لم يكن صعبا ملاحظة أن العديدين، حتى ممن عرف عنهم التفكير المستقل والنقدي، قد أصابتهم الصدمة من تصريحات عالم الآثار الشهير زاهي حوّاس حول “انزعاج السيّاح الأجانب من صوت الأذان”. ربما نشأت الصدمة من كون تصريح الرجل المثير للجدل قد أصاب “منطقة آمنة” نادرة في صورتنا حول أنفسنا.
اقرأ أيضا.. “الماميز” لسن العدوّ
إن مشكلاتنا السياحية كثيرة، وقد أريق الكثير من الحبر، الحقيقي والافتراضي في الحديث عنها، من دون –للأسف- كثير نجاح في معالجتها. ولكن ذلك الحبر نادرا ما تطرق –ربما أبدا– إلى مسألة الأذان، على الرغم من أنها مسألة طالما أثارت الكثير من الجدل على المستوى المحلي، ومن أجلها نشأت فكرة “الأذان الموحد” من دون كثير نجاح حتى الآن. ويعرف كل منا –حتى لو لم يعترف بعضنا بذلك– قدر العشوائية التي تحكم مسألة أذان الصلاة خاصة في الزوايا والمساجد الصغيرة، وكيف يبقى الملايين رهينة أصوات نشاز تلعلع عبر مكبرات صوت لمرات عديدة في اليوم، من حناجر أطفال وصبية أو مجرد رجال “متطوعين” من السكان أو حارسي العقارات أو خدم المساجد، لا يملكون أي فكرة عن مهارة الأداء الصوتي، فضلا عن أن يمتلكوا صوتا جميلا من الأساس.
مع معرفتنا –ومعايشتنا– لكل ذلك، صدمت تصريحات حوّاس العديد منّا، ربما كان الشعور الداخلي للمصدومين نابعا من مفهوم “هوه إحنا ناقصين؟”. أليس كافيا أن نعاني مشكلات المضايقات والتحرش والقمامة والنصب على السياح، لنفاجأ بحواس يضيف “ميكروفونات الأذان” إلى مشاكل السياحة، مطالبا باقتصار الأذان على دواخل المساجد، وهو الأمر الذي فشلنا في تنفيذها-بافتراض أننا امتلكنا النية– طوال سنوات.
لكن النظر إلى الأذان كـ “مشكلة سياحية” إضافية ليس هو السبب الوحيد للانزعاج، السبب الأهم، الذي أثار غضب الكثير من “العقلاء”، هو أننا اعتدنا، ربما نتيجة الكثير من الأفلام الوثائقية عن الشرق، على الاحتفاظ بصورة رومانسية عن استقبال السياح للأذان، في تلك الصورة/ الفيلم، يغمض السائح عينيه، منتشيا بـ” الصوت الجميل” القادم من لامكان، ربما لحظة غروب الشمس، بكلمات لا يفهمها لكنه يعرف أنها تنادي للصلاة، غالبا ما يكون السائح واقفا فوق سطح إحدى القلاع الأثرية، أو في ساحة أحد المساجد القديمة، أو في صحن جامع تاريخي مرتفع السقف والقباب، حيث يتردد صدى الصوت العذب من الداخل والخارج، تغرّد به حنجرة المؤذن الماهر.
لكن الواقع، بعيدا عن الوثائقيات ومقاطع انستجرام ويوتيوب، يختلف كثيرا عن ذلك، إنه نفس الواقع الذي نعيش نحن أيضا فيه، إنه واقع عشوائية المدخلات الصوتية في -ومن- كل مكان، إنه واقع الميكروفونات والأصوات القبيحة في غالبيتها العظمى، إنه كذلك واقع فرض الحضور الصوتي رغما عن الجميع وعن موافقتهم أو ظروف صحتهم ـأو مرضهم، إنها آلاف الميكروفونات يتداخل صراخها في الآن نفسه في مشهد/مسمع أقنعنا أنفسنا –من فرط عجزنا وتعودنا عليه– أنه جميل، ليس جميلا فحسب، بل لابد أنه يسعد السياح أيضا.
لكن النقطة الأهم في تصريحات حواس، تتضح من تلك الفقرة إذ يقول إنه “كان نزيلا في أحد الفنادق بالأقصر استعدادا لإلقاء محاضرة، لكنه استيقظ والسائحون الذين كانوا في الفندق، مع صوت الأذان”. نفهم من تصريح حوّاس أنه كان يتكلم عن أذان الفجر. والواقع إنه، بعيدا عن كل الجدالات والحجج في مسألة مكبرات الصوت والأذان، فإن ماليس له مثيل في الدنيا، أن يوقظ الناس فجرا بواسطة مكبرات الصوت المرتفعة، إلا لو كنا بصدد إنذار حريق أو كارثة طبيعية. أما أن يكون هذا روتينا يوميا، لا يهم فيه سن السكان أو ظروفهم أو حتى اختلاف دياناتهم، فإن هذا مما لا يمكن تصديقه وتقبّله إلا من خلال الخضوع له طوال العمر، من دون التوقف لحظة للتفكير فيه.
وهكذا شاءت المصادفات في الأسبوع نفسه –هل هي حقا مصادفات أم تراكم خطايا– أن تقول بلوجر أوروبية -لديها أكثر من مليون متابع- إنها تعرضت للتفتيش والإجبار على تعديل ملابسها ومسح صور من هاتفها أثناء زيارة الأهرامات، بحجة أن “ملابسها غير لائقة”. وهو ما أكدته وزارة السياحة في بيانها الذي “اتهمت” فيه السائحة بالتجرد من الملابس أمام أبي الهول! لمحاولة التقاط صور هناك. معتبرة أن سلوك السائحة يخالف “القوانين والعادات والتقاليد المصرية”. وإذا كنا لا نستطيع أن نعرف ما هو المقصود بعبارة “التجرد من الملابس” الورادة في بيان الوزارة، خصوصا أن البيان صدر باللغة العربية فقط! فإن ما رأيناه أن خبر استيقاف السائحة عُرض في العديد من الوسائط الإعلامية، وحظي بملايين المشاهدات، في وقت نشكو فيه من أن منطقة الأهرامات – أهم مناطق العالم الأثرية على الإطلاق- لا تزال تعاني ويعاني زائرها من التطفل والمضايقات التي يمكن متابعة آثارها في كل مواقع الإنترنت التي يكتب فيها السياح تجاربهم، وهي لا تحتاج إلى انطباع سلبي جديد، هذا بالطبع إذا رأيناه سلبيا، إذ ربما يرى البعض تصرف الوزارة إيجابيا وأخلاقيا، تماما كما يؤمنون أن مكبرات الصوت في الفجر تعجب السياح.