في الثالث من يونيو/حزيران الجاري زار وزير المالية التركي، نور الدين نباتي، القاهرة كأول زيارة لمسؤول وزاري منذ عام 2013، في خطوة أخرى “بطيئة ولكن ثابتة” نحو تطبيع العلاقات بين البلدين.
ورغم أن الزيارة لم تكن على المستوى الثنائي مع نظيره المصري بل على صعيد جماعي في اجتماع سنوي للبنك الإسلامي للتنمية في مدينة شرم الشيخ (منح البنك تسهيلات ائتمانية لمصر لتمويل شراء السلع الاستراتيجية مثل القمح والبترول بحوالي 6 مليار دولار). إلا أنها تحمل رمزية واضحة في إطار خطوات التقارب بين البلدين.
الزيارة المحددة سلفًا، أتت بعد أيام فقط من تصريح وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، -في لقاء مع نظيره الإماراتي- بأن بلاده “ستعمل على اتخاذ خطوات إضافية للعلاقات مع مصر“. وذلك بعد أيام من إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان “إمكانية تطوير الحوار، وتطبيع العلاقات مع مصر”. وبعدما ذكر في نهاية أبريل/نيسان الماضي، أن “الحوار مع مصر قد يتطور إلى أعلى المستويات“.
اقرأ أيضًا: العلاقات “المصرية – التركية”.. إجراءات جديدة من جانب أنقرة بشأن ملف الإخوان
وبحسب مصدر مصري مطلع لصحيفة “الشرق الأوسط“، فإن “القاهرة تُقدر خطوات أنقرة، لكن مطلوب أن يكون هناك تفاهم بشكل أكبر لحل الإشكاليات عبر (خطوات ملموسة)“. وقد سبق ووصف آخر سفير لمصر في تركيا، عبد الرحمن صلاح الدين، جهود أنقرة بأنها “خطوة في الاتجاه الصحيح”.
فخلال الأشهر الماضية خاض البلدان عددا من المحادثات “الاستكشافية”، برئاسة مساعدي وزيري الخارجية. الأولى احتضنتها القاهرة، فيما جرت الثانية في أنقرة. وقال ممثلو البلدين حينها، إن “المباحثات كانت صريحة ومعمقة، وتناولت القضايا الثنائية، والقضايا الإقليمية“. واتفق الطرفان على “مواصلة المشاورات، والتأكيد على رغبتهما في تحقيق تقدم بالموضوعات محل النقاش”.
على الصعيد الاقتصادي، تتزامن الزيارة مع الأزمة الاقتصادية التي تحيط بكلا البلدين؛ نتيجة نمط الإدارة الاقتصادي غير الفعّال -في أحسن الأحوال- وما حملته الحرب الروسية الأوكرانية من تأثيرات مضاعفة. وقد التقى وزير المالية التركي في شرم الشيخ مع نظرائه في السعودية والإمارات وقطر، وهي الدول ذاتها التي أجرت مصر وتركيا معهم مجموعة من الاتفاقات الاستثمارية بمليارات الدولارات؛ في محاولة لتجاوز التدهور الاقتصادي.
أما على الصعيد السياسي، فهي تأتي في سياق تحاول فيه أنقرة الدفع نحو “تصفير” مشاكلها مع الجيران الإقليميين. وتجلى ذلك في زيارة الرئيس التركي للرياض وأبو ظبي واستقباله للرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتسوج. وهي الدول ذاتها التي تشكل محورا إقليميا مع القاهرة يحمل رؤى مشابهة ومتقاربة بشأن المنطقة.
ويظن إسلام أوزكان، الباحث المتخصص في الحركات الإسلامية في الشرق الأوسط، بأن التقارب بين أنقرة وعواصم الخليج قد يؤدي أيضًا إلى تسريع المحادثات البطيئة، وفقا لحديثه مع موقع “المونيتور“. وفي هذه الأثناء تبدو المصالح الاقتصادية التي يمكن تحققها بمثابة قوة دافعة للتطبيع بين البلدين.
علاقات تجارية “محمية”
يرى كمال كيريشجي، مدير مشروع تركيا الأوروبي في معهد “بروكينجز”، أن زيارة وزير المالية هي محاولة من جانب أردوغان لكسب تأييد الجانب المصري باعتبارات اقتصادية/مالية بالدرجة الأولى. ويقول لـ”مصر 360” إنه “جهد لا يختلف عن زيارته الأخيرة إلى المملكة العربية السعودية حيث احتضن محمد بن سلمان (ولي العهد) الذي انتقده بصوت عالٍ وحمله مسؤولية مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي”.
وأضاف أنه كان لدى كلا البلدين علاقات اقتصادية قوية قبل عام 2013، واستعادة هذه العلاقات هو بالفعل هدف أساسي لأردوغان، “لكنني أشك في أن طبيعة وحجم هذه العلاقات سيكونان كافيين للمساعدة في إنقاذ اقتصادات البلدين، وخاصة تركيا“.
وعلى الرغم من أن زيارة وزير المالية التركي ليست في إطار الزيارات الوزارية الثنائية، إلا أنه “لا ينبغي الاستهانة بها لأنها خطوة مهمة في تطبيع العلاقات الاقتصادية بين مصر وتركيا“، بحسب قول أحمد ذكر الله، أستاذ الاقتصاد بجامعة الأزهر، في مقابلة مع صحيفة “ديلي صباح” التركية.
ذكر الله أكد أن تركيا أصبحت المستورد الأول للبضائع المصرية، خاصة البتروكيماويات. وفي الوقت نفسه، تجاوزت الصادرات التركية إلى مصر 21 مليار دولار في الفترة التي تغطي ما بين 2014 إلى 2021. وأشار إلى أن مصر مستورد صاف لمعظم احتياجاتها سواء كانت منتجات زراعية أو غذائية أو سلعًا مصنعة. وأن المنتجات التركية أصبحت الآن بدائل جيدة للمنتجات الصينية نظرًا لكونها عالية الجودة ويمكن نقلها بتكلفة فعالة بعد الزيادة الكبيرة في أسعار الشحن في آسيا في فترة ما بعد الجائحة.
وقد وقعت القاهرة وأنقرة اتفاقية التجارة الحرة (FTA) في عام 2005، والتي دخلت حيز التنفيذ في عام 2007 وظلت سارية. تضاعف إجمالي حجم التجارة بين البلدين ثلاث مرات تقريبًا بين عامي 2007 و2020، مما يدل على أن كلا البلدين يحمي تبادلاتهما الاقتصادية من الخلافات السياسية.
ويفسر الباحث الاقتصادي عمرو عادلي، في دراسة نشرها مركز “كارنيجي” بأن الذي ساهم في الإبقاء على اتفاقية التجارة الحرة أن العلاقات المصرية التركية سلكت منحًى قويًا نحو التجارة داخل القطاع الصناعي الواحد، أو تبادل المنتجات المستخدمة في القطاع الصناعي نفسه.
ويوضح “تُعتبر التجارة داخل القطاع الصناعي الواحد في الكثير من الأحيان من المؤشّرات الدالّة على وجود تقدّم نسبي في الاقتصادات الأطراف في التبادل التجاري، لأنها ترتكز على تبادل الجانبَين السلع المصنّعة بدلًا من المواد الخام أو المنتجات الأولية. وهذا يعني أن العلاقة الاقتصادية تشمل عددًا أكبر من المنتجين والعمّال والمستثمرين والمستهلكين والموزّعين، ما يطرح السؤال حول حجم التكاليف المباشرة وغير المباشرة التي قد تنجم عن عرقلة التفاعل القائم بين كل هذه الأطراف”.
في عام 2020، كانت تركيا هي ثالث أكبر وجهة للصادرات المصرية وخامس أكبر مصدر للواردات لمصر. في نفس العام، كانت مصر رابع أكبر مستورد للبضائع التركية. ويذكر عادلي أيضا أن تركيا أصبحت وجهة رئيسية للصادرات المصرية غير النفطية في وقت كافحت فيه مصر لتنويع صادراتها بعيدًا عن النفط والغاز الطبيعي.
ومنذ انخفاض أسعار النفط العالمية في عام 2014، سعت القاهرة إلى زيادة صادراتها من المصنوعات. لذلك “كان للتخلي عن اتفاقية التجارة الحرة مع تركيا تداعيات سلبية على الصناعيين المصريين، مما يجبرهم على خسارة أسواق خارجية ثمينة في وقت حرج”، بحسب الباحث.
..وقابلة للتطوير
يعلق ذكر الله “مصر تدرك هذا الأمر جيدًا، بالإضافة إلى حقيقة أن المنتج التركي يحظى أيضًا بشعبية كبيرة في مصر”. وأشار إلى وجود عدد كبير من شركات النسيج التركية العاملة في منطقة برج العرب بالإسكندرية ومناطق أخرى، مما يوفر فرص عمل كبيرة للمصريين تقدر بأكثر من نصف مليون.
يذكر أنه مع نهاية عام 2017، كان أكثر من 305 شركة تركية تعمل في مصر وتوظف حوالي 75000 عامل، مما يوفر فرص عمل غير مباشرة ودخل عائلي لما يقرب من مليون مصري.
بينما يلفت الاقتصادي، مصطفى عبد السلام، للصحيفة أن دولاً ناشئة مثل مصر وتركيا تواجه حاليًا أزمة “على سبيل المثال أزمة الوقود والغاز، وزيادة أسعار المواد الغذائية، إلى جانب التضخم المرتفع الذي يجتاح العالم”. وأشار إلى أن مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي يتبع اتجاها نحو زيادة أسعار الفائدة وبالتالي سحب الأموال والاستثمارات غير المباشرة من الأسواق الناشئة مثل مصر وتركيا.
و”هنا تأتي أهمية زيارة الوزير التركي إلى القاهرة لبحث إمكانية حدوث ذلك. التعاون بين الجانبين في المجال الاقتصادي وإيجاد نقاط تقارب جديدة”. وأضاف أن هناك أنباء عن خطط شركات تركية لزيادة استثماراتها في مصر إلى 15 مليار دولار.
وسلط الخبير الاقتصادي الضوء على أهمية اتفاقية الخط الملاحي التي تم توقيعها في أنقرة عام 2012 والتي تهدف إلى تسهيل نقل الصادرات بين البلدين واستخدام الموانئ المصرية لنقل الصادرات التركية إلى دول مجلس التعاون الخليجي.
وقد “حققت نجاحا كبيرا في البداية إلا أن الخلافات السياسية بين البلدين أوقفتها. أعتقد أن تركيا بحاجة إلى استعادة هذا الخط، خاصة بعد استعادة علاقتها مع دول الخليج. كما تحتاج مصر إلى هذه الاتفاقية لزيادة صادراتها بسبب حاجتها للنقد الأجنبي“.
تقول شبكة “بلومبرج” إنه يمكن للعلاقات الأكثر دفئًا أن تعزز التجارة والاستثمار بالإضافة إلى معالجة الخلافات حول التنقيب عن الطاقة، مما يحقق انتصارًا لمصر أيضًا.
غاز شرق المتوسط كأولوية هامة
يمكن للتقارب بين البلدين أن يوفر نقطة انطلاق مشتركة للسعي التركي لخفض فاتورة الغاز نتيجة إنتاج الطاقة من شرق البحر المتوسط والسعي المصري لأن تكون مركزًا للطاقة في المنطقة. كما قال عبد السلام إنه من الممكن التعاون في إنشاء خط أنابيب مشترك بحيث تصدر مصر الغاز إلى أوروبا، مشيرًا إلى أنه ستكون هناك أيضًا فرص تعاون كبيرة في مجال التنقيب في شرق البحر المتوسط وترسيم الحدود.
ووفقًا لزينوناس تزياراس، الباحث في مركز بريو قبرص، فإن أحد الأسباب الأخرى لجهود أنقرة لإصلاح العلاقات مع القاهرة يهدف إلى تكييف نفسها مع النظام الإقليمي الذي نشأ بعد اتفاقات أبراهام بين إسرائيل ودول الخليج.
ويقول: “من خلال تحسين علاقاتها مع دول شرق البحر الأبيض المتوسط ، تحاول تركيا تفكيك شبكة التعاون الإقليمية التي نشأت مما يسمى بالشراكات الثلاثية -على سبيل المثال، قبرص واليونان ومصر، وقبرص واليونان وإسرائيل- ومنتدى الغاز المتوسطي الذي تعتبره تركيا خطرا”.
ولا يزال الترسيم المحتمل للحدود البحرية بين تركيا ومصر في شرق البحر الأبيض المتوسط هو “المصلحة المشتركة الأكثر أهمية بين البلدين”، بحسب علي باكير، الخبير في الشأن التركي . ويعتقد أنه إذا تم تحقيق ذلك، فسيغير قواعد اللعبة في المنطقة بأسرها.
يدرك البلدان الأهمية الجيوستراتيجية لترسيم حدودهما البحرية -والحديث لا يزال لبكير- لكن التعقيدات الجيوسياسية في الماضي منعتهما من القيام بذلك. الآن، أدركت دول شرق البحر الأبيض المتوسط أنه لا يمكن تنفيذ أي أجندة في المنطقة بدون تركيا. وبالمثل، تؤكد أنقرة أن التعاون والتقاسم العادل للموارد هو الحل الأفضل للجميع.
ويشير في تحليله، المنشور على وكالة “الأناضول” الرسمية، إلى أن دعوة الرئيس التركي أردوغان لعقد مؤتمر لشرق المتوسط لا يستثني أي دولة بمفردها ستوفر المنصة الأكثر ملاءمة لمناقشة الصيغ والأدوات ذات الصلة للاستفادة من الثروات الموجودة تحت سطح البحر.
واكتسبت الموارد الهيدروكربونية في شرق البحر المتوسط أهمية أكبر مؤخرًا على خلفية الغزو الروسي لأوكرانيا ورغبة الدول الأوروبية في تقليص اعتمادها على النفط والغاز الروسي. تسعى تركيا بقوة إلى إقامة تعاون هام في شرق البحر المتوسط مع مصر وإسرائيل.
بينما يظن كمال كيريشجي، مدير مشروع تركيا الأوروبي في معهد “بروكينجز” في حديثه مع “مصر 360” أن التقارب التركي الإسرائيلي قد يفتح الباب أمام الفرص لمصر فيما يتعلق بتصدير الغاز الطبيعي إلى أوروبا. “لكن ما إذا كانت هذه الفرص ستتحقق بالفعل هي مسألة أخرى. أعتقد أنه على الجانبين المصري والإسرائيلي، هناك الكثير من الشكوك حول إمكانية الاعتماد على التعاون مع أردوغان”.
ويتابع “لست مطلعا على المعلومات التي تشير إلى أن إسرائيل تشارك بنشاط في مساعدة مصر وتركيا على إعادة بناء علاقاتهما، لكنني أعتقد أن الإسرائيليين واقعيين للغاية ويتعاونون مع أردوغان طالما أن ذلك يخدم مصالحهم مع اعترافهم بأن أردوغان لا يمكن الوثوق به”.
يختتم باكير “يبقى أن نرى كيف سينتقل المصريون من هذه النقطة فصاعدًا، وما إذا كانت ترتيبات وتحركات الطرف الثالث في المنطقة ستساعد في تسهيل التقارب التركي المصري أو ربما تحديه. وبغض النظر عن ذلك، فمن المحتمل أن يستمر التطبيع لأن التحديات لا تعني أن البلدين لن يختلفا بشأن قضايا معينة، بل يعني أنهما سيواصلان العمل معًا في المجالات ذات الاهتمام المشترك”.