في ذات وقت احتفال الكنيسة القبطية بختام مؤتمر “لوجوس.. العودة للجذور” -ملتقى سنوي لشباب الأقباط المهاجرين يعقد بدير الأنبا بيشوي بالنطرون- فإن المقر الباباوي للكنيسة القبطية بأمريكا الشمالية كان يعد قرارًا لشلح القمص أنطونيوس كونور كاهن الكنيسة القبطية بسانت توماس بجزر الفيرجين الأمريكية. وذلك بعد أن استقل بكنيسته ورفض الخضوع للسلطة البابوية ورفض المثول أمام المجلس الإكليريكي لمحاكمته وفقًا لبيان رسمي صادر عن إيبارشية أمريكا الشمالية ممهورًا بتوقيع الأساقفة الأنبا ديفيد والأنبا كاراس -الأساقفة الأقباط بالولايات المتحدة الأمريكية. حيث تمت إعادته لاسمه العلماني سيريل كونور.
تفاصيل شلح كاهن قبطي أمريكي الأصل في جزر ڤيرجين
يقول ماركو الأمين -الباحث المتخصص في تاريخ الكنيسة- إن الكاهن المشلوح مواطن أمريكي يقطن جزيرة سان توماس في جزر ڤيرجين الأمريكية. وهي جزء من جزر الكاريبي. مضيفًا: “في أواخر التسعينيات وصلت الخدمة الكنسية القبطية في الولايات المتحدة لمنطقة الكاريبي. واعتنق سيريل مذهب القبطية الأرثوذكسية. وتم ترسيمه (كُلف بالخدمة) كاهنا قبل عام 2004 باسم أنطونيوس وبجهد وكثير من الصراعات حتى أمام المحاكم المدنية نجح أنطونيوس كونور في بناء كنيسة مارمرقس في جزيرة سانت توماس جزر فيرچين. وأغلب شعبها إن لم يكن كله من سكان الجزيرة.
واستكمل الأمين: “أصبحت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية هي ممثلة العائلة الأرثوذكسية في هذه الجزيرة. وبعد رسامة أنبا كاراس أسقفًا لإيبارشية بنسلڤانيا خضعت المنطقة لإدارته لكن أنطونيوس رفض الطاعة ومنع زيارات الأساقفة الأرثوذكس الأقباط هناك”.
حكاية أنطونيوس كونور -الذي صار سيريل- تطرح أسئلة عن طبيعة الخدمة للكنيسة القبطية الأرثوذكسية في المهجر. وهو ما يوضحه أنيس عيسى -باحث الدكتوراه في علم الاجتماع الديني بجامعة باريس- بقوله:
“الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تقليدية ومرتبطة بحيز جغرافي معين وهو كرسي الإسكندرية -أحد الكراسيّ الكنسية الخمسة في العالم المسيحي القديم. وهي إيبارشيات تاريخية كان العالم يحتكم إليها قبل مرحلة ما يسمى الفتح العربي الإسلامي. ومن ثم يسيطر عليها فكرة ضرورة البقاء في المقام الأول ثم العمل الكرازي -التبشيري- كهدف ثان. ثم أصبحت تسمى وادي النيل وأورشليم”.
سردية كنيسة الإسكندرية منذ التأسيس
ووفقًا لماركو الأمين فإن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية -المعروفة باسم الإسكندرية- تأسست حين قاد مرقس الرسول أول حملة تبشير مسيحي داخل الإسكندرية والخمس مدن الغربية الليبية عام 60 ميلادية. وامتدت الحملة حتى وصل عدد المسيحيين إلى 20% من السكان. وفي القرن الرابع الميلادي تولت الكنيسة القبطية عملية تنظيم كنيسة إثيوبيا على يد فرومنتيوس الصوري بالتزامن مع حركة تبشير بلاد النوبة وباقي أراضي مصر والبلاد المتاخمة لها.
يضيف: “ثم توقفت تلك الأعمال التبشيرية المؤسسية وإن كانت لم تتوقف بشكل فردي. وخسرت الكنيسة القبطية كل امتداداتها التاريخية بحلول القرن السادس عشر. ثم عادت خدمة وكرازة الكنيسة القبطية أواسط القرن التاسع عشر مع ترسيم أسقف قبطي للسودان. لكن أول حركة انضمام واسعة للكنيسة القبطية كانت في عهد يوساب الثاني -بطريرك الكنيسة- الذي توفي عام 1956م. والذي كلف أول أسقف قبطي للخدمة في أفريقيا -الأنبا مرقس- الذي توفي في ظروف غامضة بعدما عاد إلى مصر.
كيف أثرت “حركة ضباط يوليو” في توجهات الكنيسة؟
يؤرخ “عيسى” للكنيسة القبطية في العصر الحديث فيقول: “بعد حركة الضباط الأحرار في يوليو/تموز 1952 بدأت هجرة الأقباط من مصر إلى الخليج وأمريكا الشمالية وأوروبا. وقتها تفتق ذهن البابا كيرلس السادس إلى ضرورة بناء كنائس في المهجر تربط الأقباط بالوطن الأم وتستوعب خصوصيتهم التاريخية والدينية. وبدأت حركة تأسيس كنائس قبطية أرثوذكسية خارج مصر. حيث تأسست الكنيسة الأولى بالمهجر في الكويت عام 1961. تلتها كنيسة بكندا عام 1964.وبعدها أمريكا ثم أستراليا وهكذا حتى قارب عدد كنائس المهجر 650 كنيسة مثلما يؤكد البابا تواضروس الثاني.
يلفت “عيسى” النظر إلى طبيعة الخدمة الكنسية في الغرب قائلًا: “كنائس المهجر تأسست بنية ربط المهاجرين بالكنيسة الأم في مصر في المقام الأول. وليس بغرض التبشير هناك. وإن كان ذلك يحدث عرضًا لكنه لم يكن السبب الذي تأسست لأجله كنائس المهجر. ونفهم ذلك من ملتقى الشباب القبطي الذي اتخذت الكنيسة عبارة (العودة للجذور) شعارًا له. وهو شعار يفهم منه بوضوح غرض التأسيس.
يختلف “الأمين” مع ما طرحه “عيسى” فيقول: عام 1971 تولى البابا شنودة الثالث كرسي البطريرك وقد قاد حركتين متوازيتين بالمهجر. الأولى خدمة أقباط المهجر في كل العالم. أما الحركة الثانية فهي حركة تبشير وكرازة لغير القبط وضمهم للكنيسة الإسكندرية. وظهر هذا الخط بوضوح بعد 1986م.
وأضاف: في عهد البابا شنودة كان مجمع الكنيسة المقدس يضم أربعة أساقفة غير أقباط (أي ليسوا في الأصل قبط وإنما أجانب انضموا للكنيسة القبطية). تقلص عددهم حاليًا إلى واحد فقط. وفي عصر البابا تواضروس لم تعد الكنيسة مشغولة بضم الأجانب لها كخدام أو كهنة أو رهبان أو في عضوية الكنيسة عموما. وصار توجه الكنيسة في المهجر هو خدمة الأقباط فقط.
الكنيسة القبطية.. عرقية أم جامعة؟
يرى “الأمين” أن الكنيسة القبطية كنيسة ذات بعد إثني أو عرقي. فهي ليست كنيسة ذات بُعد عالمي مثل الكنيسة الكاثوليكية الجامعة. فالكنيسة القبطية لا تسعى إلى ذلك بينما تتمحور حول الرؤية القبطية الانتماء القبطي (هنا بمعنى المصري) . وهي كلها أمور لها علاقة بالهوية وليس المسيح نفسه.
بينما يترك “عيسى” مستقبل الكنيسة القبطية في المهجر بين يدي الزمن والمتغيرات الكبرى في علاقة الفرد بالكنيسة. لا سيما في المجتمعات الغربية. فإما أن تستجيب الكنيسة القبطية للأبعاد الحضارية. وإما أن تعاني مع أجيال من المهاجرين لا تقنع بالأجوبة السهلة والجاهزة.