تدفع المؤسسات المالية العالمية بقوة نحو تخفيض جديد لسعر صرف العملة المحلية أمام الدولار. رغم تقويمها بأقل من قيمتها الحقيقية، وتأكيد التجارب السابقة للتعويم في الحالة المصرية على أنها خطوات تتضمن مضار للاقتصاد المحلي، بشكل أكبر من المكاسب التي تحققها لجانبي التصدير والسياحة.
بنك “كريدي سويس“، كان آخر البنوك الذي نشر تقريرًا، يحذر فيه السلطات النقدية من مغبة عدم تطبيق سعر مرن للجنيه المصري مرتكنا إلى ارتفاع العملة الأمريكية بالسوق السوداء عن الرسمية بحوالي 30%، مغيرًا في الوقت ذاته نظرته للاقتصاد المصري من محايد إلى سلبية.
فهد إقبال، المحلل الاستراتيجي المتخصص بشئون الشرق الأوسط لدى البنك السويسري ومعد التقرير، يقول إنه كلما طال الوقت الذي تستغرقه الحكومة في الشروع فيما أسماه بـ،”خطوات الإصلاح التي طال انتظارها” زادت شدة تسعير السوق، ومخاطر تخفيض قيمة العملة، ليعدّل البنك مستهدفه لسعر صرف الدولار خلال عام لما يتراوح بين 33 و34 جنيهاً للدولار بزيادة ما بين 25% و30% فوق سعر الصرف الفعلي الحقيقي.
اقرأ أيضا: دولرة العقارات والسيارات في مصر.. مزيد من وهن الجنيه
مجموعة الأزمات الدولية تتحدث من مخاطر خفض العملة
توبياس أدريان، رئيس إدارة الأسواق النقدية والرأسمالية في صندوق النقد الدولي، قال في تصريحات أخيرًا، إن تعديل سعر صرف الجنيه عامل أساسي لتحقيق الاستقرار الاقتصادي في مصر، وذلك لأنه يتيح للبنك المركزي تطبيق السياسات النقدية المناسبة للظروف المحلية.
وركزت مجموعة الأزمات الدولية في تقرير حديث لها على مستقبل الجنيه، وتوقعات المستثمرين الأجانب خضوعه لمزيد من الانخفاضات رغم أن الأزمة الاقتصادية بمصر تفاقمت مع بدء سعر الصرف في الانخفاض في 4 يناير ، ووصل لأدنى مستوى له عند 32 جنيهًا مصريًا مقابل الدولار الأمريكي في 11 يناير، قبل أن يستقر عند حوالي 30 جنيهًا.
حتى مارس / آذار عام 2022، كان يتم تداول الجنيه عند حوالي 15 جنيًها مقابل الدولار، قبل أن يتم تخفيضه تسبب تخفيض قيمة العملة في ارتفاع التضخم، الذي بلغ 31.9% في فبراير على أساس سنوي، ارتفاعا من 25.8% في يناير/ كانون الثاني.
تخفيض قيمة العملة قد خفف مؤقتًا من مشاكل السيولة بالعملة الصعبة مع تحرك المسؤولين المصريين نحو التعويم الكامل للجنيه، لكن ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة 61.8% على أساس سنوي، ما أثر بقوة على السكان خاصة الطبقة المتوسطة والعاملة التي تحتفظ بعدة وظائف لتغطية نفقاتها واضطرت إلى تغيير نظامهما الغذائي باستبدال البروتينات الحيوانية بخيارات أرخص، بحسب تقرير مجموعة الأزمات الذي كتبه ميشيل وحيد حنا وريكاردو فابينو.
وتوقع بنك الكويت الوطني، في تقرير له مساء الأربعاء، عدم لجوء الحكومة إلى خفض الجنيه مقابل العملات الأجنبية، إلا بالتزامن مع وعود قوية بتوفير حصيلة من الدولار أو تسارع وتيرة بيع الأصول، الأمر الذي سيساهم في تعزيز الاحتياطيات النقدية.
رجحت شركة “سيتي جروب” أيضًا عدم قيام البنك المركزي المصري بتخفيض قيمة الجنيه المصري في الوقت القريب، على الأقل حتى نهاية الشهر الحالي حتى لا تعرقل هدف الحكومة بتحقيق عجز الميزانية بنسبة 6.5%، واستقرار الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي.
تخفيض العملة يجذب الاستثمار.. مقولة منقوصة
الدكتور أحمد العطيفي، المحلل المالي، يقول إن هبوط قيمة العملة من أجل الاستثمار عبارة خاطئة ومجتزأة، فعند كل تخفيض، نسمع عبارة أنها فرصة للأجانب مع رخص الأصول، وأن الأجنبي أمام كل مليون دولار استثمرها يحصل على عائد بقيمة 31 مليون جنيه، مقارنة بـ 16 مليون جنيه قبل سنوات.
يوضح العطيفي أن العبارة الصحيحة أنه مع انخفاض الجنيه، لابد من تقديم حوافز ضخمة ونظام ضريبي واضح وثابت لفترة 10 سنوات على الأقل وتعريفة واضحة للرسوم والترخيص توضح نسبة الزيادة المقترحة كل 3 أو 5 سنوات، فاستحداث ضريبة أو قيمة رسوم بصورة مستمرة تحت اى اسم، يهدم أي إصلاح ويخلق تخوف من تدفق استثمارات أجنبية.
قدمت وزارة المالية لمجلس النواب مشروع قانون بتعديل بعض أحكام قانون الضريبة على الدخل الصادر بالقانون رقم 91 لسنة 2005 وبتعديل بعض أحكام القانون رقم 182 لسنة 2020 بإلغاء الإعفاء المقرر على عوائد أذون الخزانة والسندات أو الأرباح الرأسمالية الناتجة عن التعامل فى هذه الأذون والسندات من الضريبة على الدخل.
يضيف العطيفي أنه مع كل تخفيض للجنيه ترتفع تكاليف الطاقة ورسوم الخدمات والتصاريح وإصدار الرخص بأنواعها وتزيد أسعار وسائل الانتقال وتكاليف كل أعمال الشحن، وبالتالي ما يتم تخفيضه للجنيه لجذب المستثمر الأجنبى يضيع مع ارتفاع كل مماسبق.
الاقتصاد المصري.. هل المشكلة في الجنيه المصري فقط؟
تواجه الحكومة إطاراً زمنياً ضيقاً لتلبية المتطلبات الرئيسية لصندوق النقد الدولي، وتنفيذ صفقات بقيمة ملياري دولار قبل نهاية يونيو 2023، وتعطلت صفقات بيع بعض الأصول الحكومية والمملوكة لجهات عامة وسيادية في ظل صعوبات تتعلق بتقييم الأصول وعوامل أخرى محيطة بصفقات البيع، بحسب تقرير بنك الكويت الوطني.
الدكتور رمزي الجرف، الخبير المصرفي، يبدي استغرابه من انشغال بنوك الاستثمار والمؤسسات المالية العالمية بقضية تخفيض الجنيه المصري أنه مُقوم بأعلى من قيمته الحقيقية ولابد من تخفيض قيمته حتى يتعافى الاقتصاد العالمي، رغم أن أكبر الاقتصادات العالمية تواجه ازمة ديون وتضخم وافلاسات وانهيارات في القطاع المصرفي، وركود تضخمي بات وشيكًا.
بحسب الجرف، فإن صندوق النقد يعلم تمامًا بأن سعر الجنيه مُقوم بأقل من قيمته، التي تعادل 26 جنيهًا للدولار الواحد، ويمكن الاستدلال عليها من أن الفرق بين معدل التضخم في الاقتصاد الأمريكي والمصري 35%، فإذا ما كان سعر الجنيه عند مستوى 17 جنيه للدولار الأمريكي منذ أكثر من عام مضى، فيكون سعر صرف الجنيه عند المستوى السالف ذكره تقريبًا.
تخفيض قيمة الجنيه أمام الدولار سيؤدي الى تصاعد معدلات التضخم وتداعيات سلبية شديدة على الاقتصاد المصري بشكل غير مباشر، وعلى المواطنين بشكل مباشر، وانعكاسات سلبية على أصول مصر وبيعها بثمن بخس، رغم أن الاقتصاد المصري يحتل مرتبة بين أكبر 10 اقتصادات تساهم في زيادة الناتج الإجمالي العالمي بنحو 1.7%.
وزير المالية محمد معيط، تحدث في تعليقه أخيرًا على قرار وكالة فيتش للتصنيف الائتماني بخفض التصنيف الائتماني لمصر إلى الدرجة “B”، عن مشكلات تغير قيمة الجنيه، حينما قال نصًا في بيان صحفي: “لولا تغير سعر صرف الجنيه أمام الدولار لانخفض الدين إلى الناتج المحلي هذا العام لأقل من 80%”.
التعويم.. لا يوجد دواء يمكنه معالجة كل الأمراض
هشام رضوان، خبير اقتصادي ومستشار أعمال، يقول إن تخفيض قيمة العملة توازن ميزان المدفوعات إلا في اقتصادات الدول الصناعية أو الغنية بالثروات الطبيعية والمعدنية، على اعتبار أن حدوث عجز بسيط أو حدث استثنائي في عام يمكن تداركه، فسياسة تخفيض قيمة العملة ليست خلطة سحرية لتحسين العجز التجاري وخفض الواردات وزيادة الصادرات كما يعتقد بعض الاقتصاديين وأيضًا كما يؤمن بشدة القائمين على وضع سياسات الاصلاح بصندوق النقد الدولي فليس هناك دواء يمكنه معالجة كل داء.
طالب رضوان بتحليل عناصر الاستيراد والتصدير بدقة وعمق وتحليل، لرصد مدى تأثرها بتخفيض قيمة العملة والمواطن والمجتمع ككل، والنظر في كيفية تقليل الواردات بزيادة الانتاج المحلي أذا إمكن في بعض المنتجات لتعويض النقص، وتذليل كل العقبات لزيادة الانشطة الصناعية داخل الدولة بالتوازي مع التخطيط لزيادة الرقعة الزراعية ودعم المنتجين والمزارعين في السلع الاستراتيجية والمواد الغذائية كالقمح والسكر وزيت الطعام وحليب الأطفال، والبقول”.