هل يمكن أن يظهر بيننا فاجومي جديد؟ تساءلت وأنا أعيد قراءة السيرة الذاتية التي كتبها أحمد فؤاد نجم.
شد انتباهي في القراءة الثانية لغة سرده التي حكيت كلها بعامية مدهشة، طالعة ببساطة ودون فذلكة ودون أي محاولة لتقريبها مع الفصحى لتنال اعترافا رسميا بكونها أدبا، بل هي لغة الحكي الشفاهي كما أنزلت على أفئدة المصريين، لا يرطن بها بل يتنفسها، كأن أحمد فؤاد نجم ليس مجرد مؤلف لأشعار، بل كأنه هو نفسه قد تم تأليفه بشكل جماعي من المأثورات الشعبية وأشعار الناس وحكمتهم ونكاتهم اللاذعة وتراكيبهم الساخرة الفذة، بألسنة ومذاهب الأمهات والصعاليك والفقراء، والظرفاء أيضا الذين سمعنا عنهم، ولم نرهم إلا في حكايات محمود السعدني عن الظرفاء الكبار وبعض الكتب القليلة التي دونت سيرتهم.
على حد معرفتي، فإن كتاب الفاجومي هو آخر سيرة مسجلة لصعلوك مصري حقيقي، لكنه صعلوك على غرار عبد الله النديم ومن سلالته، حيث الصعلكة أكبر من نمط حياة، بل مقاومة ضد ظلم وانحياز لا يقبل المهادنة إلى المظلوم. كما أن كل خطوة في تلك الحياة ليست أقل من حكاية مدهشة متفردة طالعة من السير الشعبية.
لكن كيف يظهر بيننا فاجومي آخر، وعلى أي هيئة وبأي موسيقى؟
بالطبع، ليس مطلوبا من الفاجومي الجديد أن يأتي بنفس الشكل ونوع الموسيقى، بل سيكون ابن عصره وموسيقاه، لكن هل شروط وجوده حاضرة؟
من أين لنا بذلك الذي تشرد طويلا في جحور الفقر دون أن يفسد قلبه، أو أن يحوله الجهل إلى كومة من عفن. من أين لنا بذلك الذي يتحدى الصورة النمطية عن النبل، بأن يكون له مسار مجرم محتمل، لكنه قرر في اللحظة الأخيرة أن يعدل من ذلك المسار، طاقة إجرامه تصير فنا خالصا، من أين لنا برجل جرب اللصوصية دون أن يكون لصا، فارسا لكن يعاني كل نقص، ففرسه ليس النبل بل الحقيقة، لا يخجل من تعريف نفسه في سيرته كما فعل نجم: أنا أحمق. لأن في ذلك التوصيف الدقيق والتلقائي، تمكن من استيعاب أخطائه وفهمها وتقبل نفسه، تمكن من تحويل نفسه من شاعرمحدود الأفكار إلى لسان شعب ومثقفين، إلى جلاد حكام. لهذا السبب وحده هو شجاع، لأن ارتجالات الأحمق تربك حسابات المنتصر بكل إحكامها.
لسانه حلو كفهلوي محتال ومر كسيف لا يعرف اللوع، صادق وكذوب، لا يفرق بين الغضب والحقد، بين الوقوف ضد الظلم العمومي والقصاص التافه لذاته، يحب ويكره بحسم، وكرهه كحبه ساذج وطفولي متقلب، أحكامه شديدة العمومية، ليس مثقفا بالضرورة، لكنه منحازًا إلى شعبه، وكذلك يستمع بقلب مفتوح إلى مثقف ما إذا ما صدق أصالته وتواضعه، فمثله بالضرورة لن يطيق كبرياءً زائفًا أو عجرفة تافهة أو حنجورية تدعي المعرفة. يضربه الأقوى “قلمين على صداغه” ولا يخجل من ذكر ذلك، ولا يبقى له سوى رد الضربة بالحيلة وبسوط اللسان وحده حيث ذراعه لا يقوى على شيء، تحبه النساء رغم أن أفكاره بشأنهن لم تستقم بعد.
كم مثقف من مثقفي تلك الأيام سيكره شخصية كتلك لا تشبه مازورته ضيقة الأفق التي تخاصم الحياة والحيوية، وسيعمل بتنطع على وأدها، ولن يدرك كما أدرك مثقفو عصر الفاجومي عبقريته التي لم تتنكر لوحلها أو أخطائها.
ليس أداة، لكنه فرجة ومسرح وفرقة كاملة، مدفعية من النحافة، بندقية ذات عود ممصوص. أبو كيفه، وهذا ما حبب إليه من الدنيا، لا تذله لقمة لكنه يفرح بها إذا ما وجدها بلا كد أو تعب، يتلذذ باللحظة ولا يقيم وزنا لإرث. لم تتنصر أشعاره في الأرض، وليس لمثله أن يكون منتصرًا، لكنها حفرت في الوعي، وفي ذلك ما يفوق فكرة النصر أو الهزيمة.
أفكر، لماذا فشلت الثورة في أن تنجب مثله، بكل ما أتاحه تطور الوعي والتكنولوجيا والموسيقى في وقت كان أشبه بفرص تاريخية لميلاد صعلوك فذ مثله. أتت محاولات استنساخه باهتة، تدعو للرثاء من تفاهة ما نملكه لمواجهة السلطة، رامي عصام نموذجا، فنه السيء يديننا نحن، أننا لا نختلف كثيرا في السوء عما نعترض عليه، ربما لأنه لا يمكن صناعة الفاجومي جديد من خلال نظرية معلبة، أو من خلال مبادئ ومثل تؤمن بتفوقها الإلهي، أو فقط لأنك تؤمن بهذا فأنت تحمل سمتًا رسوليًا ومبشرًا. ولن يكون مثله من الطبقة الوسطى بالطبع، لأنها في الجذر تتبنى المثال الأخلاقي الطوباوي وتكره أن توصم بالعيب، لا تعترف بالخطايا وهي ترتكبها رغم كل شيء كاملة. لذا فهي ابنة الشعور بالذنب وكراهية للنفس.
لا يمكن لمثله أن يخلق في معمل مدع كهذا، بل عليه أن يأتي من مساحة بين الجهل وفطرة كره الظلم، صعلوكًا حقيقيًا، معجون بالناس والشوارع، لا يحمل فقط أنبل ما بهم، بل أحط ما عندهم أيضًا، اشتبك مع الناس فعلًا وذاق ما ذاقوه حقا، لقد كان مجيء مثل ذلك الرجل صاعقًا، وبسيطًا، نابتًا من الأرض نفسها.
لكن السؤال هل ما زالت روح الفقراء تحمل التماسك نفسه الذي أدى إلى صعود ظاهرة أصيلة كالفاجومي؟ لا أظن أو ربما يأسي “البروجوازي المثقفيني” فقط هو ما يعميني عن ذلك الإيمان البسيط الذي بدا لي للفاجومي بديهيًا” ما دامت مصر ولادة وفيها الطلق والعادة هتفضل شمسها طالعة برغم القلعة والزنازين”. أو ربما لأن الزنازين التي عرفها نجم في عهده، كانت تسمح له بمساحة من المناورة والأمل.