بينما كنت أفتش في كتبي وأوراقي القديمة في منزلي وقعت يدي بالصدفة على جزء من أرشيفي الصحفي بجريدة الدستور خلال الفترة من 2005 وحتى 2010.
للوهلة الأولى وللمفارقة شعرت بالرهبة والخوف من التقارير والتحقيقات والحوارات التي رأيتها أمامي، عناوين جذابة وصور ملفتة ومساحة متسعة من النقد لكل المسئولين بداية من رئيس الدولة ووصولا لعدد من الوزراء والسياسيين وغيرهم.
اقرأ أيضا.. عن المساحات التي تضيق.. حرية الصحافة من جديد
ولعل الرهبة التي حاصرتني طوال فترة اطلاعي على الأرشيف كان مصدرها تلك المقارنة التي عقدها عقلي بين ما هو منشور في الأوراق التي بين يدي، والذي مر عليه أكثر من ١٠ سنوات، وبين الواقع القائم الذي تعيشه الصحافة وحريتها الآن، تخيلت في لحظة تفكير ما الذي يمكن أن يحدث إذا نُشر موضوع واحد من تلك المادة الصحفية التي أمامي مقترنا باسمي أو اسم أي صحفي غيري!
في غمرة تركيزي على الأرشيف الصحفي الذي أمامي حاصرتني الأسئلة من كل اتجاه، وأحاطت بي علامات الاستفهام والتعجب من كل النواحي.
أمر مدهش أن يمر على هذا البلد ثورة عظيمة دفع فيها الشعب المصري أثمانا كبرى كي نصل للحظة الحقيقة الواضحة وضوح الشمس: لقد تراجعنا سنوات وسنوات إلى الخلف في كل مؤشرات حرية الصحافة حتى كادت المهنة أن تموت أو ربما قد ماتت بفعل فاعل وانتهى الأمر.
في السنوات التي سبقت ثورة يناير خاض الصحفيون معارك شرسة ونبيلة دفاعا عن الصحافة وحريتها، ورفضا لكل صور الحصار التي حاولت سلطة مبارك فرضها عليها، اصطدم الصحفيون ونقابتهم بكل محاولات إخضاعهم وإدخالهم “بيت الطاعة”، رفعوا رايات التمرد على كل سلطة لا تقيم للصحافة وزنا أو تظن أنها قادرة على كسر إرادة أصحاب مهنة البحث عن المتاعب، وكسبوا بنضالهم مساحات جيدة للعمل الصحفي.
الدفاع عن الحقيقة وعن حق المجتمع في المعرفة قيمة تستحق كل تضحية.
في عام 2006 وخلال اجتماع الصحفيين في جمعيتهم العمومية بمقر نقابتهم، رفضوا تعديلات أجراها البرلمان على قانون تنظيم الصحافة، حاولت السلطة تقييد عمل الصحافة بوضع نص يحصن “الذمة المالية” للمسئولين، وضعت الحبس سيفا مسلطا على كل من يقترب من “ذمم أصحاب السلطة”، وبالتبعية حصنت الفساد وحمته، وقتها قرر الصحفيون إسقاط هذا النص المشين بشكل حاسم، فعلوا كل ما يضمن لمهنتهم الحرية، ولقلمهم الاحترام والكرامة، تظاهروا أمام البرلمان وقت انعقاد جلسة مناقشة القانون، وانعقدت الجمعية العمومية للنقابة في اجتماع طارئ رفضا للقانون الفضيحة، هددوا باحتجاب الصحف، وبالإضراب الشامل، خاصوا معركتهم بشرف وقوة، وكان النصر حليفهم في النهاية: سقط للأبد نص تحصين فساد المسئولين وحمى الصحفيون أقلامهم، وحاصروا حصارهم، فلا مفر!
في مقارنة التاريخ القريب بالحاضر المؤسف كشف كامل لأوضاع مهنة الصحافة، فلا مساحات حرية تسمح بالعمل، ولا قدرة لدى الصحفيين على التفكير والإنجاز والنشر، ولا أمل في أن يكون القادم أفضل من كل ما مضى.
بكل الحسابات المنطقية لا سبيل لمستقبل أفضل بدون صحافة حرة وصحفيين أحرار لا يخضعون إلا للقانون وضمائرهم فقط، يكتبون حيث تكون الحقيقة، وينشرون كل ما يصب في خانة الحقيقة وإطلاع المواطنين على المعلومات، وترسيخ الوعي، والتنوير وكشف كل صور الفساد والانحراف.
بالمقارنة بين الواقع والمأمول تبدو الصحافة المصرية في أضعف لحظاتها على الإطلاق، حصار شامل لكل ما يُنشر، تهديد الصحفيين بسيف الحبس، عناوين موحدة تأتي من خارج مبنى المؤسسة ودون موافقة صالات التحرير، قيود مرعبة حولت الصحافة إلى نشرات رسمية لا يهتم بها القارئ ولا يطالعها ولا يجد فيها ما يشبع رغبته في المعرفة.
بحسب رؤية وقناعات كل أركان السلطة الحالية فإن الصحافة ليست إلا تابعا للحكم، تنشر ما يرغب في نشره، وتمنع وتعتّم على كل ما يستحق النشر، وتمدح وتهلل لكل المسئولين من أصغرهم إلى أكبرهم، وتقنع المواطن بأن الإنجازات لا تتوقف ليل نهار، رغم أن دور الصحافة هو العكس تماما، فالصحافة الحقيقية هي التي تنشر ما يرغب المسئولون في إخفائه، وتكشف كل تقصير وفشل وإخفاق، ولا تروج لإنجازات إذا كانت مجرد أوهام في خيال سلطة تعيش في أوهامها وتتعمق فيها يوما بعد الآخر.
لقد آن الأوان أن تتخلص الصحافة من كل صور الحصار، وأن تخرج من دائرة القيود الوهمية التي أوصلتها إلى حالة من البؤس لم تمر به من قبل، ولعل البداية تكون من الصحفيين أنفسهم، بالضغط أولا على نقابتهم لتتفاوض على تعديل كل النصوص التي تجيز الحبس في قضايا النشر، والوقف الفوري لكل صور التهديد بالحبس، ومنح الصحافة حقها في العمل وفق نصوص الدستور والقانون، ورفع يد الأجهرة الأمنية عن كل ما له علاقة بمهنة الصحافة.
لعل الفترة المقبلة تكون البداية لكتابات جادة، حتى لو كانت على شبكات التواصل الاجتماعي، عن الصحافة وأوضاعها المزرية، وعن حق الصحفيين المصريين في العمل بحرية ووفقا للقانون، وعن التأكيد أن كل حديث عن جمهورية جديدة لا يسبقه إطلاق حرية الصحافة في العمل لن يكون أكثر من شعارات سنراها في محطات التلفزيون لكنها لن تتعدى هذه الحدود أبدا، وعن أن تاريخ الصحافة يشهد أن المهنة لا تزدهر إلا في مناخ عام من الحرية، فالصحافة ترتبط بالحرية وجودا وعدما، وبدون مساحة جيدة من الحرية لا يمكن أن تصمد المهنة أو أن تتقدم خطوة واحدة إلى الأمام.