون القطاع العام قاصرا على تنفيذ خطة التنمية وتولي مهمة المشروعات الأساسية التي لا يقدم عليها غيره»، في المقابل دعا إلى أن يجد القطاع الخاص الاستقرار الفعلي والتشجيع «ما يشجعه على الاندفاع بأقصى ما لديه في مجال الإنتاج وسد حاجات المجتمع».
ولفت إلى أن المال العربي سيكون له دور مهم في الاستثمار بمصر «سنوفر للمستثمر العربي كل الضمانات»، وفي ظل سياسة الانفتاح «سننفتح على العالم كله شرقه وغربه».
وفي ختام تلك الكلمة أشار الرئيس المؤمن إلى أن هدفه تحويل شعار «دولة العلم والإيمان» إلى حقيقة ملموسة، وتعهد بالتخلص من كافة الإجراءات الاستثنائية وإغلاق كل المعتقلات وتخفيف القيود على الصحف وإطلاق بعض الحريات التي كانت مصادرة، ثم أعلن عن أهداف «ورقة أكتوبر» التي ناقشها مع مستشاريه ثم عرضها على الشعب في استفتاء عام في 15 مايو سنة 1974، وشملت تلك الأهداف:
1- تحقيق التنمية الاقتصادية بمعدلات تفوق كل ما تحقق حتى عام 1974.
2- إعداد مصر حتى عام 2000 مما يضمن توفير أسباب استمرار التقدم للأجيال المقبلة.
3- الانفتاح الاقتصادي في الداخل والخارج الذي يوفر كل الضمانات للأموال التي تستثمر في التنمية.
4- التخطيط الشامل والفعال والذي يكفل بالعلم تحقيق الأهداف العظيمة للمجتمع.
5- دعم القطاع العام وترشيده وانطلاقه تمكيناً له من قيادة التنمية.
6- التنمية الاجتماعية وبناء الإنسان.
7- دخول عصر العلم والتكنولوجيا.
8- التقدم الحضاري القائم على العلم والإيمان.
9- المجتمع المفتوح الذي ينعم برياح الحرية.
10- المجتمع الآمن الذي يطمئن فيه المواطن على يومه وغده.
كانت تلك الورقة التي سبق إقرارها اتصالات وحوارات مع وزير الخارجية الأمريكي هنري كينسجر هي مقدمة لعودة العلاقات الدبلوماسية بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية. ففي يونيو من ذات العام زار الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون القاهرة، وكان من ضمن نتائج الزيارة إلغاء الزعيم السوفييتي ليونيد بريجنيف زيارته لمصر.
انتظر الشعب بفارغ الصبر الرخاء الذي بشر به رئيس «دولة العلم والإيمان»، لكن ما حدث أن الأمور تعقدت أكثر مما كانت عليه. معدلات النمو أخذت تتراجع بشكل مطرد. وضغطت الأزمة الاقتصادية بشكل مقلق فتصاعدت معدلات التضخم من 3-4% عام 1973 إلى 22.3% عام 1978. فيما سمي حينها بـ«التضخم الانفجاري».
اعترف السادات في مطلع عام 1976 بأن الموقف الاقتصادي «آخذ في التدهور وأنه لا بد من التحكم في الموقف». وبعد جولة له في عواصم الخليج عاد الرئيس الراحل ليعلن أنه فشل في إقناع أصدقائه العرب بدعم الاقتصاد المصري بما يحتاج إليه من سيولة للخروج من «عنق الزجاجة».
رفع سقف التوقعات إلى السماء، والوعود المتكررة بتعديل حال البلاد والعباد، ثم الاندفاع في تنفيذ سياسة الانفتاح الاقتصادي دون أن يكون هناك خطة حقيقية للانتقال من النظام الاشتراكي إلى النظام الرأسمالي أو «البين بين»، ودون أن يشعر الناس بأي مردود على أحوالهم المعيشية، أوصل البلاد إلى محطة انتفاضة الخبز (18-19 يناير 1977)، التي نزل فيها ملايين المصريين إلى الشوراع للاحتجاج. ليس على رفع أسعار بعض السلع فحسب بل على مجمل سياسات سلطة كبير العائلة المصرية الذي ظل يعد الناس بأنهار اللبن والعسل إذا قبلوا بسياساته وتوجهاته، لكن الواقع أن الأزمة التي أسقط فيها البلاد لانزال نتجرع مرارها حتى الآن.
منذ مطلع العام الجاري يجري الترويج على قدم وساق لما أطلقت عليه الحكومة «وثيقة سياسة ملكية الدولة»، التي يخشى أهل الاقتصاد أن يكون مصيرها هو مصير «ورقة أكتوبر» التي تم التسويق لها في الصحف حينها باعتبارها «فتحا جديدا» وبداية لـ«بناء الدولة الحديثة القادرة».
وخلال الاجتماعات التي عقدها رئيس الوزراء مصطفى مدبولي للوقوف على ملاحظات الخبراء وأهل الاختصاص حول هذه الوثيقة أبدى بعض هؤلاء تخوفهم من أن يكون هدف الوثيقة هو توفير النقد الأجنبي لتخطي الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد في تلك الفترة، وبعد ذلك تعود الأمور إلى ما كانت عليه وندخل مجددا إلى الدائرة السوداء التي نتجت عن سوء الإدارة وعدم ترتيب أولويات الإنفاق وإهدار العوائد والقروض في مستنقع عدم التخطيط وغياب دراسات الجدوى.
الأولوية يجب أن تكون لمواجهة ترهل الدولة وتفشي البيروقراطية ومحاربة الفساد ومنع الممارسات الاحتكارية التي تمارسها جهات حكومية أو رجال أعمال، وهي الأمور التي تطفش الكثير من المستثمرين الأجانب، بديلا عن ورقة «فك الزنقة» التي تسوقها الحكومة ومنصاتها الإعلامية.
الوثيقة التي أعلنت الحكومة قبل أيام عن موافقة الرئيس عبد الفتاح السيسي عليها، لم تضع تعريفا واضحا لما هو المقصود بالقطاعات الاقتصادية المملوكة للدولة، هل هو القطاع العام أم قطاع الأعمال، أم كل المشروعات والكيانات المملوكة لجهات ومؤسسات وأجهزة مدنية كانت أم غير مدنية.
بعض المشروعات التي نفذتها بعض الجهات التابعة نظريا للدولة في السنوات الأخيرة، شكلت ولاتزال هاجسا لقطاع كبير من المستثمرين المصريين والعرب والأجانب على حد سواء، فمن يملك الدخول في منافسة مع مؤسسات تملك إمكانات هائلة وتتمتع بتسهيلات لا يستطيع غيرها الحصول عليها، ولديها عمالة شبه مجانية، ولا تخضع لسلطة الجهات الرقابية الدستورية، ومن يقبل أيضا أن يدخل مع تلك المؤسسات في شراكة سواء بشراء أسهم أو حصص استراتيجية في مشروعاتها القائمة الرابحة.
من ضمن المخاوف التي تثيرها الوثيقة، توجه الحكومة لبيع الأصول الرابحة للمستثمرين الأجانب بهدف توفير النقد الأجنبي، في ظل ظروف اقتصادية تجعل أسعارها بخسة، ثم صرف حصيلة عمليات البيع على سداد الديون المستحقة وفوائدها وجبر العجز في الموازنة وإقامة أو استكمال المشروعات التي لم يكن لإنشائها ضرورة في الوقت الحالي، وهو ما يعني بيع إرث الأجيال القادمة وتركها على الحديدة كما يقول المثل الشائع، وبعدما تهدر متحصلات البيع تعود ريما إلى عادتها القديمة ونبدأ في رحلة البحث عن عمليات بيع أخرى.
إذا أصرت السلطة على بيع الأصول الاستثمارية للمستثمرين الأجانب فعليها وضع شروط وضمانات لتحقيق استفادة فعلية من هذه الاستثمارات وفي مقدمتها إلزام المستثمرين الأجانب بإعادة استثمار أرباح وعوائد المشروعات التي استحوذوا عليها داخل مصر لفترة محددة، بما يضمن عدم استنزاف الحصيلة الدولارية في صورة تحويل أرباح الاستثمار الأجنبي للخارج، فتكون الدولة قد خسرت مرة ببيع الأصول بأسعار غير جيدة ومرة بخروج الدولارات في صورة تحويلات لأرباح المستثمرين الأجانب للخارج بعد فترة وجيزة.
التعامل مع تلك الوثيقة باعتبارها «عصا سحرية» لتوفير السيولة والنقد الأجنبي لن يكون حلا بل قد يكون حلقة جديدة في مسلسل الأزمة التي سقطنا فيها.
التخارج والبيع واستحواذ الأجانب على الشركات لن ينتج عنه تنمية حقيقية وبناء اقتصاد مستقر، الاقتصاد المستقر وتشجيع الاستثمار يحتاج إلى دولة تضع أسس المنافسة العادلة وتمنع الاحتكار وتحترم قواعد الشفافية وسيادة القانون، وهذا لن يتحقق إلا في ظل وجود نظام ديمقراطي حقيقي ومؤسسات مستقلة تمارس فقط دورها المنصوص عليه في الدستور، سواء كانت سلطة تنفيذية تحكم وفق رؤية وبرنامج محدد ومعروف سلفا، أو تشريعية وبرلمانية تراقب وتساءل وتحاسب، وصحافة حرة تتبع أداء سلطات الدولة لصالح المواطن، وإلا سيكون مصير هذه الوثيقة هو مصير ورقة أكتوبر وما سبقها وتلاها من أوراق تبشر بالتنمية والرخاء لكن الناتج عادة يكون مزيدا من التخلف والركود والانهيار والمعاناة للشعب.