في الوقت الذي تنشغل فيه الإدارة الأمريكية والقوى الأوروبية بالحرب الروسية في أوكرانيا، وتداعياتها السياسية والاقتصادية، وحصار النفوذ الروسي في شرق أوروبا، تأخذ موسكو في توسيع دوائر نفوذها في القارة الإفريقية، في محاولة لإعادة التموضع مجددا بعد 30 عاما على فك الارتباط مع القارة في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي، مستغلة الانقلابات العسكرية وانتشار الجماعات المسلحة وتراجع نفوذ الدول الأوروبية.
اقرأ أيضا.. من روسيا مع الحب.. “فاجنر” تستخرج ذهب السودان لـ “طاهي بوتين”
إعادة التموضع الروسي في إفريقيا تأتي هذه المرة عبر مقاتلي شركة “فاجنر” المملوكة لرجل الأعمال ويفجيني بريجوجين، المقرب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وخلال السنوات الأخيرة، تزايد انتشار مرتزقة “فاجنر” في مناطق الصراعات في إفريقيا، في إطار سياسة موسكو التوسعية في القارة السمراء الرامية في الأساس لكسر الحصار الغربي والأمريكي عليها. حيث ينشط المرتزقة التابعون للشركة، في حروب مالي وجمهورية إفريقيا الوسطى وموزمبيق وليبيا، مقابل منحهم امتيازات تعدين واستخراج بعض المعادن الثمينة مثل الذهب والماس واليورانيوم.
النيجر أحدث حلقات الصراع
خلال الفترة الأخيرة عاد الحديث بقوة عن الأدوار التي تنفذها مرتزقة “فاجنر” في القارة الإفريقية لصالح روسيا، بعدما كشفت تقارير غربية، أن جمهورية النيجر الغنية باليورانيوم تعد الهدف التالي لموسكو في غرب إفريقيا. حيث أكدت تلك التقارير أن صعود قائد عسكري موالٍ لموسكو أطاح بحكومة بوركينا فاسو الشهر الماضي، يزيد من طموحات الكرملين لتوسيع نفوذه في وجه محاولات فرنسا للعودة إلى داخل إفريقيا.
صراع بطابع نووي
بخلاف الأهداف السياسية التي تسعى روسيا لتحقيقها من وراء تمددها في إفريقيا بشكل عام، والنيجر بشكل خاص، هناك أهداف أخرى مرتبطة بالموارد التي تمتلئ بها القارة، وكذلك البلد الواقع في غرب إفريقيا، وعلى رأسها اليورانيوم اللازم لتشغيل المحطات النووية.
النيجر تعد المصدر الرئيس للقوة التشغيلية لمحطات الطاقة النووية التي تمد فرنسا بنحو 70% من الطاقة الكهربائية التي تشغلها وتضيء حياة سكانها.
ففي 2020، كانت نسبة 34.7% من اليورانيوم المستخدم في تشغيل المفاعلات الفرنسية قادمة من النيجر، وهو ما يعني أن فقدان فرنسا التي تعد رأس حربة في تحركات أوروبا والناتو ضد موسكو، هذا المورد، فإن أزمة الطاقة في القارة العجوز على وقع الحرب الروسية الأوكرانية ستزداد سوءا بشكل ملحوظ.
من الانطلاق إلى التوسع
ظهرت مجموعات “فاجنر” لأول مرة عام 2014، أثناء فترة الهجوم الروسي على إقليم دونباس شرق أوكرانيا. وفي 2015 بدأت الأنشطة الخارجية للمجموعة، عندما تم تكليفها بدعم الرئيس السوري بشار الأسد، والسيطرة على حقول النفط والغاز هناك.
في عام 2017، بدأ مقاتلو الشركة التي يلقب مؤسسها بـ”طباخ بوتين” ينتشرون في إفريقيا، وفق سياسة بدا واضحا منذ اللحظة الأولى أنها مرسومة بدقة، وتتجاوز طبيعة عمل المجموعة الخاصة بتقديم الخدمات الأمنية.
وفي عام 2018 نشرت الشركة نحو 2000 مقاتل في جمهورية إفريقيا الوسطى، على خلفية الصراعات الدينية هناك والتحول الدبلوماسي بعيدًا عن فرنسا. وفي 2019، نشرت الشركة 160 مقاتلا في موزمبيق في منطقة كابو ديلجادو الغنية بالغاز وذات الأغلبية المسلمة. كما دعمت ذلك التواجد لاحقا بخلية حرب إلكترونية تقدم خدمات للحكومة هناك، بعدما تزايدت الهجمات التي تنفذها المجموعات الموالية لتنظيم داعش.
وتبع ذلك ظهور المرتزقة التابعين للشركة في ساحات المعارك في ليبيا، حيث دعموا الهجوم الذي شنه المشير خليفة حفتر قائد الجيش الوطني في شرق ليبيا، على العاصمة طرابلس عام 2019. بينما يتمركزون في الوقت الراهن في أربع قواعد في الشرق والجنوب الليبيين، معظمها بالقرب من حقول الهلال النفطي.
وقبل الإطاحة بالرئيس السوداني السابق عمر البشير في 2019، كانت الشركة حصلت على امتيازات تعدين الذهب هناك. بينما يأتي التواجد الأكثر إثارة للجدل في دولة مالي التي أبرم المجلس العسكري الذي تشكل هناك، اتفاقا أمنيا مع الشركة لحمايته وتوفير الدعم له بعد انسحاب الجيش الفرنسي، الذي كان بمثابة حائط الصد الأول ضد تمدد تنظيم داعش والمجموعات التابعة لتنظيم القاعدة في المنطقة.
وفي إبريل/نيسان 2022 وقع المسئولون في الكاميرون اتفاقا عسكريا مع روسيا، اعتبر مقدمة لنشر عناصر “فاجنر” في أراضيها، ومؤخرا سارع مؤسس الشركة ويفجيني بريجوجين، إلى تقديم “الدعم” إلى الضابط الشاب إبراهيم تراوري قائد الانقلاب في بوركينا فاسو.
في هذا الإطار أيضا يشير مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) بواشنطن، إلى أدلة تثبت تواجد متعاقدين عسكريين روس يتبعون الشركة في قائمة طويلة من بلدان القارة من بينها جنوب السودان ومدغشقر وبوتسوانا وبوروندي وتشاد وجزر القمر وجمهورية الكونغو الديمقراطية والكونغو برازافيل وغينيا وغينيا بيساو ونيجيريا وزيمبابوي.
التفات متأخر
مؤخرا بدأ حلف الناتو يلتفت لخطورة ما يحدث في القارة الإفريقية، بشكل عام ومنطقة الساحل وغرب القارة، والتي تضم موريتانيا ومالي وبوركينا فاسو وتشاد والنيجر، بشكل خاص على وقع ظاهرتين ترى فيهما أوروبا والإدارة الأمريكية تهديدا مباشرا.
وتتمثل تلك التهديدات في اتساع النفوذ الروسي عبر “فاجنر”، وتمدد تنظيم داعش الإرهابي داخل القارة، وإعلانه تأسيس أكثر من ولاية فيها، ما يمثل مضاعفة لمعاناة دول القارة من جهة، وتهديدا لمصادر الطاقة العالمية من جهة أخرى.
وخلال الفترة الأخيرة أبدى الحلف اهتماما متزايدا بموريتانيا تعزز أكثر خلال قمته في مدريد في نهاية يونيو/حزيران الماضي التي دُعيت إليها دولتان فقط من خارج الحلف، هما موريتانيا والأردن، حيث تقود إسبانيا مبادرة للتقارب بين موريتانيا والناتو، في إطار رؤية تتبناها مدريد متعلقة بكون الخطر يأتي من الجنوب كما يأتي من الشرق، في إشارة إلى حالة انعدام الاستقرار التي قد تنفجر في منطقة الساحل الإفريقي.
دور نواكشوط
وفي يوليو/تموز الماضي، قال خافيير كولومينا نائب الأمين العام المساعد للحلف للشؤون السياسية والسياسة الأمنية إن دور نواكشوط في منطقة الساحل كبير وضروري لسببين: أولهما أنها الشريك الوحيد للحلف في منطقة الساحل، وهي “الوحيدة التي يمكنها النفاذ إلى بعض أدواتنا بطريقة منهجية لأنها شريك”.
أما السبب الثاني فهو أن “موريتانيا الدولة الوحيدة في منطقة الساحل التي تسيطر على أراضيها وحدودها، وهي دولة تتمتع باستقرار سياسي وأمني، لذا فإن التعاون معها أفضل في نظر الحلف”.
وفي قمته الأخيرة بمدريد، أعلن الناتو عزمه تقديم حزمة مساعدات لموريتانيا، فيما أفاد الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرج بأن هذه المساعدات ترمي إلى دعم جهود موريتانيا في التعامل مع أمن الحدود والهجرة غير النظامية والإرهاب.
التطورات الأخيرة عززت مخاوف دول الاتحاد الأوروبي، وجعلت الناتو يؤسس لمفهوم إستراتيجي جديد يجعل من خلاله موريتانيا شريكا في عمليات التصدي للنفوذ الروسي في المنطقة.
فالأهمية التي يوليها الحلف لموريتانيا في الوقت الراهن، لا يمكن قراءتها إلا في سياق ما أسماه الحلف في قمة مدريد بـ”المفهوم الاستراتيجي الجديد” والصراع المحتدم بين روسيا والغرب الذي فجرته الحرب الروسية في أوكرانيا. حيث يثير حضور روسيا في مناطق إفريقية قلق الأوروبيين بدرجة كبيرة في ظل المشهد العالمي المتشكل وفق خريطة جديدة، تحاول موسكو من خلالها لعب أدوار استراتيجية في إفريقيا وآسيا.
وما يعزز من أهمية موريتانيا بالنسبة لأوروبا وحلف الناتو هو الصراع المحتدم مع روسيا، للحصول على موطئ قدم استراتيجي على منافذ البحر، في وقت تمتلك فيه موريتانيا شواطئ ممتدة حتى الاتحاد الأوروبي، وتمتد في تداخل مياهها الإقليمية إلى المياه الإقليمية الإسبانية.
فاجنر والكرملين
فيما ينفي الكرملين أي صلة له بفاجنر تؤكد تقارير استخباراتية غربية بأن متعاقدي فاجنر العسكريين مدمجون في هيكل أجهزة المخابرات الروسية والجيش.
في عام 2020 وخلال مؤتمر صحفي مع المستشارة الألمانية السابقة، أنجيلا ميركل، أقر بوتين بتواجد مقاتلين روس في ليبيا، لكنه نفى في المقابل تلقيهم أي دعم من الدولة الروسية، مؤكدا أنها ليست مسئولة عن أفعالهم، كما أنه لا تربطهم بالمؤسسات الرسمية أي علاقة.
وجدد بوتين سنة 2021 نفيه أي ارتباط بعناصر “فاجنر” خلال وجوده في مدينة سوتشي المطلة على البحر الأسود، حيث قال إن فاجنر “شركة خاصة لديها مصالح مرتبطة باستخراج موارد الطاقة ومختلف الموارد مثل الذهب والأحجار الكريمة”. مستدركا: “لكن، إذا تضاربت أنشطتها مع مصالح الدولة الروسية.. بالتأكيد يجب أن نتصرف”.
الغموض المفروض على العلاقة بين “فاجنر” والمؤسسات الرسمية في روسيا، كشفته بشكل واضح الحرب الروسية على أوكرانيا مؤخرا في ظل نشر يفجين بريجوچين مالك الشركة نحو 2000 مقاتل من قواته لتعزيز المواقع في ليسيتشانسك لتأمين الخطوط الأمامية الروسية، بناء على طلب من بوتين، بعد انهيار جبهة ليمان، تزامنا مع ما حققته عناصر “فاجنر” بالتعاون مع قوات الرئيس الشيشياني رمضان قديروف من نجاحات حول باخموت واستعداده لإنقاذ الموقف والتعاون مع جهود الكرملين لتحسين سمعة وزارة الدفاع الروسية.
ومؤخرا يبدو رئيس “فاجنر” وكأنه القائد الأهم في الحرب الدائرة، وتداول تصوير له هذا الشهر وهو يلقي خطابا للتجنيد في ساحة السجن، ويَعِد المدانين بإطلاق سراحهم إذا قاتلوا من أجل روسيا في أوكرانيا لمدة ستة أشهر ونجوا.