لم يمر أسبوع واحد على حادث كنيسة أبو سيفين بإمبابة حتى اندلع حريق جديد بكنيسة الأنبا بيشوي بالمنيا الجديدة. لم يسفر عن أي خسائر في الأرواح. وإن كان الدور الأرضي للكنيسة الذي يضم الهيكل والمذبح قد تدمر بالكامل.
الكنيسة القبطية أصدرت بيانًا اليوم الأربعاء. وقد أكدت فيه أن تحقيقات النيابة العامة والمعمل الجنائي توصلت بعد تفريغ الكاميرات إلى أن منشأ الحريق يعود لبعض الشموع التي كان يلهو بها طفلان من أبناء الكنيسة عن غير قصد منهما. إذ استدعت النيابة العامة الطفلين وأسرتيهما وأقرا بما جاء في التسجيلات التي كشفت عنها الكاميرات.
البيان أشار كذلك إلى أن النيابة العامة “تقوم بواجبها مشكورة بالتنسيق مع وزارة الداخلية في التحريات والتحقيقات التي تمت بسرعة وجدية وشفافية”. على أن تبدأ إيبراشية شرق المنيا في إصلاح الكنيسة وإعادتها لحالتها الأصلية. وطالبت الجميع بعدم الالتفات إلى الشائعات والمعلومات المضللة.
اقرأ أيضًا: حرائق الكنائس.. كيف نتجاهل الأرقام وننتظر المعجزات؟
بينما وجه الكاتب الصحفي سليمان شفيق صاحب كتاب “وصف مصر بالمنياوي” النظر إلى أن الكنيسة استقبلت كرنفالًا للأطفال في نفس يوم الحريق. وقد ضم 250 طفلًا من رعايا الكنيسة، ضمن الخدمات التي تنظمها الكنائس صيفًا. مؤكدًا أن كنيسة الأنبا بيشوي بنيت على مساحة كبيرة وفي مدينة المنيا الجديدة ذات التخطيط العمراني المتطور وفي موقع ممتاز وبمبنى مستقل.
“نثق في النيابة العامة التي تصدر بيانات توضح فيها ما جرى في كنيسة المنيا الجديدة”؛ يقول شفيق.
المنيا الجديدة ونظريات العمران الاجتماعي
أما الأنبا مكاريوس أسقف ايبراشية المنيا فيوضح، في تصريحات خاصة لـ”مصر 360″- أن مطرانية المنيا كانت قد حصلت على قرار تخصيص لقطعة أرض كمبنى خدمات في مدينة المنيا الجديدة. ثم تم تحويلها إلى كنيسة. وبدأت الصلوات فيها قبل عام 2017 بالتزامن مع صدور القانون 80 لبناء وترميم الكنائس الذي صدر في الربع الأخير من عام 2016.
الأنبا مكاريوس الذي كان أسقفًا عامًا لكنائس المنيا وأبوقرقاص وصار أسقفًا لإيبراشية المنيا أوضح أيضًا أن الكنيسة خضعت للمعاينة من قبل اللجنة الوزارية المشكلة لتوفيق أوضاع الكنائس غير المرخصة في أكتوبر عام 2021. ثم صدر لها قرار من مجلس الوزراء يقنن أوضاعها ككنيسة رسميًا. وكان ذلك ضمن 2400 كنيسة رخصتها الحكومة رسميًا.
الفارق بين كنيستي أبوسيفين والمنيا الجديدة بنائيًا ومعماريًا يترجم نظرية عالم الاجتماع الفرنسي لوفيبر، الذي فرق بين المساحة والمكان.
حسب لوفيبر، فإن الفضاء هو المعنى المطلق للمساحات التي يتحرك فيها البشر أو حتى الطبيعة. بينما تتحول إلى مكان حين تحدث تفاعلات سياسية واجتماعية فوقها. ومن ثم، فإن المكان يصبح أكثر خصوصية من الفضاء، ويعمل كمسرح لتلك التفاعلات، وهو ليس أرض مصمتة.
ما بين الخدمي والروحي.. هل تفض الكنائس الاشتباك؟
كنيسة أبوسيفين التي بنيت في زقاق ضيق -حسب تعبير دكتورة نيفين القباج وزيرة التضامن الاجتماعي في حوار تلفزيوني سابق- مساحتها لا تتخطى 120 مترًا. وقد بنيت في عصر مبارك، وفي ظل غياب قانون ينظم عملية بناء الكنائس. فلا مخارج للطوارئ ولا سلالم آمنة، مثلما كشفت وزيرة التضامن التي أكدت أن حكومتها بصدد مراجعة هذه المباني مرة أخرى؛ لأنها بنيت في ظروف مختلفة لم تكن فيها القيادة السياسية تتوسع في بناء الكنائس كما يحدث الآن.
أما كنيسة المنيا الجديدة فهي ابنة زمن مختلف، وهو ما تكشفه الجغرافيا والمعمار. فالكنيسة مبنية على مساحة شاسعة كمبنى كنسي مستقل من عدة أدوار. وذلك بالشكل الذي يسمح بتأمينه بأجهزة إطفاء حديثة وبنية تحتية قوية، في ظل نظام يرغب في معالجة أخطاء الماضي والتوسع في بناء كائس تلبي حاجة الأقباط للصلاة.
أكد الرئيس عبد الفتاح السيسي مرارًا على تخصيص قطع أراضي للطوائف المختلفة في المدن الجديدة ضمن التخطيط الأولي لتلك المدن.
وزيرة التضامن كشفت كذلك أن الدولة ستعمل على الرصد الميداني لتلك الكنائس غير الآمنة من أجل مراجعتها والبحث عن حلول لتلك الأزمة الموروثة. وأشارت إلى أن الكنيسة كانت تضم حضانة غير مرخصة، حيث تخضع الحضانات في مصر لتراخيص وزارة التضامن الاجتماعي.
اقرأ أيضًا: دور عبادة الأقباط.. إرث “مبارك” الذي أحرق كنيسة المنيرة
لا يمكن فهم تصريحات وزيرة التضامن دون النظر لطبيعة المؤسسة الكنسية نفسها. فمنذ القرن التاسع عشر تحديدًا، حين أسس القديس حبيب جرجس مدارس الأحد، تعمل الكنائس في مصر في مجال الخدمة التعليمية الاجتماعية للرعايا الأقباط. حيث تجد في الكثير من مباني الكنائس حضانات للأطفال أو مؤسسات تقدم الخدمة المجتمعية. وذلك ضمن مباني الخدمات الملحقة بالكنائس. بالإضافة إلى خدمات مدارس الأحد التي تقدم للأطفال بالشكل الذي يجعل التفريق بين ما هو كنسي وما هو اجتماعي أمرًا صعبًا. إلا أن اتباع إجراءات الأمن والسلامة يلزم جميع الأطراف بالكشف عن طبيعة المباني الكنسية والأنشطة التي تمارس فيها بشفافية.
الكنائس القديمة.. بين الحماية المدنية والحلول البديلة
ثمة تحد آخر، ففي الوقت الذي تبدي فيه الدولة رغبة في مراجعة ملف الكنائس التي بنيت في منازل ككنيسة أبي سيفين، والتي تنتشر بشكل واسع في القرى والريف في ظل الزيادة المضطردة لأعداد الأقباط، فإن الدولة نفسها تواجه انتقادات حقوقية في حال ما إذا تم إغلاق كنيسة بشكل عام، وذلك دون النظر لمستواها بنائيًا وإنشائيًا. الأمر الذي يتطلب تنسيقًا بين الدولة والكنيسة للوصول إلى حل لهذه الأزمة.
تنسيق مشترك يزيد الوعي بالسياق الكنسي لدى مؤسسات الدولة، ويوضح الفلسفة التي بنيت بها الكنائس القديمة. ففي النظام الكنسي يصلي الرعايا في أقرب كنيسة لمحل إقامتهم. ذلك لأن الكنيسة تلعب أدوارًا اجتماعية أكبر من كونها مكانًا للصلاة. ومن ثم فإن البحث عن مناطق بديلة لبناء كنائس بمواصفات أفضل في مناطق ذات كثافة سكانية عالية أو في الريف أو القرى قد يصطدم بهذه التشابكات والتعقيدات.
يقول القس موسى إبراهيم، المتحدث الرسمي باسم الكنيسة القبطية، إن الكنيسة لديها خبرة طويلة في إدارة التجمعات البشرية والصلوات بأعداد كبيرة. ولكن ذلك لا يتعارض مع أن نكتسب خبرات جديدة من خلال الأحداث التي نمر بها. ومن بينها الأحداث الأخيرة.
ويوضح المتحدث الرسمي: الكنيسة تحرص دومًا على التوصل لأفضل إجراءات أمن وسلامة وحماية مدنية للحفاظ على كنائسها. ويلفت النظر إلى أن الكنائس تهتم بإجراءات الحماية المدنية بشكل عام. “غير أن الحادث الأخير تجربة تعلم دروسًا جديدة”؛ على حد قوله.