في عام 2016 اتخذت مصر خطوتها الأولى في طريق رسمه صندوق النقد الدولي للاقتصاد، كان القرض الأول لمصر مصاحبا لقرار تعويم الجنيه، وعدة قرارات أخرى مرتبطة بزيادة الحصيلة الضريبية ورفع الدعم، وكانت قيمة القرض التي بلغت حينها 12 مليار دولار، بالإضافة إلى تصريحات الصندوق حينها تبشر بأن الاقتصاد المصري سوف يحقق قفزة مهمة في معدلات النمو خلال السنوات اللاحقة للقرض.
في بيان الصندوق الصادر يوم 11 نوفمبر 2016، كانت الأهداف الواضحة والمعلنة للبرنامج الحكومي الذي وافق الصندوق على تمويله تتلخص في التالي:
(استعادة التنافسية – وضع عجز الموازنة والدين العام على مسار تنازلي – إعطاء دفعة للنمو – خلق فرص العمل) وفي سبيل ذلك ذكر البيان ملامح البرنامج الاقتصادي الذي اعتمدته الحكومة لتحقيق تلك الأهداف عبر خطوات محددة ومعلنة.
بعد مرور 6 أعوام على القرض الأول من الصندوق، لا نحتاج إلى خبراء في الاقتصاد للجزم بفشل برنامج 2016 في تحقيق أهدافه العامة، حيث تواجه الدولة أزمة كبيرة في عجز الموازنة وارتفاع الدين العام وتراجع معدلات النمو.
وبدلا من أن تحاول الحكومة مراجعة مسار الصندوق، فضلت تعليق فشل البرنامج على شماعة الحرب الروسية الأوكرانية وأزمة كورونا، وعادت الى صندوق النقد لطلب استشارة جديدة مصحوبة بالتمويل والشروط، وبالرغم من موافقة الصندوق على تمويل مصر بقرض جديد، إلا أن قيمة القرض –25% من قيمة قرض 2016– والبيان الصادر عن الصندوق، يشي بأن المؤسسة الدولية غير راضية عن الأداء الحكومي منذ 2016 وحتى الآن.
حيث ذكر البيان بوضوح أن أهداف البرنامج الجديد تتمثل في (الحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي – استعادة الاحتياطيات – تمهيد الطريق نحو تحقيق نمو شامل بقيادة القطاع الخاص).
يبدو أن الصندوق أكثر قسوة هذه المرة في شروطه على الحكومة، وهذا يفسر استقالة محافظ البنك المركزي طارق عامر، خلال مرحلة التفاوض مع الصندوق، وهو ما يمكن قراءته بين سطور الرسالة التي نشرها عامر عقب استقالته، كما ذكرت مصادر مقربة منه أن سبب الاستقالة رفض عامر للشروط التي وضعها الصندوق.
اشترط الصندوق على الحكومة هذه المرة، سعر صرف مرن ودائم للجنيه، بمعنى ترك العملة المحلية للعرض والطلب بالكلية دون أي تدخل حكومي، كما طالب الصندوق بـ “تقليص بصمة الدولة على الاقتصاد وتعزيز الحوكمة والشفافية” بحسب نص البيان، وهو ما يعني تراجع الاستثمار الحكومي في المشروعات القومية.
وقد أقدم البنك المركزي الخميس الماضي على رفع سعر الفائدة وهو أحد الشروط المعلنة في بيان الصندوق، ما يعني أننا في انتظار تنفيذ باقي الشروط وأهمها قرار التعويم الكامل للجنيه.
لازالت الحكومة ترفض الاعتراف بالخطأ والتقصير، حيث أصدر مجلس الوزراء كتابا للرد على “مزاعم” حول الاقتصاد المصري، والذي يتعارض مع بيان الصندوق الذي أشادت به الحكومة أيضا، تمنيت أن يكون الكتاب الحكومي أقرب للتقرير الذي نشره صندوق النقد حول الاقتصاد المصري بعد قراره بمنح القرض لمصر بعنوان “أسئلة أساسية عن اتفاق مصر”، والذي لخص رؤية الصندوق عن وضع الاقتصاد في عدة أسئلة وإجابات، وأجاب عن سؤال “كيفية مواجهة أزمة الديون”، بطريقة أكثر وضوحا من طريقة الحكومة، فقد تحدث التقرير عن عملية خصخصة واسعة يقودها صندوق مصر السيادي، وتمديد ودائع الخليج لدى البنك المركزي.
لا أعلم حتى الآن سبب تمسك الدولة بالروشتة الاقتصادية التي يضعها صندوق النقد، وهل تمت مراجعة نتائج البرنامج السابق مع الصندوق؟، كل ما نراه هو استمرار الحكومة في التحرك بشكل منفرد عن المجتمع ككل في مسار اقتصادي، رغم اعتراضات متعددة وصلت إلى حد استقالة محافظ البنك المركزي، ورغم ذلك لازالت كل الانتقادات يتم الرد عليها باعتبارها شائعات هدفها زعزعة الثقة.
فاتورة البرنامج القادم مع الصندوق سوف تكون أكثر كلفة من البرنامج السابق، وسوف يتحملها الجميع بلا استثناء، ورغم ذلك لا يبدو من الأداء الحكومي أي نية للتعامل مع الوضع بما يقتضيه من سياسة، فلازالت القبضة الحديدية على المجال العام هي السمة الأبرز للحكم، مجرد التنفيس في ظل المعاناة التي يعيشها الجميع باتت عملا إثاريا يستوجب العقاب.
في حديث للرئيس السيسي خلال المؤتمر الاقتصادي قبل أسابيع تحدث عن اجتماع عقده مع عدد من المسئولين التنفيذيين لاستطلاع رأيهم قبل اتخاذ قرار التعويم في عام 2016، وذكر الرئيس أن المسئولين جميعا الاقتصاديين منهم والأمنيين قد رفضوا القرار حينها، ولكنه أصر على الخطوة الصعبة، “نعدي قناة دلوقتي ولا نستنى بعدين لما تبقى بحر ومنقدرش نعديه”، كان هذا رأي الرئيس، ولكن بعد مرور 6 سنوات على عبور القناة، نجد أنفسنا الآن في حاجة لعبور البحر.