مصر.. بلد نشأت به الصحافة المعاصرة في القرن التاسع عشر مع صدور الوقائع المصرية، لكن لو سألت أيا من العاملين في الصحافة والمؤرخين والباحثين عن مكان يضم أرشيف للصحافة المصرية فسوف تكون الاجابة أن هناك بعض الأماكن بها بعض الصحف والمجلات المصرية، لننتقل إلى سؤال آخر: هل يوجد لدى مصر أرشيف رقمي للصحف المصرية؟ فسيكون الرد: هناك جهود مبعثرة هنا وهناك، لكن المكتبة الوطنية الإسرائيلية أتاحت صحيفة الأهرام مرقمنة، ثم أتاحت أعداد صحيفة الشمس المصرية التي صدرت من عام 1934 إلى 1948، لكن هذا بعض من كل، فعدد من المواقع والمكتبات بنت أرشيفا رقميا لبعض الصحف والمجلات المصرية، مثل جوجل، لكنه لا يتيح البحث فيه إلا عبر العناوين، ويضم أرشيف الصحافة العالمية بعض الصحف المصرية، والمكتبة الرقمية العالمية بها بعض الصحف المصرية، كما تتناثر العديد من الصحف والمجلات المصرية النادرة في المكتبات والمجموعات الخاصة في الخليج العربي، وتحتفظ مكتبة الكونجرس بنوادر هامة من الصحف والمجلات المصرية، ولن أصدمك عزيزي القارئ حين أقول إن هناك دولا لا تخطر على ذهنك لدى مكتباتها نوارد من المجلات المصرية التي لا تتوافر في مصر، وكانت مكتبة الإسكندرية مع السيداج (المركز الفرنسي للدراسات) أطلقا أرشيفا صحفيا يعتمد على الأبحاث، ثم بدأت مشروعا لبناء أرشيف رقمي للصحافة المصرية غير أنه توقف منذ ثلاث سنوات، كما أن ما تحتفظ به الجامعة الأمريكية في القاهرة من الصحف والمجلات يعد مهما من حيث الندرة وهي تقوم برقمنة مجموعاتها.
اقرأ أيضا.. ما هو الغذاء.. ما هي النزعة الاستهلاكية؟
الكارثة أن مصر فقدت جانبا من تراثها الصحفي الذي كان محفوظا في مقر المجلس الأعلى للصحافة الذي احترق مع احتراق مقر المجلس في 28 يناير 2011 حين أُحرق مقر الحزب الوطني المجاور له، لم يشعر بألم فقد هذا الأرشيف إلا الباحثون الذين كانوا يترددون على مكتبة المجلس، هذا ما دفع إلى السعي مع نقابة الصحفيين حين كان الأستاذ يحيي قلاش نقيبا والأستاذ محمود كامل مسؤولا عن كثير من الأنشطة في النقابة لبناء أرشيف رقمي لنوادر الصحف المصرية في نقابة الصحفيين خاصة الصحافة التي ترجع لعصر الخديو إسماعيل ثم من تلاه من حكام مصر، وهي مجموعة من الصحف والمجلات النادرة غير أن هذا المشروع توقف منذ ثلاث سنوات.
إن الحقيقة المرة أننا إلى الآن لا نمتلك ببليوغرافيا كاملة لما صدر في مصر من مجلات وصحف، خاصة تلك التي كانت تصدر في مدن مثل: أسيوط، طنطا، المنصورة.. وهناك مجلات صدرت واختفت في زمن قصير، وللأسف الشديد تسرب جانب من هذه الصحف والمجلات خارج مصر، هذا ما يعني أننا مستقبلا سنكون مرغمين على الرجوع إلى مصادر غير مصرية للحصول على نماذج منها.. الصحافة هنا ليست أوراقا، لكنها مصادر تاريخية وتسجيل ليوميات الوطن، أي ذاكرة الوطن، لذا بات من المهم بناء أرشيف رقمي للصحافة المصرية، وأيضا ورقي، وهو ما يقتضي بناء مؤسسة وطنية لهذه الغاية، وأقترح أن يكون مقرها دار الهلال التي يمكن أن تضم أيضا متحفا للصحافة المصرية.
بناية دار الهلال بناية لمؤسسة صحفية شيدت بعناية وهي تعبير من حيث العمارة عن العصر الذهبي للصحافة في مصر، فضلا عن أن موقعها مناسب لهذا الغرض، كما أن تصميمها يتيح إمكانيات هائلة في هذا السياق.
في هذه الحالة لابد أن يكون لدينا أيضا أرشيف وثائقي يضم وثائق الصحافة المصرية كملفات الصحفيين والكتاب الذين رحلوا، ووثائق تأسيس الصحف والمجلات المصرية، ثم القرارات المتعلقة بالعمل داخل هذه الصحف، ثم إنه يجب أن يتكامل مع هذا أرشيف متكامل للصور الفوتوغرافية، خاصة أن مصر فقدت جانبا كبيرا من أرشيفها من الصور الفوتوغرافية حيث خرجت سلبياتها خارج مصر، ولذا فإن الخطورة استمرار هذا النزيف، فالأستاذ رشاد القوصي المصور الشهير دوليا أرشيفه الشخصي من أوراق ومستندات وصور يجب أن يكون ضمن هذا الأرشيف هو وكل من عمل في التصوير الفوتوغرافي في مصر، كما يجب أن يضم متحف الصحافة المصرية الكاميرات بكافة أنواعها وأجهزة التحميض والطباعة، إلى جانب ماكينات طباعة الصحف.. إن هذا يعني أيضا أنه كلما تأخرت مصر في إنجاز هذا المشروع سيكون هناك من ينجزه خارج مصر، فضلا عن أن هذا الأرشيف سيدر عوائد مالية تتيح تغطية نفقاته، إذا أحسنت إدارته طبقا لاقتصاديات الإبداع في عصرنا، كما أن المتحف الذي سيصاحبه سيدر عوائد أخرى.
هذا ما يقتضي من أسر الصحفيين الراحلين التعاون مع مؤسسة الأرشيف فما لا يتاح لدى المؤسسات موجود لدى الأسر، كما يقتضي ألا تتمسك المؤسسات الصحفية بما لديها، إذ بدون تعاونها لن يُبنى هذا الأرشيف، خاصة أنها فقدت جانبا من أرشيفها، كما أن تحفيز أصحاب المجموعات الخاصة في مصر على تقديم ما لديهم لهذا الأرشيف مما يجعل فرص تكوينه ممكنة، ما يستلزم تكوين فرق عمل بحثية تكون كوادر متخصصة بالتدريب في تاريخ الصحافة في مصر.
إن كل ما سبق يقودنا إلى أنه في الفضاء الرقمي للصحافة إذا لم توجد هذه المؤسسة وتقوم بالأرشفة الرقمية بمعايير صارمة ستضطر المؤسسات الإعلامية المصرية شراء مواد أرشيفية من أرشيف أو صور بمبالغ طائلة من خارج مصر، وهو ما سيشكل عبئا على موازنات الإعلام المصري، بل سيكون الأرشيف الرقمي المصري مصدرا يدر عملات صعبة لمصر، ومركزا يعزز مكانة مصر في الفضاء الإعلامي الدولي، خاصة أن مصر كانت تصدر بها صحف ومجلات باللغات: الإنجليزية والفرنسية واليونانية والتركية والإيطالية.. إلخ.