منذ أيام، صدر قرار حكومي بتخصيص مبلغ ألف جنيه سنويًا لكل سيدة لم تنجب أكثر من طفلين، تحصل على قيمتها الإجمالية بعد بلوغها سن 45 عامًا. وذلك في إطار بروتوكول تعاون بين وزارتي التخطيط والتنمية الاقتصادية، والمالية، بشأن برنامج الحوافز المادية بالمشروع القومي لتنمية الأسرة المصرية. بينما يسقط القرار حق المرأة في المطالبة بأية مبالغ مالية في حال إنجابها طفل ثالث.
يأتي هذا القرار بعد سلسلة من “التدابير القسرية والقاصرة” لاستهداف النساء دون الرجال، فيما يتعلق بتنظيم الأسرة والتخفيف من الزيادة السكانية. ذلك أن هناك العديد من العوامل التي تعوق قرار المرأة فيما يتعلق بصحتها الإنجابية والجنسية. فطابع القسرية “الإجبار” يرجع لكون القرار بشأنها في جل الحالات قد يتخذه الرجل بإجبار شريكته على عدم الاختيار، أما صفة القصور فتُرد لتغييب سمة المشاركة والاشتراك، كونها تتعلق بالرجل وشريكته دون انفصال. بينما مثالا لا حصرا في هذا القرار الحكومي الأخير يتجه القرار نحو النساء، فيما كان يجب أن يشمل طرفي المعادلة الرجل والمرأة.
الحقائق تقول إن قضية الصحة الإنجابية في مصر شهدت اهتمامًا متزايدًا منذ المؤتمر الدولي للسكان والتنمية، الذي عُقد في القاهرة في العام 1994، وعمق النقاش حول الحقوق الإنجابية. وقد كانت قضية تنظيم الأسرة ضمن سياسة الحكومات المتعاقبة منذ 1981، حين شاع استخدام اللولب والحبوب، واُعتبر التعقيم والإجهاض حلولًا غير قانونية، إلا في حالات الضرورة ووفقًا للمؤشرات الطبية.
اقرأ أيضًا: ورقة دام| حرية النساء في التحكم بأجسادهن رهينة الأعراف المجتمعية
لكن حتى تكون مسألة تنظيم الأسرة منطقية لا يمكن إغفال العوامل التي تقف أمام مساهمات المرأة فيها، وتمنعها من أن تكون عنصرًا فاعلًا يتخذ القرار الذي هو في الأساس يمسها شخصيًا ويتعلق بها، وفي حسمه بالشكل الصحيح فقط يُمكن تحقيق الأهداف المرجوة من هذه المسألة.
فلا يمكن، على سبيل المثال، تجاهل أنه يتعذر وصول المرأة إلى الثقافة الجنسية والإنجابية المكتملة في مجتمعاتنا، فمثلًا لا يمكن لأي فتاة مقبلة على الزواج أن تكتشف أية معلومات عن صحتها الجنسية إلا من خلال والدتها ويحدث ذلك قبل يوم أو يومين فقط من زواجها، وبعضهن لا يعرفن شيئًا بعد فترة من الزواج إلا عندما تحدث مشاكل خطيرة قد تؤدي إلى الطلاق. ورغم أنه قد يشار إلى أن الوقت الراهن يشهد انفجارا في المعرفة من خلال سهولة الوصول للمفاهيم الصحيحة في اي مجال بما في ذلك مجال الثقافة والمعرفة الجنسية القائمة على العلم والمعايير الصحيحة، إلا أنه ليس هناك ضمان للوصول لهذه المعرفة المنضبطة علميا دون أن تشوبها الكثير من التشوهات وعدم الانضباط، شأن كثير مما ينشر على المنصات والوسائل. إذ يظل الطريق الأسلم هو السماح بتدريسها خلال المراحل التعليمية.
أيضا فإن المستوى التعليمي والعوامل الاجتماعية والاقتصادية والأعراف الثقافية والمفاهيم الدينية الخاطئة أيضًا كلها أسباب تقف عائقًا أمام المرأة في اتخاذ قرار والمساهمة في الوصول إلى ما تستهدفه الدولة في هذا الجانب.
هل المرأة حرة القرار؟
تتأثر النساء بشكل فردي بتفاعلهن مع أسرهن ومجتمعاتهن. وتلعب هذه التأثيرات أدوارًا مهمة في وصول المرأة إلى خدمات ومعلومات الصحة الجنسية والإنجابية قبل الزواج وبعده، بدءًا من المراهقة وحتى البلوغ. فمعظم النساء لم يتحدثن إلى والديهن عن الجنس والصحة الجنسية والإنجابية، لأنهن وفق الأعراف الاجتماعية تابعات ولا يمكنهن مناقشة هذا الأمر معهن أو اتخاذ قرار يتعلق به.
وترتبط هذه الأعراف الاجتماعية بالهويات الاجتماعية التي تؤثر على السلوكيات الجنسية والصحة الجنسية والإنجابية لدى الفتيات. كما تحدد سلوكياتهن ومواقفهن وقراراتهن تجاه مثل هذه القضايا، فيحرمهن من حقوقهن في اتخاذ قرارات بشأن أجسادهن وصحتهن الجنسية نتيجة الخوف من وصمة العار الاجتماعية.
هذا فيما لا تتمتع غالبية النساء في مصر بخدمات الصحة النفسية للعوامل السابقة وغيرها من العوامل.
السلطة الدينية كمعوق
تلعب التفسيرات الدينية دورًا مهمًا في عدم أو تشويه وصول المرأة إلى خدمات ومعلومات الصحة الجنسية والإنجابية، نتيجة للتفسيرات الخاطئة والرجعية للنصوص الدينية، فيتم إساءة استخدام هذه التفسيرات لقمع النساء وحرمانهن من حقوقهن في اتخاذ القرار بشأن أجسادهن وحياتهن الجنسية وحقوقهن في الصحة الجنسية والإنجابية.
كما تعزز هذه الأعراف الدينية المحافظة الأدوار والمعايير السائدة بين الجنسين، والدعوة إلى الاعتزاز بما يوصف بعفة الإناث قبل الزواج. فلا يزال المجتمع يضع قيمة عالية ومحورية بشكل مطلق لعذرية المرأة قبل الزواج، إلى حد الوصول لما يمكن تسميته بالرهاب والفوبيا. وتشدد النصوص الدينية أن الحياة الجنسية للمرأة قبل الزواج محرمة. وقد أثارت المخاوف من هذه الجزئية، مشكلة الحد من القدرة الجنسية للمرأة من خلال ممارسات مثل تشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية، والرقابة الأسرية والمجتمعية على أجسادهن.
حرية اتخاذ القرار بين الأزواج
يهيمن الرجال في الأغلب على العلاقات الجنسية مع شريكاتهم من الإناث، فيما يتعلق باختيار وسائل منع الحمل، وتوقيت الجماع، وحتى تحديد عدد الأطفال، ما يسبب مشكلات في الصحة الجنسية والإنجابية للمرأة؛ مثل النزيف والأمراض العقلية والنفسية أو الجنسية.
وحتى عندما تكون المرأة على دراية بالصحة الجنسية والإنجابية وتمتلك عن وسائل منع الحمل المعلومات الكافية، فإنها لا تستطيع في كثير من الأحيان التفاوض على علاقات جنسية آمنة مع شريكها؛ لأنها تفتقر إلى القوة الاجتماعية. فالنساء يفتقرن إلى السلطة على أجسادهن ونشاطهن وصحتهن الجنسية والإنجابية، ويزداد الوضع سوءًا مع النساء في القرى والمناطق المحرومة من الخدمات، لغياب الوصول إلى المعرفة الصحيحة حول الصحة الجنسية والإنجابية وطرق حماية النساء من العدوى. أو الوصول في كثير من الحالات لمعلومات مشوهة وغير علمية.
سياسات الدولة.. المتاح والعائق
رغم ما توليه الدولة من اهتمام بالمرأة في صورة سياسات تحمي الصحة الإنجابية وتنظم الأسرة، إلا أنها تظل تدابير تفتقد حرية الاختيار، إذ تستهدف من لا يملك كامل الإرادة في اتخاذ القرار بشأن الصحة الإنجابية والجنسية، نظرا للهيمنة الرجالية والأسرية في معظم الحالات.
وهناك الكثير من العوائق فيما يخص التشريعات والقوانين التي تعوق النساء عن اتخاذ قرارتهن بحرية، فمثلا جرمت الدولة تشويه الأعضاء التناسلية للفتيات. لكن لم يصدر قانون تعويضي يتيح للفتيات والنساء إعادة ترميم ما تم تشويهه.
اقرأ أيضًا: إنهاء العنف ضد النساء.. القوانين لا تزال تائهة في مجتمع الذكور
كما أن اللوائح تقيد قدرة المرأة على الإجهاض للحمل غير المرغوب فيه، حيث يجب الحصول على إذن زوجها في لوائح وزارة الصحة للإجهاض المنقذ للحياة. ذلك رغم صدور بعض الفتاوى الدينية الواضحة فيما يتعلق بالمرأة المغتصبة، أو لتشوه الجنين أو لإنقاذ حياة الأم، ويشير ذلك إلى تأثير الأعراف الأبوية لدى العاملين بوزارة الصحة.
النموذج التونسي
لو نظرنا للدول المحيطة بمصر، سنجد أن هناك من سبقنا في اتخاذ إجراءات وتشريع قوانين في سبيل المساواة بين الجنسين فيما يتعلق بالحصول على خدمات الصحة الإنجابية والجنسية. فتونس مثلًا، بدأت في رعاية الأبحاث حول الصحة الجنسية والإنجابية للشباب منذ أوائل عام 1990، وفي السنوات الأخيرة أطلقت عيادات صحية للمراهقين والنساء غير المتزوجات في المناطق الحضرية.
كما حرصت تونس على تسهيل الوصول إلى خدمات الصحة الإنجابية في جميع الوحدات الصحية والمدارس والجامعات. وكفلت تدريب مقدمي الرعاية الصحية على التواصل الفعال والتعليم وتقديم خدمة عالية الجودة للشباب. وكذلك، عملت على تعزيز التعاون والشراكة مع جميع المنظمات والقطاعات العاملة في مجال الشباب.
من الضروري فهم الأبعاد الثقافية والدينية والاجتماعية والاقتصادية والتعليم والعمر والطبقة والهويات والجنس التي تتقاطع معًا وتخلق حالة عدم المساواة التي تعانيها المرأة فيما يتعلق بالصحة الجنسية والإنجابية. وهي تقاطعات توضح مختلف أنواع التمييز الذي تتعرض له النساء وتجعل قرارات مثل تخصيص مبلغ ألف جنيه سنويًا لكل سيدة لم تنجب أكثر من طفلين بعيدة عن إرادة المرأة وتفاعلها.