تشهد سوق الأدوية اضطرابا وتفاوتا في الأسعار بين أصناف متشابهة. فضلا عن نقص بعض الأنواع الحيوية كأدوية السرطان. وعلى رأسها “إليمتا” المختص بعلاج سرطان الرئة. فيما أرجأ معهد الأورام خلال الأسبوع الحالي مواعيد بعض جلسات العلاج لتأخر بعض الأدوية.
وبحسب شهادات لمرضى يخضعون لجلسات العلاج الكيماوي بالمعهد فإنه يتم تجميع بعض ما يتبقى بحقنة كل مريض لتكوين جرعة لعلاج مريض آخر في محاولة لتدارك الأزمة. إذ أكد المواطن أبو السعود محمد تأجيل جلسة العلاج الكيماوي لشقيقته هذا الأسبوع بمركز دار السلام لعلاج الأورام في القاهرة بسبب عدم توافر الحقنة.
ورفضت الدكتورة غادة شريف -وكيل المعهد القومي للأورام- التعليق على الأزمة. وقالت: “ليس مصرحا لهم التحدث مع وسائل الإعلام”. فيما حاول “مصر 360” التواصل مع الدكتور محمد عبد المعطي -مدير المعهد- لكنه لم يرد على هاتفه.
وردّت شعبة الأدوية زيادة الأسعار مؤخرا والتي طالت 400 صنف دوائي- إلى نقص الإمدادات العالمية بعد ما حدث من تداعيات الحرب الأوكرانية. بالإضافة إلى تحريك أسعار الشحن وأزمة الدولار في مصر. والتي انعكست على ارتفاع المواد الخام وفقا للدكتور علي عوف -رئيس شعبة الأدوية بالغرفة التجارية.
وقال “عوف” لــ”مصر 360″: “المواد الخام ارتفعت بنسبة 100%. ما دفع الشركات إلى التقدم لهيئة الدواء لبحث تحريك الأسعار بما يتناسب مع تكاليف الإنتاج. وتم رفع الأصناف التي تحتاج إلى زيادة. بينما هناك أنواع أخرى لم تتحرك”.
توافر البدائل
شمل ارتفاع الأسعار أصنافا بالقطاعين العام والخاص بنسب متفاوتة حسب الأنواع التي تحقق خسائر. وذلك لضمان استمرار إنتاجها وتفادي حدوث عجز.
ويرى “عوف” أن الزيادة الأخيرة في الأدوية رغم ارتفاع التضخم عالميا لم تكن كبيرة كالتي حدثت في 2017 وطالت 3500 نوع من 10 آلاف صنف بالسوق بنسبة 50%. بالمقارنة بالزيادة الأخيرة التي شملت 400 صنف من 17 ألف. بنسبة تتراوح بين 15 و20% فقط.
وأشار إلى أن نواقص الأدوية أزمة عالمية مثل ألبان الأطفال في أمريكا. لكن أغلبها متوافرة محليا بالكفاءة ذاتها. ملقيا المسئولية على وزارة الصحة بضرورة إيجاد آلية تلزم بها الأطباء باستخدام الاسم العلمي للدواء للاعتماد على البدائل المحلية الأرخص للتخفيف عن المرضى.
وأوضح أن الشركات الأجنبية تبيع الدواء للدول بأسعار متفاوتة. وعندما يقل الإنتاج يذهب إنتاجها لصالح الدول التي تدفع أكثر. ونحن ننتج كل الأصناف ما عدا التي تحتاج إلى تقنية عالية. لذلك قامت مؤسسة الرئاسة بإنشاء مدينة الدواء باستثمارات 5 مليارات جنيه لكسر احتكار الشركات الأجنبية في الأدوية التي ليس لها بدائل محلية. لأنها تحتاج إلى تقنية عالية تتجاوز المليار جنيه لتصنع في مصر.
ووفقا لـ”عوف” فإن مدينة الدواء بدأت عملية الإنتاج بالفعل لكن تأثيرها سيظهر في السوق نهاية العام الحالي أو مطلع العام القادم 2023. خاصة في توفير النواقص الحيوية كأدوية السرطانات والأمراض المعتمدة على العلاج الهرموني والبيولوجي مثل موانع الحمل الهرمونية وغيرها.
تفاوت الأسعار
يبلغ التفاوت بين أسعار الأدوية المنتجة محليا والمستوردة نحو 40% رغم أنها بكفاءة وجودة واحدة. ولا تطالب شركات قطاع الأعمال العام غالبا برفع الأسعار إلا في حالات نادرة، ويكون ذلك بإضافة عدة قروش على الصنف وفقا للصيادلة.
لكن ثقافة المريض وتمسك الأطباء بكتابة الأدوية بالاسم التجاري في الروشتات أحد أبرز الأسباب في ارتفاع سعر المنتج الأجنبي بسبب زيادة الطلب.
من جانبه قال الدكتور علي عبد الله -مدير المركز المصري للدراسات الدوائية- لـ”مصر 360″ إن الشركات الأجنبية تنفق ملايين الدولارات لترويج أدويتها. والتقليل من كفاءة الأدوية المحلية. قائلا: “هناك مضاد حيوي مستورد شهير سعره 90 جنيها. في حين أن المماثل المصري له سعره 30 جنيها”. مضيفا أن الأدوية الحديثة هي الأغلى سعرا. والدولة تشجع الصناعة المحلية المماثلة للمستورد لحل جانب من المشكلة وبأسعار أقل بكثير من المستورد.
نموذج الهند
نظمت قوانين وقرارات الصيدلة عملية التسعير الجبري للمستحضرات الصيدلانية بتحديد أقل سعر عالمي للمستحضر الأصلي كأساس للتسعير. ما يعني التسعير وفق سعر دول مماثلة كالهند للمستحضرات المثيلة للشركات العامة والخاصة. بما يقل بنسبة 35% عن أقل سعر عالمي. وبتحديد هامش ربح لا يجاوز 25% للمصنع بعد استبعاد التكاليف. و7% للموزع. و25% للصيدلية لباقي المستحضرات. ومنها المكملات الغذائية المسجلة على شكل صيدلي بحسب الدكتور هاني سامح -الخبير الدوائي.
وأوضح أن صناعة الدواء غير مكلفة في خامتها وطرق التصنيع. حيث إن الخامات هي أقل المدخلات في تلك الصناعة. لأن العالم المتقدم بأسره يعتمد على الخامات الصينية والهندية والشرق آسيوية. والكيلوجرام الواحد لأي خامة لا يزيد سعره على 100دولار في الأغلب. فيما ينتج الكيلو ملايين الأقراص والعبوات الدوائية. التي غالبا يتم وزنها بالمللي جرام، بل وأقل.
فمادة مثل “الكلوبيدوجريل” المضادة للتجلطات يبلغ سعر المستحضر منها -التابع لشركة أجنبية- 205 جنيهات. بينما يبلغ سعره لشركة محلية 5 جنيهات. رغم أنه بالخامة نفسها وطرق التصنيع والمكونات والكفاءة والجودة ذاتها. ويشمل سعر الخامات التوصيل إلى مطارات أو موان بحرية. ما يؤكد أن هذا المدخل غير مؤثر ولا يصح التحجج به لزيادة أسعار الأدوية والمكملات الغذائية.
أرباح فلكية
وقال “سامح” إن شركات الأدوية تحقق أرباحا ضخمة من تجارة الأدوية والمرض. والعديد من الشركات تقوم بتنظيم رحلات ترفيهية لجميع موظفيها من مندوبي الدعاية الطبية. كما تهدي رحلات للأطباء وأسرهم لحضور مؤتمرات عالمية تنعقد في منتجعات سياحية كنوع من الرِّشى الطبية لكتابة مستحضرات تنتجها الشركات في الروشتات. رغم صدور أحكام مغلظة ضد تلك الشركات وتغريمها مليارات الدولارات عن هذا المسلك.
وطالب وزارة الصحة وهيئة الدواء المصرية وإدارة سلامة الغذاء بالتصدي لألاعيب شركات الأدوية. وذلك بإعادة تسعير المستحضرات بما يحمي حق المريض في العلاج. وأيضا يضمن تنفيذ القانون في تحديد هامش ربح مناسب للشركات دون تغول.
سمسرة “التول”
يبلغ عدد مصانع الأدوية في مصر 154 مصنعا. يسيطر 30 مصنعا منها على 90% من حجم سوق الدواء المصري. فيما تغطي الشركات القابضة التابعة لقطاع الأعمال نحو 5% من السوق. ويتبقى 5% تتقاسمها باقي الشركات -بحسب رئيس شعبة الدواء بالغرفة التجارية.
وأضاف أن هناك نحو 20 مصنعا تغطي تكاليف إنتاجها ونحو 90 مصنعا خاسرا. فضلا عن ما لا يقل عن 300 شركة غير مرخصة تعمل في إنتاج بعض المستحضرات مثل شاي التخسيس بتصريح من المعهد القومي للتغذية.
ويلعب نظام ” التول” دورا رئيسيا في صناعة الدواء. فضلا عن مسئوليته عن موجات نقص الدواء التي مرت بها مصر ولا تزال تعاني منها. وهي المكاتب الحاصلة على رخص من وزارة الصحة ممثلة في إدارة الصيدلة لدخول ما يسمى بـ”البوكس” أو الصندوق الذي يضم عشرات الأصناف المماثلة للأدوية الأصلية يسمح بصناعتها محليا. ولكن هذه المكاتب لا تمتلك المصانع. بل تتعاقد مع مصانع أدوية لإنتاج أدويتها وهو ما يعرف بـ”التصنيع لدى الغير”.
ويعتبر “التول” نوعا من السمسرة. إذ يحجزون ملفات في بوكسات الأدوية ثم يعرضونها للبيع بهدف الربح السريع.
وتتصارع مكاتب التول على شراء ملفات تسجيل الأدوية الجديدة مقابل تسديد مبلغ بسيط في الإدارة المركزية للصيدلة بوزارة الصحة. ثم تعيد عرضه للبيع بمبالغ خيالية. مثلما حدث في بداية تصنيع عقار “سوفالدي” كعلاج لفيروس (سي) محليا. حيث بلغ سعر بيع ملف تصنيع السوفالدي إلى 7 ملايين جنيه في ذلك الوقت. بسبب امتلاء البوكس وعدم وجود فرصة للتسجيل.
ووفقا للدكتور أسامة رستم -نائب رئيس غرفة صناعة الأدوية- فإن عدد مكاتب التول في مصر 1300 مكتب. لكن الجادين في الإنتاج لا يتجاوز عددهم 300 مكتب.
وأشار إلى وجود بين 55و60 مصنعا لا تزال تحت الإنشاء أو جاهزة للإنتاج ولا تجد مكانا في صناديق الأدوية “البوكسات” للتسجيل. في حين أن ما يقرب من 1000 شركة تول تحتكر ملفات الأدوية لتحقيق مكاسب عبر السمسرة.
إعادة فتح التراخيص
وعاد “عوف” ليؤكد أن التقييد على شركات التول الصغيرة ووقف تراخيصها وفقا للقرار رقم 9 لسنة 2015 يصب في صالح كبار المصنعين المسيطرين على السوق.
وأوضح أن الشركات الكبيرة تحارب هذه الشركات الصغيرة لاحتكار السوق والسيطرة عليه. مستشهدا في ذلك بما حدث في أزمة البنسلين. التي تعرضت لها مصر في النصف الثاني من عام 2017. عندما توقفت شركة كانت تغطي 80% من استهلاك السوق وإمدادها بأربعة ملايين عبوة مستوردة من البنسلين طويل المفعول. فيما تنتج أربع شركات 2 مليون عبوة محليا فقط. وهذا ما أشعل الأسعار.
وأضاف أن شركات التول موجودة في معظم دول العالم التي تميزت في صناعة الدواء. واستطاعت تحقيق اكتفاء من عقار “السوفالدي” في مصر بعد أن أتاحت الدولة فتح باب التسجيل لهذه الشركات. فانخفض السعر من 25 ألف دولار إلى 14 ألف جنيه. ومع زيادة التسجيل وصلت الأسعار إلى 400 و200 جنيه.
ولفت إلى أن معظم شركات التول تمتلكها من الباطن شركات كبرى ليتاح لها الاستفادة بملفات الأدوية المسموح بها لكل شركة لإنتاج أصناف متعددة. لتزيد أرباحها. مؤكدا أن إعادة فتح باب الترخيص لشركات التول ستقضي على مشكلة النواقص وستصب في صالح سوق الدواء المصري.
أزمة التصنيع
الدكتور رؤوف حامد -أستاذ علم الأدوية والسموم بجامعة الإسكندرية ورئيس هيئة الرقابة على الدواء سابقا- يرى أن الشركات العاملة في مجال تصنيع الدواء تفتقد استراتجية خاصة بالبحث والتطهير. وقال إن سبب ذلك هو الاعتماد على استيراد المادة الفعالة. حيث يقتصر البحث على النوع التطويري أكثر من التطبيقي. كما تفتقد الشركات التعاون مع الجامعات ومراكز البحوث.
وأوضح لـ”مصر 360″: نحن في حاجة إلى استراتجية بحثية في التطبيق والقطاعات الأخرى وتقديم حوافز اقتصادية تساعد على المنافسة”.
وتعتمد مصر في صناعة الأدوية على استيراد المواد الخام. وهو أحد الأسباب الرئيسية في ارتفاع الأسعار. حيث يحتاج استخلاص المادة الخام وإعدادها إلى تقنية عالية. فيما تتجه مصر حاليا لإقامة مصانع لإنتاج المواد الخام لتقليل الاستيراد.
وتعتبر الهند صاحبة تجربة رائدة فى تصنيع وتصدير المواد الخام الدوائية. حيث أنشأت معهد هندوستان للمضادات الحيوية عام 1958 بمساعدة الاتحاد السوفييتي. وافتتحت منشآت للأبحات لتطوير الأدوية ونافست الشركات العملاقة في صناعة الأدوية. وتحولت إلى أكبر دولة مصدرة للمواد الخام الدوائية حتى أطلق عليها لقب “صيدلية فقراء العالم”.
وقد بدأت التجربة المصرية في تصنيع المواد الخام للدواء بعد الهند بعامين عام 1960. لكن التجربة المصرية تخلفت وأصبحت من أكبر الدول المستوردة للمواد الخام الدوائية.
اتهامات متبادلة
اتهامات متبادلة بين الصيادلة والشركات حول المستفيد من أزمة الأدوية. فبينما يرى الصيادلة أن رفع الأسعار يصب في مصلحة الشركات وحدها وتفرض هيئة الدواء على الصيدلي البيع بالسعر المدون على العلبة. ترفض الشركات تسليم الأصناف الحيوية والنواقص دون خصم “هامش ربح”. ما يعرض الصيدليات لخسائر بسبب التوسع في هذا النظام.
الدكتور ثروث حجاج -رئيس لجنة الصيدليات بالنقابة العامة للصيادلة- أوضح أن فوضى التسعير ورفع الأسعار لا يد للصيدليات فيها. فالصيدلية تتلقى منتجا مسعرا رسميا ولا تستطيع تغييره.
وانتقد “عدم الشفافية” في تحريك أسعار بعض الأصناف. في حين بقيت أصناف أخرى لسنوات طويلة دون زيادات. ما يؤدي إلى خسائر كبيرة للجهات المنتجة فيضطرون إلى وقف إنتاج هذه الأصناف ولا يتبقى بالسوق إلا الأصناف الدوائية الغالية. ملقيا المسئولية على الأطباء في ترويجهم للأصناف الأعلى سعرا.
تلاعب
وقال “حجاج” إن أكثر من 35% من أنواع الأدوية في مصر تسجل على أنها مكملات غذائية في معهد التغذية لتحرير سعرها. ومنها بعض أنواع أدوية الكحة وعلاج الكبد والمغص وأدوية القلب والمنوم.وهذه في حد ذاتها كارثة أخرى في سوق الأدوية.