منذ أن تولى الرئيس عبد الفتاح السيسي السلطة في مصر في 4 يونيو 2014، والحديث لا ينقطع تقريبًا عن أولويات الإنفاق. عديد الأقلام التي كتبت مؤيدة لجدوى الإنفاق في مجالات محددة، وكانت تلك الأقلام قد شملت المؤيدين للسلطة الحاكمة، وهم أعضاء الحكومة، ونخبة رجال الأعمال. كما اشتملت على المعارضين للسلطة سواء من القوى المدنية التي ناصرت الرئيس السيسي للخلاص من حكم الإخوان المسلمين، أو من قبل جماعة الإخوان أنفسهم، والذين تسلموا السلطة في 30 يونيو 2012 وغادروها في 3 يوليو 2013.
في هذا الموضوع نستعرض لأهم مظاهر الجدل في مسألة أولوية الإنفاق، ومجالات الخلاف الرئيسة في تلك الأولويات، وما يجب أن تكون عليه عملية تحديد الأولويات، كما هو قائم في البلدان المتمدينة، وذلك حلا لتلك الإشكالية.
بداية تجب الإشارة إلى أن رئيس الدولة نفسه قد تطرق مع مطلع عام 2023 إلى مسألة أولويات الإنفاق، نافيًا أن تكون الدولة وقعت في أزمتها الاقتصادية، التي أدت إلى الحصول على قرض صندوق النقد الدولي الأخير بقيمة 3 مليار دولار، بسبب عدم الإنفاق على الأولويات، مشيرًا إلى أن كافة الأمور المرتبطة بالتنمية يجب أن تسير جنبًا إلى جنب، إذ إنه من الصعب أن تقوم الدولة بترك مجال تنموي بعينه، وتتحرك في آخر.
وكان الكثير من المهتمين بالشئون السياسية والاقتصادية والاجتماعية، قد تطرقوا إلى مسألة أولويات الإنفاق في مجال التنمية، وقد اعتبر قطاع معتبر من هؤلاء أن الإنفاق البزخي في قطاعات معينة وعدم توافر العملات الأجنبية، قد أدى إلى دخول البلاد في دياجير ظلام دامس أدى إلى أزمة اقتصادية كبيرة، أثرت على المجتمع، ممثلا في صورة أزمة غذاء ضخمة، ممثلة في ارتفاع كبير في أسعار الغذاء. وقد كان للحرب الروسية الأوكرانية أثرها في تلك الأزمة، إذ أدت الحرب لارتفاع أسعار المواد الغذائية بشكل كبير في مارس الماضي، قبل أن تعود للانخفاض جراء الاتفاق الروسي الأوكراني برعاية تركيا لتصدير الواردات الأوكرانية خاصة القمح والذرة والزيوت.
وكانت أزمة الإنفاق الترفي قد نوقشت على مستويات شعبية ورسمية في عام 2019، عندما أمعنت الدولة في بناء عديد القصور الرئاسية، وتجديد بعض القصور القائمة، وذلك في العلمين والعاصمة الإدارية والإسكندرية. وفي 14 سبتمبر2019، رد الرئيس السيسي على تلك الأمور بأن الدولة ستبني المزيد من القصور. وقد وجد البعض في تلك التصريحات افتقاد لبوصلة تحديد أولويات الإنفاق.
أما المرة الثانية التي أثيرت فيها مسألة الإنفاق البزخي فكانت بمناسبة بناء مئات الكباري والأنفاق، ونشأة عشرات المحاور المرورية داخل القاهرة وحولها وفي الإسكندرية والجيزة، وإعادة رصف آلاف الكيلومترات من الطرق الرابطة بين المحافظات المختلفة، وكذلك نشأة القطار الكهربي بطول نحو 95 كم، وكذلك المونوريل الرابط بين العين السخنة ومرسى مطروح بطول يصل إلى نحو 660 كم. الحديث والنقاش في تلك المرة -على عكس القصور الرئاسية التي نوقشت في بضعة أسابيع قليلة- أخذ منحى يتسم بالاستمرارية الزمنية، ويتصل بالنقل على وجه الخصوص، ويرتبط بكافة محافظة الجمهورية تقريبا، كما يتعلق بتكاليف مرتفعة للغاية.
لا شك أن الأمر الرئيس الذي أكدت عليه الأقلام التي تحدثت عن أولويات الإنفاق، هي في معظمها أقلام معارضة لأولوية الإنفاق على الطرق وخطوط النقل والمواصلات والقصور الرئاسية. في هذا الصدد، تم طرح مقولات وحجج وشعارات على النحو التالي:
1- إن هناك احتياجات كثيرة للمجتمع المصري أكثر أهمية من مجرد المواصلات والطرق وغيرها من الأمور التي تعتبر ما يحدث يدخل في دائرة الإنفاق البزخي وغير الضروري.
وتلك الحاجات ترتبط تحديدًا بالصحة والتعليم. هنا يشير هؤلاء إلى أن المادة 18 من الدستور تنص على أن “لكل مواطن الحق في الصحة وفي الرعاية الصحية المتكاملة وفقاً لمعايير الجودة… وتلتزم الدولة بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومي للصحة لا تقل عن 3% من الناتج القومي الإجمالي تتصاعد تدريجياً حتى تتفق مع المعدلات العالمية….”. أما المادة 19 فتنص على أن “التعليم حق لكل مواطن، هدفه بناء الشخصية المصرية، والحفاظ على الهوية الوطنية… وتلتزم الدولة بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومي للتعليم لا تقل عن 4% من الناتج القومي الإجمالي، تتصاعد تدريجياً حتى تتفق مع المعدلات العالمية…”.
وتنص المادة 21 من الدستور ذاته على أن “تكفل الدولة استقلال الجامعات…. وتلتزم الدولة بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومي للتعليم الجامعي لا تقل عن 2% من الناتج القومي الإجمالي تتصاعد تدريجياً حتى تتفق مع المعدلات العالمية…”.
وأخيرا تنص المادة 23 على أن”تكفل الدولة حرية البحث العلمي وتشجيع مؤسساته، باعتباره وسيلة لتحقيق السيادة الوطنية، وتخصص له نسبة من الإنفاق الحكومي لا تقل عن 1% من الناتج القومي الإجمالي تتصاعد تدريجياً حتى تتفق مع المعدلات العالمية…”. في موازاة ذلك ينص الدستور على عديد من المواد التي تتضمن الكثير من الضمانات الاجتماعية المتصلة بأرباب المعاشات، وكبار السن، والفلاحين. وعامة، فقد بحت أصوات نواب البرلمان لإعمال مواد الدستور في تخصيص النسب المذكورة دون جدوى حتى اليوم، بسبب عدم وجود مخصصات مالية، وهو أمر راجع إلى أولويات الإنفاق كما تراه الحكومة.
2- إن الحديث الرسمي عن أن الإنفاق على الطرق والنقل يأتي في إطار العمل على جذب الاستثمارات الأجنبية. هذا التبرير مردود عليه، باعتبار أن الطرق والنقل هي وسيلة من وسائل تشجيع الاستثمارات، وليست هي كل وسائل تشجيع الاستثمارات. بعبارة أخرى، هناك أمور أخرى لتشجيع الاستثمارات لا تقل أهمية عن الطرق والنقل، ويقصد بها طبيعة المناخ السياسي والمجال العام في البيئة الجاذبة للاستثمارات. بمعنى أن الدولة التي يسودها مناخ ديمقراطي وتتمتع بدرجات معتبرة وسامية من حقوق الانسان، ويسودها إعلام حر، وقضاء عادل غير معين من قبل السلطة التنفيذية سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، ومجتمع مدني وأحزاب سياسية قوية… إلخ، هذا الوضع هو ما يشجع على جلب الاستثمار الأجنبي، فالديمقراطية هي الوسيلة الضامنة للمستثمر لعمل استثماراته بحرية، ودون عائق، ودونما حاجة إلى اللجوء إلى القضاء الذي قد يكون معين بحكم الدستور، ومن ثم معروف نتائجه مسبقا.
3- إن الحديث عن التكاليف الكبيرة التي تكبدتها البلاد جراء دعم شبكات الطرق والنقل عبر ما يسمى بالقطار الكهربي والمونوريل، والتي تصل إلى مبالغ ضخمة، أصبحت تشكل عبئا على الموازنة العامة للدولة.
في هذا الصدد يشار إلى أن المصادر الرسمية قد نقلت أن التكلفة التقديرية لهذا العمل تصل إلى 26 مليار دولار (اليوم السابع الإلكتروني 30 أكتوبر2021)، أي ما يربو على 17% من حجم الدين العام الخارجي المقدر بنحو 155 مليار دولار.
وكان الرئيس عبد الفتاح السيسي قد صرح إبان احتفالات أعياد الشرطة يوم 23 يناير الماضي أن مصر أنفقت 2 ترليون جنيه لتحسين شبكة الطرق والنقل والمواصلات، وهو مبلغ يعادل 67 مليار دولار بأسعار صرف اليوم.
ولم يتوقف الأمر عند ذلك، إذ إن تلك التكلفة معرضة للزيادة، وهنا نشير إلى تصريح وزير النقل بأن الحكومة تنوي مد شبكة القطار الكهربي لجميع أنحاء الجمهورية، وكل ذلك يؤدي إلى رفع الأعباء المالية على كاهل الدولة في أمور يبدو أن هناك مناحي خدمية أكثر احتياجًا لها. وهكذا، وبذلك، يرى قطاع كبير من المراقبين أن تلك المبالغ أرهقت الموازنة العامة، وزادت من حجم العجز، وزادت من نسبة التضخم، وأدت بشكل غير مباشر إلى خفض سعر صرف العملة المحلية.
ويرى هؤلاء أن تلك المبالغ لو أنفقت على الاستثمار البشري في الصحة والتعليم، لا سيما وأن هناك الكثيرين يعانون من مشكلات في التأمين الصحي، وإجراء عمليات جراحية أو صرف أدوية، كما أن الفصول مكدسة بالتلاميذ ويحتاج الأمر إلى بناء مدارس جديدة، لدعم الإتاحة ومنع التسرب من التعليم، كما يحتاج التعليم لتطوير عام يطال الاهتمام بالأوضاع المالية للمدرس وكذلك دعم وتطوير المناهج.
4- إن الاهتمام بالريف المصري هو واحد من الأولويات المهمة، لأنه يرتبط بحياة الملايين من الناس في الوجهين البحري والقبلي، وهؤلاء هم من يساهمون في الحياة الكريمة للمواطن، من خلال العمل على زيادة الاعتماد على الذات، وتقليل تبعية مصر للخارج، ومن ثم يأتي برنامج حياة كريمة الذي ترعاه الدولة لدعم الريف والفلاح المصري، ليرفع من قدر الفلاح الذي ما برح يرزح -وهو تحت وطأة الفقر- في بيئة تتسم بالمهانة والحاط بالكرامة، ومن هنا يأتي برنامج حياة كريمة لانتشاله من تلك البيئة، عبر الإنفاق على تجديد المنزل، وإيجاد وسائل تأمين صحي، والاهتمام بتعليم أبناء الفلاح، وإيجاد فرص عمل، وتبطين الترع، وتوافر البذور… إلخ كأهداف رئيسة لمشروع حياة كريمة. وهذا بالطبع من الإنفاق المحمود، كما يراه الكثيرون.
يبقى السؤال ما هو الحل؟
مما لا شك فيه أن البرلمان يلعب دورا مهما في تقرير نوع الأولويات، باعتبار أنه ممثل لجميع أطياف الشعب، ومن ثم فهو الكفيل بوضع أولويات الإنفاق العام. فمن خلال طرح الموازنة العامة للدولة، يقوم البرلمان بإدخال تعديلات على مصادر الإنفاق، وهو من خلال الرقابة على السلطة التنفيذية يعرض عليه الحساب الختامي الذي بموجبه تتم مراقبة الإيرادات والمصروفات. ولذلك على تلك المؤسسة التشريعية أن تقوم بدورها ليس فقط للحد من الإنفاق الترفي، بل وأيضا تحديد أولويات الإنفاق.
الأمر الثاني، هو الأحزاب السياسية، فهي المنوط بها الضغط والتأثير على السلطة السياسية التي تحدد مشروعاتها لأولويات الإنفاق، من خلال قيام الأحزاب بطرح البدائل وتطوير سيناريوهات الصرف، وفقا لاحتياجات المجتمع.
الأمر الثالث، هو دور مراكز الفكر والبحث العلمي في تحديد أولويات المجتمع، من خلال البحوث الأكاديمية والاستبيانات واستطلاعات الرأي المحددة للاحتياجات، والتي ترفع عبر تقديرات المواقف وأوراق السياسات لصناع القرار في البلدان المتمدينة، بغرض التأثير على المشروعات المحددة لأولويات الإنفاق والصرف.