يبدو أنه ليس السلطات السياسية هي فقط التي تكره السوشيال ميديا بل يمتد الأمر ويتسع ليشمل على ما يظهر كل سلطة، بما فيها السلطة الدينية. تشابه السلطات أيا كانت لا يقف عند هذا الحد، فهي كما تكره السوشيال ميديا وتنعتها بأسوأ الصفات، لا تستغني هي نفسها عن استخدامها والاستعانة بها.
لا يفوت قداسة البابا تواضروس الثاني -بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية- فرصة لانتقاد مواقع التواصل الاجتماعي إلا واستخدمها.
البابا يرى أن السوشيال ميديا مصدر للشائعات والأكاذيب. يقول في إحدى عظاته إن تبادل الأخبار المزعجة يسبب الخوف ويضعف إيمان الإنسان. وكذلك المواقع المزعجة ومن نسميهم الأشخاص المزعجين الذين لا يعرف حديثهم سوى الأمور المقلقة. لذا يجب تجنب مثل هؤلاء الأشخاص. مؤكدا أن من يدرسون علم الاجتماع وجدوا أن انتشار مواقع التواصل الاجتماعي أدى إلى ازدياد القلق الذي يؤدي لضعف الإيمان.
البابا: تنشر الأكاذيب
وفي عظة ثانية يقول البابا إن الكتابات التي تمس السيرة أو تشوه الشخصيات أو تنشر الأكاذيب في مواقع التواصل أقوى من الرصاص. مضيفا: “احذر أن تكون كتابتك قاتلة. فما تكتبه أنت مسئول فيه عن كل كلمة. وكتاباتك المسمومة تسفك بها دماء الآخرين وستحاسب على أفعالك”.
غير أن قداسة البابا تواضروس الذي يرى في مواقع التواصل الاجتماعي شرًا مستطيرًا يطل على شعبه كل أربعاء في العظة الأسبوعية التي تبث عبر مواقع التواصل الاجتماعي. بالإضافة إلى صفحة المتحدث الرسمي باسم الكنيسة على موقع “فيسبوك” والتي تعتبر المصدر الرئيسي لأخبار الكاتدرائية.
لماذا تزعج السوشيال ميديا رجال الدين؟
في دراسة أجرتها جامعة نوتردام عن السوشيال ميديا والكنائس رأت أن الشباب الذين يتعرضون لصفحات الكنائس والعظات والخدمات أونلاين هم أكثر قابلية للانتماء لكنيسة عن غيرهم ممن لا يتعرضون لهذا المحتوى. ولكنها في الوقت نفسه لفتت النظر إلى أن السوشيال ميديا سحبت البساط المعرفي من تحت أرجل رجال الدين. بمعنى أنها منحت المستخدمين -لا سيما الشباب- سلطة مساءلة رجال الدين وانتقادهم بشكل لم يكن مسموحًا من قبل.
كذلك فإن سيولة المعلومات وإتاحتها إلكترونيًا جعلت من رجال الدين أحد مصادر المعرفة بعدما كانوا المصدر الوحيد للمعرفة الدينية. ما أسهم في التشكيك في أفكارهم وأطروحاتهم ومحاججتها والرد عليها.
دراسة أخرى أجريت في جامعة بيلور الأمريكية لعالم الاجتماع باول ماكلور تؤكد أن عالم الديجيتال أثر في الدين. موضحًا: “نقضي ساعات طويلة على مواقع التواصل الاجتماعي. ومن ثم فإن ما يدور فيها من نقاشات يعيد تشكيل شخصياتنا”.
ماكلور يؤكد أن نقاشات السوشيال ميديا تشكل تحديًا للدين. فكثير من الشباب الغربي يتجه نحو التعددية وقبول الآخر. حتى وإن تعارض ذلك مع الدين نفسه. مشيرًا إلى أن “فيسبوك” أظهر قدرة على تغيير اتجاهات الرأي العام في قضايا مثل الانتخابات مثلًا ومن ثم وبكل تأكيد فهو يلعب دورًا في تغيير اتجاهاتنا الدينية.
يرجع كمال زاخر -الكاتب المتخصص في شئون الكنيسة- قلق البابا تواضروس ورجال الدين عامة من مواقع التواصل الاجتماعي إلى ما يسميه “تآكل النظرية الأبوية”. فلم يعد رجال الدين هم أسياد المعرفة الدينية.
وبالنظر إلى الكنيسة الأرثوذكسية وطبيعتها الكهنوتية فالكاهن هو صاحب سلطان الحل والربط ولا يجوز انتقاده. بينما أتاحت مواقع التواصل الاجتماعي ذلك.
الكنيسة تدشن قناتها على “فيسبوك”
في نهاية عام 2020 دشنت الكنيسة القبطية الأرثوذوكسية قناة على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك تحت اسم “coc”. وهي أول قناة قبطية على السوشيال ميديا متخصصة في بث إنتاجات الكنيسة وأخبارها. وذلك في حضور البابا تواضروس الثاني بمناسبة العيد الثامن لتجليسه على الكرسي البابوي. وكذلك العيد السابع لتأسيس المركز الإعلامي القبطي للكنيسة.
ومنذ انطلاقها نالت قناة coc اهتمام البابا تواضروس وأشاد بها أكثر من مرة. الأمر الذي دعا القائمين عليها لإنتاج وبث عدد متنوع من البرامج الدينية المسيحية.
معارك البابا الافتراضية
أما البابا تواضروس الثاني فقد عانى منذ تنصيبه عام 2012 من أثر مواقع التواصل الاجتماعي عليه في الإدارة الكنسية.
ففي البداية كان الأقباط يقارنونه بالبابا شنودة الثالث وكأنها مشنقة منصوبة مسبقًا للبابا تواضروس لا تتيح له حرية الحركة. ثم بدأت الحركات المطالبة بطلاق الأقباط تتشكل وتمارس صداعًا للكاتدرائية. حتى انطلقت حملة إلكترونية عام 2015 بعنوان “تمرد” ضد البابا مستلهمة الاسم السياسي لحركة تمرد -التي أسقطت حكم جماعة الإخوان في مصر- داعية لسحب الثقة من البابا. وهي كلها أدوات سياسية تم الزج بها في المعترك الديني.
وتشكلت الحملة من متضرري الأحوال الشخصية أساسا. ومع الوقت بدأت الكنيسة في إقرار لائحة جديدة لحل قضية الأحوال الشخصية. فظهرت حركة “حماة الإيمان” المناهضة للبابا أيضًا على مواقع التواصل الاجتماعي تتهم البطريرك ومعاونيه بـ”التفريط في الإيمان الأرثوذكسي”.
ويدعم الحركة بعض الأساقفة. ما جعلها تزداد شراسة بعد مقتل الأنبا إبيفانيوس عام 2018. ما اضطر البابا لإلزام الرهبان بغلق مواقع التواصل الاجتماعي ضمن قرارات ضبط الرهبنة التي صدرت بعد الحادث.
إخفاق
وقد حظي قرار البابا ذاك بقبول في الأوساط القبطية -إكليروس وعلمانيين”أي غير المنتمين للسلك الديني الكنسي”- إلا أنه لم يعد معمولًا به حتى اليوم. فما زال الرهبان نشطين على مواقع التواصل وكذلك الأساقفة.
أمام كل تلك العوامل رأى البابا في السوشيال ميديا شرًا كبيرًا. غير أن الكاتدرائية لم تنجح بالمقابل في قلب المعادلة لصالحها رغم وجود صفحات مسيحية ذائعة الصيت تابعة للكنيسة وتحظى بملايين المشاهدات. إلا أنها لم تكسب حرب الاستقطاب الكنسي.
وبتحليل نشاط الكنيسة فإن صفحة متحدث الكنيسة لا تزال تتأخر في التفاعل مع الأحداث الهامة حتى تتكاثر الشائعات. كذلك فإنها لم تستطع طوال تلك السنوات رسم صورة ذهنية محددة للبابا تواضروس الثاني كقائد للكنيسة وبطريرك لملايين المصريين في الداخل والخارج. فليس هناك سياسة إعلامية واضحة للتفاعل والتواصل على السوشيال ميديا. باستثناء بعض المبادرات كبرنامج “البابا وأسئلة الشعب”. الذي كان البابا تواضروس يظهر فيه ليرد على أسئلة الشباب. فضلا عن بعض برامج الأطفال التي ظهر فيها قداسة البابا يحكي حواديت للأطفال. وهي خدمته المفضلة منذ أن كان طالبًا في الثانوي.
تستطيع الكاتدرائية أن تحسم حرب مواقع التواصل الاجتماعي لصالحها إن تمكنت من بناء استراتيجية علمية وسريعة للتواصل مع الجمهور ورصد شائعات السوشيال ميديا والرد عليها في الحال. وقيادة حملات تبادر بها للتغيير دون أن يقتصر دورها على ردود الفعل.