في أحد المتاجر الشهيرة على الطريق الدائرة بحي المعادي في القاهرة، اصطف المواطنون في انتظار وصول الأرز، بعد إعلان “الماركت” عن وصول أرز بلدي بسعر 22 جنيهًا. وفي إحدى الجمعيات الاستهلاكية بمنطقة وسط البلد بالقاهرة، وقف عدد من المواطنين يتحدثون سويًا عن الأسعار. بينما ينتظرون قدوم كمية من الأرز، كان قد أٌعلن عنها منذ الصباح.
من أجل ضبط السوق وتوفير الأرز للمستهلك، أعلنت هيئة السلع التموينية مع بداية فبراير/ شباط الجاري استيراد حوالي 30 ألف طن أرز أبيض طبيعي قصير الحبة بنسبة كسر 10% معبأ لحساب الشركة القابضة للصناعات الغذائية. على أن يطرح في الأسواق قبل حلول شهر رمضان.
رحلة بحث عن الأرز
يدور الحديث هنا وهناك، عن مشكلة الأرز التي تتزايد بشكل يومي على مستويين مختلفين؛ الأول، اختفاء المنتج من مناطق كثيرة، والثاني، استمرار ارتفاع سعره. تُشعرهم هذه الأزمة بالقلق مما سيحدث مستقبلًا، وتحديدًا في شهر رمضان الذي قارب على الوصول. حديث لا يخلو من قلق وترقب وإحباط.
ارتفاع سعر الأرز وتخطيه حاجز 25 جنيهًا للكيلو، دفع إحدى ربات البيوت إلى إضافة مبشور الجزر إلى الأرز، خلال تحضيرها وجبات الأسرة. تقول “هبة مصطفى”، لـ “مصر 360”: “بحاول أقلل لأني كتير بننزل نلف ومش بنلاقي الرز”.
اقرأ أيضًا: استمرار أزمة الأرز| شبكات احتكار وتعطيش.. والسلاسل التجارية ترفع شعار “غير متوفر”
أصبح الحصول على الأرز، فضلًا عن غلاء أسعاره، يحتاج إلى رحلة بحث. إذ لا تناسب الكميات المطروحة الاستهلاك. بينما يستدعي الحصول على كمية محدودة التحري والسؤال المتكرر لدى المجمعات الاستهلاكية، وأحيانًا الاتصال بأصدقاء في مناطق مختلفة للتأكد من توافر الأرز.
وتلجأ ربات البيوت للأرز كبديل “رخيص الثمن” عن الأطعمة الأخرى، لتتحول إلى وجبة رئيسية على المائدة المصرية. خاصة للأطفال الذين يتناولونه والمكرونة كلما جاعوا عدة مرات خلال اليوم. حيث تشهد أسعار البيض والجبن والبروتين والفواكه ارتفاعًا ملحوظًا، وأصبح فوق القدرة الشرائية للعديد من الأسر.
لغز الاختفاء
يمثل اختفاء سلعة الأرز من المتاجر والمحال علامة استفهام كبيرة. ذلك مع تخطي الإنتاج المحلي لهذا العام 5 مليون طن شعير، وما يقارب 3.6 مليون طن أرز أبيض. بينما يبلغ حجم الاستهلاك السنوي منه 3.2 مليون طن، محققًا فائض بنحو 400 ألف طن، وفقا للدكتور عبد المنعم خليل، رئيس قطاع التجارة الداخلية بوزارة التموين.
ويضيف خليل لـ”مصر 360″: “لا توجد أزمة في محصول الأرز. ولكن الأزمة في بعض الفلاحين والتجار الذين يخزنون المحصول أو بتعبير أدق يحتكرونه”.
ويعود تذبذب الأسعار وارتفاعها إلى بداية الموسم الحالي، بقرار من وزارة التموين بالتسعير الجبري للأرز الشعير عند 6600 جنيه للطن رفيع الحبة و6800 جنيه لعريض الحبة. بالإضافة إلى تحديد سعر البيع للمستهلك بـ 12 جنيهًا للكيلو السائب و15 للمعبء.
القرار الذي دفع التجار والموردين إلى حجب الأرز عن السوق، فتراجع المعروض، وفقًا لمحللين. ومع تفاقم أزمة تخزينه وعدم طرحه في السوق، منعت وزارة التموين تداوله بين المحافظات إلا من خلال تصريح رسمي منها.
واستندت الوزارة إلى المادة 22 مكرر من قانون حمايـة المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية. وأعلنت مصادرة الكميات المضبوطة لصالحها، ومعاقبة المخالفين بغرامة تبدأ من 100 ألف جنيه ولا تتجاوز 5 ملايين.
كيف تصاعدت الأزمة؟
بعد التسعير الحكومي الجبري لطن الأرز، الذي وصفه المزارعون بأنه لا يتناسب مع تكلفة زراعة الفدان، ناهيك عن فكرة تحقيق مكسب ولو بسيط للمزارع، دُفع المزارعون لبيع المحصول للتجار الذين سعروا الطن بـ 10 آلاف جنيهًا بشكل أولي.
وقد واصل التجار جمع الأرز من المزارعين وتخزينه من بداية الموسم، بسعر يقارب ضعف السعر الحكومي. ومع محاولات الحكومة لتدارك الأزمة، قررت تسعيرًا إجباريًا للأرز للمستهلك. الأمر الذي دفع التُجار لحجب الأرز تمامًا وعدم توريده لمنافذ البيع.
تغييب الأرز عطش السوق تمامًا، وأصبح المعروض يُباع بسعر غالي يفوق التسعير الحكومي. فخسرت الحكومة السيطرة على السعر وعلى المخزون من الأرز.
اقرأ أيضًا: ماذا تخبرنا قطع “البانيه” و”الملابس الداخلية” عن التضخم في مصر؟
كانت الحكومة هى الجهة الوحيد التي تجمع الأرز من المزارعين وتسليمه إلى المضارب، بعدها تستلمه أرز أبيض مقابل الاستفادة من المخلفات، وفقًا لـ”مصطفى إسماعيل” صاحب مضرب الجارحي بمدينة ميت غمر بمحافظة الدقهلية.
كما أن المصادرات المتكررة للأرز، أخافت التجار، وتحديدًا من طرح الأرز بالسوق في الوقت الحالي، فتراجعت كمية المعروض، بينما الكميات الموردة من وزارة التموين لا تفي باحتياجات السوق.
يقول إسماعيل لــ”مصر 360″: “الأزمة صنعتها قرارات الحكومة غير المدروسة. وفي الوقت نفسه لم تستطع تغطية احتياجات السوق. منعت الحكومة السوق الحرة من العمل وتسببت في خسائر للتجار الذين تمت مصادرة كميات أرز منهم”.
“صادرت الحكومة 10 طن أرز من تاجر واحد، بتكلفة ربع مليون جنيه”. يقول إسماعيل: “كنا بنشتغل مُهرب علشان نطلع لنا لقمة عيش خلال الموسم، لأن المضارب كانت بتشتغل لحساب الحكومة بدون أجر، ونحن لنا عملاء وأصحاب محلات لو لم نستطع تلبية مطالبهم هنخسرهم”.
حكومة vs تجار
يعرف الدكتور جمال صيام، أستاذ الاقتصاد الزراعي بجامعة القاهرة، وجود سعرين لسلعة واحدة بالسوق بأنه تشوه سعري، يؤدى إلى خلل في شروط التنافس والعرض والطلب.
يقول صيام لـ “مصر 360″، إن تدني تسعير الطن للمزارعين وإجبارهم على التوريد لصالح التموين، تسبب في تهريب المحصول، رغم القيود التي فُرضت على التجار والمصادرات التي تمت.
وقد أثرت قفزات سعر الصرف للدولار من 18 إلى 30 جنيهًا على مجمل السلع، ما شجع التجار على حجب بعضها لبيعها لاحقًا بأسعار أعلى. وفي هذا الصدد، يشير “صيام” إلى تقصير الحكومة في تطبيق القانون على المحتكرين للسلعة.
إلغاء التسعير الإجباري
دفع نقص المعروض وزارة التموين لإلغاء التسعير الإجباري الصادر فى 17 نوفمبر/ شباط الماضي لمدة ثلاثة شهور. وأعادت قاعدة التسعير وفق العرض والطلب، مع الإعلان عن استيراد شحنات مقررًا وصولها خلال الفترة المقبلة.
ومؤخرًا، أعلنت هيئة السلع التموينية استيراد حوالي 30 ألف طن أرز أبيض طبيعي قصير الحبة بنسبة كسر 10% معبأ لحساب الشركة القابضة للصناعات الغذائية. على أن يطرح في الأسواق قبل حلول شهر رمضان.
وتوقع رجب شحاتة رئيس شعبة الأرز بالغرفة التجارية، في حديثه مع “مصر 360” أن يكون لقرار الاستيراد مردود إيجابي على تراجع الأسعار والتنافسية. “سيضطر التجار لضخ كميات كبيرة”؛ كما يقول. إذ أن سعر الأرز عالميًا يبلغ 470 دولارا للطن، بما يوازي متوسط 15 ألف جنيه مصري، وسعر البيع من المفترض أن يتجاوز 18 ألف جنيه للطن. وهو ما يعني أن يصل للمستهلك بحوالي 18 جنيهًا للكيلو، مقارنة بمتوسط سعره الحالي 21 إلى 24 جنيها للكيلو.
هل المستهلك طرفًا؟
يؤكد بدوي جاد، مدير شركة طيبة لتعبئة الأرز، أن ارتفاع الأسعار سببه جشع التجار الذين يعطشون السوق لتحقيق مكاسب خيالية. يقول جاد لـ “مصر 360”: “كل ما اتصل بأصحاب المضارب يقولولي أن التجار رافضين يسلموا الأرز وماسكين فى السعر”.
ويقول صاحب شركة تعبئة الأرز، إنه يتسلم الطن بسعر 22 ألفًا و500 جنيه. ثم يضاف مبلغ 300 جنيه نقل عن كل طن من محافظات بحري إلى مقر الشركة. هذا بالإضافة لتكلفة التغليف ليباع إلى المتاجر بسعر يتاروح بين 23 و24 جنيهًا.
المساحة والاكتفاء والصنف
وكانت وزارتا الموارد المائية والزراعة، حددتا زراعة مساحة محصول الأرز في 9 محافظات. ذلك بمساحة قدرها 724 ألف فدان. بالإضافة إلى مساحة 200 ألف فدان من سلالات الأرز الموفرة للمياه، مثل الأرز الجاف وغيرها. فضلًا عن مساحة 150 ألف فدان تزرع على مياه الصرف الزراعي المعالج.
يقول دكتور حمدي موافي، رئيس المشروع القومي للأرز الجاف والهجين، لـ”مصر 360″إن المساحة المزروعة بالأرز تتجاوز المساحة المقررة 1,1 مليون فدان، وتصل بالمخالفة إلى 1,8 مليون فدان سنويًا. بينما تستهدف الحكومة بحلول عام 2030 زراعة 1.4 من مليون فدان لتحقيق الاكتفاء الذاتي وتخصيص باقي المساحة المخالفة إلى محصول الذرة الصفراء.
ويمكن معالجة تقليص المساحة باستخدام الأصناف الأكثر ترشيدًا للمياه والأعلى إنتاجية وتحملًا للملوحة في محافظات الوجه البحري، ومنها البحيرة والدقهلية والإسكندرية ودمياط. وضمن النوعيات المستهدفة، هجين مصري (1، 2، 3 ) وهجين بسمتي 11 ، والأرز السوبر 300 وجيزة 178 ، و179، وفق الموافي الفائز بالميدالية الذهبية في معرض جنيف الدولي للاختراعات لعام 2022 في إطار استنباط أصناف جديدة، تتلاءم مع التغيرات المناخية، إضافة لتحملها الملوحة وقلة المياه.
ووفق موافي، فإن هذه الأصناف المستهدفة زراعتها، ذات كفاءة إنتاجية عالية أكثر من الأصناف التقليدية بفارق 1,5 طن في الفدان. حيث ترتفع إنتاجيته من 4 لتصل إلى 6 طن للفدان.
مستقبل الأزمة
تؤكد المعلومات الرسمية أن موعد المحصول الجديد على بُعد 6 أشهر من اليوم. وبالتالي يدفع ذلك التجار إلى عدم ضخ ما يخزنونه إلا بطريقة تُحقق لهم أكبر مكسب ممكن. يقول الدكتور جمال صيام أستاذ الاقتصاد الزراعي بجامعة القاهرة: “لن يظهر التجار الأرز بسهولة”.
ويتوقع الدكتور علي عبد المحسن، رئيس مركز الاقتصاد الزراعي بالمعهد القومي للبحوث، أن تستقر الأسعار مع قرار فتح الاستيراد وتحرير سعر شراء الأرز. ذلك بموجب قانون العرض والطلب، بالإضافة إلى افتتاح معارض التموين وأهلا رمضان، بجانب منافذ القوات المسلحة ووزارة الزراعة.