تمثل الإذاعة (المسموعة) المصرية -باعتبارها إحدى وسائل الإعلام المهمة والمؤثرة- أداة ناجزة في بناء وتشكيل الوعي والشخصية الوطنية، منذ تأسيسها، قبل نحو 8 عقود تقريبًا، حيث كانت الإذاعة المنصة الإعلامية التي رافقت الدولة في محطاتها التاريخية، بل كانت مصدرًا حيويًا للمعرفة ومتابعة الأحداث المحلية والخارجية، بالإضافة للمحتوى الترفيهي، وبالتالي، تعد بأرشيفها الهائل ذاكرة حفرت أثرها الممتد، رغم التهميش، مؤخرًا تبعًا لعوامل عديدة.

اقرأ أيضًا.. من محمد رشدي إلى المهرجانات.. علاقة الفن بالثقافة الشعبية

تحديات عصفت بالراديو

ثمة تحديات عديدة عصفت بـ”الراديو”، سواء مع ظهور التلفزيون أو الدخول في عصر الإنترنت والسماوات المفتوحة، والاجتياح غير المحدود لوسائل التواصل الاجتماعي، الأمر الذي فرض على القائمين بالعمل الإعلامي الاشتباك مع أشكال برامجية تواكب ذلك التطور اللامحدود في انتشار سرعة تداول الأنباء والمعلومات.

وكان من الملح والضروري مواكبة ذائقة المتابعين وجمهور المستمعين وانخرط في صفوفهم أعداد لا محدودة تمتلك أجهزة الهواتف الذكية، ما منح الإذاعة فرصة لتتواجد بين قطاعات جديدة وجمهور آخر مستهدف، بيد أن تلك الفرصة لم تتحقق بالكلية، رغم ظهور جملة من الألوان البرامحية لم تكن حاضرة في خريطتها البرامجية من قبل.

حقيقة الأمر، أن الرقمنة وتحولات التكنولوجيا المتسارعة خالفت ظنون وتقديرات العديد من الآراء التي استقرت في وقت سابق على اعتبارها تهدد حاضر ومستقبل الإذاعة المسموعة. إذ تحولت الهواتف الذكية إلى منصات يتسنى لمستخدميها متابعة موجات الراديو.

وسائل التواصل الاجتماعي

كما أضحت وسائل التواصل الاجتماعي وسيطًا مباشرًا لمتابعة إرسال الشبكات الإذاعية، فضلًا عن قدرة تلك الوسائط على تمرير صورة القائم بالاتصال، ومطالعة الاستوديو الإذاعي، بخلاف السائد والتقليدي في ذهنية المتابعين الذين لطالما ضغطت على مخيلتهم الأصوات الإذاعية الرخيمة لمحاولة رسم صورة خاصة بـ”الإذاعي” لدى كل مستمع، وصياغة هيئة سحرية عنه.

وتأسيسًا على ذلك، تمددت المحطات الإذاعية واتصل البث الإذاعي في مساحات جديدة ومتفاوتة، باعتباره رافدًا ثقافيًا واجتماعيًا وسياسيًا وفنيًا يستحق  التماهي مع تحولات المجتمع، وتبدلت أنماطه وتوجهاته المتسارعة عبر ساعات الإرسال الممتدة بدون انقطاع.

واقع وسائل التواصل الاجتماعي وقدرتها اللامحدودة في بث الأنباء دون ضابط أو رقيب، فرض على مستقبل وسائل الإعلام، خاصة الإذاعة المسموعة، مهمة خاصة تتموضع حول صياغة منظومة من القيم والاعتبارات الموضوعية والالتزامات المهنية التي تمنح الدول فرصة ناجزة لتأمين شعوبها نحو صياغة مضمون إعلامي ينسجم مع توجهاتها وأهدافها دون اللجوء للحديث المباشر أو الخطابات الموجهة.

اقرأ أيضًا.. الراديو والطفل.. علاقة ود قتلتها ثورة الإنترنت

اليوم العالمي للإذاعة

ويأتي احتفاء العالم باليوم العالمي للإذاعة، كل عام، في الـ13 من شهر فبراير ليواكب اليوم الذي أقره المؤتمر العام لليونسكو، في دورته الـ36، ليضحي ذلك بمثابة احتفاء بالدور المهم الذي تقدمه الإذاعة المسموعة. وجاء هذا التاريخ ليتزامن مع ذكرى إطلاق بث إذاعة الأمم المتحدة عام 1946.

تاريخ طويل تحتفظ به ذاكرة الإذاعة المصرية، منذ انطلاق البث الإذاعي، منتصف عشرينيات القرن الماضي، عبر عدد من الإذاعات الأهلية، حتى بدأ إرسال الإذاعة الحكومية، من خلال صوت الإذاعي الراحل أحمد سالم، الذي نطق الجملة الأشهر في تاريخ وحاضر الإذاعة المصرية: “هنا القاهرة” في الحادي والثلاثين من شهر مايو عام 1934 إبان حكم الملك فؤاد الذي توفي بعد ذلك بعامين.

بين ساعات الإرسال المحدودة، والتي لم تتجاوز ست ساعات، والإرسال الممتد من دون انقطاع للبث، ومن ثم تباين وتعدد الشبكات الاذاعية، عرجت الإذاعة المصرية في طريقها لتخط تاريخًا يتماهى بالكلية مع أهداف مصر وتوجهات سياساتها الخارجية، في لحظة كان الإعلام يؤدي دورًا مباشرًا في هذا الاتجاه، لا سيما بعد اندلاع ثورة 23 يوليو 1952، التي خبرت حتمية الدور الإعلامي وضرورة دوره الوظيفي في السياسة الإقليمية والدولية.

“صوت العرب”

وبدا ذلك واضحًا عندما خطط وتابع الرئيس الراحل جمال عبدالناصر إنطلاق إذاعة “صوت العرب” كبرنامج رئيس، في العام 1953، قبل أن يتطور الأمر وتضحى شبكة إذاعية تضم عدة إذاعات.

وكانت إذاعة صوت العرب، آنذاك عبارة عن منصة تطلق عبر الأثير الإذاعي قيم الدولة السياسية والإيدولوجية، وأهدافها أو بالأحرى مصالحها الإقليمية، والتي من بينها مناهضة قوى الاستعمار الأجنبي، في عدد من الدول العربية والأفريقية والسعي نحو تنميط المجتمعات العربية بخطاب عروبي وقومي، الأمر الذي جعل الإذاعة المصرية عمومًا وصوت العرب خاصة ترافق تحركات السياسة المصرية على الأرض، كما هو الحال مع تأييد الثورة الجزائرية ومناهضة الاستعمار الفرنسي، فضلًا عن قضايا أخرى مثل التصدي لحلف بغداد، ودعم الوحدة المصرية السورية، ودعم حرب اليمن.

ويملك اتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري قرابة الـ35 إذاعة موجهة لدول غرب وجنوب أفريقيا، بالإضافة إلى جنوب أوروبا والأمريكتين، في حين أن الإذاعات الموجهة إلى أفريقيا، وحدها يصل عددها نحو 10 إذاعات، وتبث باللهجات المحلية والسواحلية.

الإذاعة المصرية والإبداع

وهذه الإذاعات الموجهة تعاني بالطبع من عدة مشكلات فنية رئيسية، تتمثل في اعتماد الشبكات المصرية على الموجات القصيرة، ومن ثم تحتاج للتغيير إلى موجات “إف إم”، بالإضافة لتهالك الأجهزة المستخدمة.

كما شهدت الإذاعة المصرية حضورًا لافتًا للإبداع المصري الذي ترسخ حضوره في الوعي الجمعي للمواطن العربي، وشق طريقه في وجدانهم، عبر حفلات أم كلثوم، وصوت عبدالحليم حافظ، ونماذج فنية آخر من الدراما الإذاعية التي استطاعت أن تحفظ اللهجة المصرية في ذاكرة المجتمعات العربية.

ويضاف إلى ذلك، بث الإذاعة لجلسات نقاش رسائل الماجيستير والدكتوراه.

وتضمنت الخريطة البرامجية لصوت العرب إبان فترة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر جملة من الرسائل المباشرة، التي حملت أفكاره وتوجهاته السياسية، والتي انطلقت تناهض القوى الغربية ومصالحها المباشرة في جبهات الصراع المتفاوتة، الأمر الذي دفع تلك القوى إلى إطلاق منصات إذاعية في المقابل.

الإذاعة والمصريين

الدور السياسي للإذاعة

كما عملت فرنسا على إسكات صوت العرب عبر توزيع أجهزة راديو لا تلتقط موجات صوت العرب على الجزائريين مجانًا لتحول بين الجزائريين ورسائل الإذاعة المصرية.

ويضاف إلى ذلك، الدور الهام الذي مارسته شبكة الإذاعات الموجهة التي رفعت لواء حركات التحرر الوطني، في إفريقيا، خلال عقد حركات التحرر الإفريقي من الاستعمار، فضلاً عن دور الإذاعة العبرية خلال الصراع المحتدم مع إسرائيل، حتى حرب أكتوبر 1973، الأمر الذي دفع رئيس الوزراء الاسرائيلي مناحيم بيجن أن يطلب من الرئيس الراحل انور السادات تقليص عدد ساعات إرسالها وتخفيف حدة خطابها الإعلامي.

ثمة مؤشرات عديدة لا يمكن تجاوزها، نستطيع من خلالها رصد وتحري تراجع اعتماد السياسة المصرية على الإذاعة المسموعة، في توجيه سياساتها الخارجية، خلال عقود السبعينات وما تلاها، وربما ذلك يعود الى جملة من الاعتبارات تتبدى في التراجع عن الانخراط المباشر في قضايا الدول العربية، بعد اتمام معاهدة كامب ديفيد، مرورًا بتجاهل نظام الرئيس الراحل حسني مبارك بقضايا القارة الأفريقية، فضلاً عن تبدل اهتمام وزير الاعلام الراحل، صفوت الشريف، الذي انبرى نحو منصات فضائية تتسق وتكنولوجيا العصر، وإنشائه الإذاعات المتخصصة، المسموعة والمرئية،

الإذاعة في عصر مبارك

بيد أن قيود العمل الروتيني الذي يخاصم بالكلية المناخ الحقيقي، عطل انطلاقة تلك الإذاعات الوليدة، حتى توارت قبل أن يحفظ متابعوها اسم برامجها والقائمين عليها.

مرحلة أخرى دخلت فيها الإذاعة المصرية تباعًا منذ خروج الشريف من منصبه في الإعلام نحو رئاسة مجلس الشورى، مرورًا بالأحداث المفصلية التي وقعت في القاهرة، عبر ثورتي 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013، الأمر الذي بدت معه الإذاعة المسموعة تعاني من تداعيات تلك الأحداث، حيث مالت اعتبارات وأولويات الدولة نحو تضمين خطابها الإعلامي عبر منصات محددة استحوذت على اهتمام المسؤولين في الوقت الذي بدت فيه الشبكات الإذاعية التقليدية خارج نطاق الاهتمام بدعوى الديون المتراكمة على المؤسسة الأشهر في الشرق الأوسط ما حدى بجنبات ماسبيرو أن تواجه رياح الخريف التي تتحرك بقوة ضد تطويره وتساهم في تقليص أدواره لصالح الرؤى المستحدثة.

  • مقدم برامج في الإذاعة المصرية