يعتقد البعض أن الأزمة الاقتصادية يقتصر تأثيرها على الوضع الداخلي مثل تراجع الاوضاع المعيشية وازدياد معدلات البطالة وانخفاض قيمة العملة الوطنية أو انعكاساتها الاجتماعية مثل تراجع منسوب القيم الاخلاقية كحاكم وكابح للسلوك الفردي والجماعي وما يتلوها من ارتفاع معدلات الجريمة والعنف الاجتماعي.
وهي أوضاع سلبية صعبة يهون البعض منها بالقول -انها في تاريخ الأوطان الممتد مجرد فترات مؤقتة وتزول في نهاية المطاف إذ أن مرحلة رخاء وازدهار قد تلي فترة العسرة والشدة من شأنها ان تمحو أو تخفف من هذه الآثار.
لكن قراءة التاريخ تقول إن الأزمات الاقتصادية لها تأثير كبير على الوضع الجيوسياسي للدولة يتجاوز الوضع الداخلي الي الوضع الخارجي والي مكانتها في الاقليم والعالم وانه عادة ما يدفع أعضاء نخبتها الحاكمة إلى اتخاذ قرارات أو قبول خيارات ما كانوا ليتخذوها لولا ضغوط الأزمة الاقتصادية.
ومكمن الخطورة في هذه القرارات المتعلقة بالسياسة الخارجية المتخذة في ظل ضغوط الأزمة الاقتصادية الداخلية أنها تعتبر نوعا من التعاقد مع دول أخرى ومع المجتمع الدولي تأخذ صورة الأمر الواقع والوضع الدائم ويصعب عادة تغييرها لأنها ليست بالأمور الداخلية القابلة عادة للتغيير والتعديل طبقا لأحوال الازدهار والرواج أو الانكماش والكساد.. الخ.
وتنطبق هذه القاعدة أكثر ما تنطبق على مصر إذ لطالما كان إبقاءها داخل حدودها وحصار دورها الإقليمي العربي والأفريقي والآسيوي والاسلامي هدفا للقوى العالمية الغربية المسيطرة من الإمبراطوريتين الفرنسية والبريطانية ثم من وريثتهما العالمية الولايات المتحدة.
وعادة ما تنتهز هذه القوى العالمية والقوى الإقليمية المرتبطة أوضاع الازمة الاقتصادية لتمارس ضغوطا أو تقدم اغراءات لحمل مصر على اتخاذ قرارات -امتنعت لفترة طويلة عن القيام بها -وذلك في مقابل مساعدة القاهرة في الخروج من ضائقة الأزمة الاقتصادية.
ونناقش هنا ٣ نماذج لقرارات سياسة خارجية مهمة ومصيرية أتخذها صانع القرار المصري تحت ضغوط الأزمة الاقتصادية وهي الازمة ذات الطبيعة المتكررة والدورية في مصر الحديثة عموما ومصر المعاصرة خصوصا منذ عهد الرئيس السادات وتطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادي 1974.
هذه القرارات الكبرى التي كانت الأزمة الاقتصادية دافعا أساسيا في حدوثها و اتخذتها السياسة الخارجية المصرية مضغوطة بقيودها قلبت المنطقة رأسا علي عقب ولم تعد المنطقة ولا العرب ولا الأمن القومي العربي ودور مصر بعدها كما كانت.
1- زيارة السادات الى القدس والصلح مع إسرائيل 1977:
في دوافع زيارته للقدس في نوفمبر/تشرين الثاني 77 التي كانت أكبر قرار سياسة خارجية صادم وصاعق استراتيجيا في التاريخ العربي المعاصر كتب كثيرا عن ولع السادات بالأضواء والحركات الاعلامية والمسرحية بتعبير اسماعيل فهمي في مذكراته أو اعتقاده أنه آخر فراعين مصر وانخداعه الكبير بتصوير الدعاية الغربية له باعتباره صانع السلام في الشرق الأوسط وعن تأثره بصديقه هنري كيسنجر في فكرة إسقاط“الحاجز النفسي” بين الأعداء بضربة واحدة عندما قال:
[ أنني طرقت باب الصين على غير انتظار … فتح العالم عيونه فجأة فإذا أنا في الصين على غير انتظار وقطيعة 30 عاما تسقط في ثلاثين ساعة قضيتها في بكين. لقد اسقطت “الحاجز النفسي” بين أمريكا والصين وفي حين كان يظن آخرون قبلي أن الرأي العام الأمريكي لن يستجيب لما فعلت فان الاستجابة كانت كاملة.
ولكن لم يكتب بشكل كافي في فهم هذا القرار الخطير عن الدور “الحاسم “للأزمة الاقتصادية- التي واجهها السادات وقتها – في صنع قراره.
وربما يعود السبب في نقص الحديث عن هذه الزاوية المحورية في زيارته الصادمة للقدس هو تعمد السادات وتعمد الامريكيين وبعض دوائر الخليج تغطيته بأسباب ودوافع بعضها لا قيمة كبيرة له مثل الحديث المبالغ فيه عن العوامل النفسية للصراع والرغبة في دخول التاريخ وفرصة الحصول على جائزة نوبل للسلام.
وهذه هي أدلتنا على أن قرار السادات بإنهاء الصراع العربي الاسرائيلي وتصفية القضية الفلسطينية وهدم أسس الأمن القومي العربي وعزل مصر عن أمتها بقراره زيارة القدس كان في جزء اساسي منه محاولة فاشلة منه وفي الطريق الخاطئ تاريخيا لحل أزمته الاقتصادية.
1- بين عامي 1975 و1976 بدأ الرئيس السادات في التصريح علنا بإنه مفاجئ بالوضع الاقتصادي الخطير الذي وصلته مصر ووصف السادات الاقتصاد المصري أنه [بلغ درجة الصفر].
قال السادات ذلك بعد ان ادي تسببه في إطلاق حرية الاستيراد لاشباع حاجات استهلاكية والاستدانة غير المسؤولة من القروض الاجنبية إلى دفع مصر الي حافة الإفلاس فعجزت المالية المصرية عن الوفاء بسداد الديون قصيرة الأجل. وترافقت تلك الضائقة مع تضييق آخر وتراجع واضح ومتعمد في حجم المعونات العربية من الدول النفطية عموما والخليجية خصوصا مقارنة بحجمها في السنوات الثلاث السابقة عليها. واخفقت زيارات السادات ووزرائه المتكررة إلى دول الخليج في هذين العامين لمناشدة دول الخليج زيادة المعونات الى حائط مسدود ويوجد تلميح في كتاب الاستاذ احمد بهاءالدين [محاوراتي مع السادات] حتى إلى معاملة شبه مهينة لقيها السادات رئيس أكبر دولة عربية في الجولات الخليجية في هذين العامين.
الدليل العملي على ذلك انه عندما كانت مصر في اشد الحاجة الي معونات اشقائها تراجع هؤلاء وبصورة مريبة مرة واحدة في حجم معوناتهم عام ٧٦ في المدفوعات الثنائية الميسرة بنسبة ٤٥٪ وفي غير الميسرة بنسبة٦٥٪ وكان ذلك بمثابة إحكام حبل الأزمة الاقتصادية على رقبة مصر وخنقها عمليا وهي الأزمة التي تسببت فيها سياسة السادات الانفتاحية غير المتدرجة التي قضت تقريبا على القطاع السلعي الإنتاجي القادر علي سد العجز في ميزان المدفوعات وسداد الدين أو على الأقل تقليله وذلك لصالح قطاع الخدمات الذي يولد مساهمة متواضعة.
حتى ذلك الوقت كان السادات رغم قبوله سلاما مباشرا مع إسرائيل يتردد في توقيع حل منفرد دون مشاركة عربية يقود فقط لتطبيع ثنائي مع إسرائيل [كان رده دائمًا قبلها ان التطبيع مع إسرائيل شئ لن نراه في جيلنا] ، وكان مترددا أيضا في قبول شروط صندوق النقد الدولي ولم يكن هذا التردد مقبولا او يمثل تنازلات كافية للأمريكيين . ولكن الأمريكيين وجدوا فرصتهم في الضائقة الاقتصادية الخانقة لدفع السادات الي بلوغ الميل الأخير في التنازلات والتخلي عن كل التحفظات السابقة.
وهذا ما حدث بالفعل فبمجرد رضوخ السادات لما بدا أنه شرط غربي للحصول على المساعدة في الخروج من أزمة الديون الخانقة تحولت الدول الخليجية التي أغلقت نسبيا “صنبور” معوناتها في عامي الضائقة الي إعادة فتح هذا الصنبور على آخره مع اعلان السادات قبول مشروع صندوق النقد الدولي ومع تواتر المعلومات التمهيدية عن اتجاه السادات لحل منفرد في صورة التحركات السرية في المغرب [لقاء حسن التهامي وموشي ديان] ورسائل شاوشيسكو بين إسرائيل والسادات.
فقدمت السعودية ٤٠٪ لوحدها من رأسمال هيئة خليجية انشئت لدعم مصر وتحولت مصر – التي كانت على وشك الافلاس 1976 – بمعونات عربية وامريكية وقروض غربية منسقة فيما يمكن وصفه بمكافأة لها عن سلامها مع إسرائيل وقبول شروط صندوق النقد الدولي الي دولة منتعشة اقتصادية بمعدل نمو وصل في اعوام 77- 81 إلى ما يقرب من 9%. يشير د. جلال امين الي “أن قبول الرئيس السادات زيارة القدس كانت واحدا من الشروط التي فرضتها أو أوحت بها الضغوط الغربية لكي تقبل مساعدته في الخروج من أزمته الاقتصادية “وهي الأزمة التي بدا بعد انتفاضة الخبز الشعبية في يناير 77 انها اصبحت قضية وجودية تهدد استمرار السادات نفسه في الحكم.
ويؤكد تقرير عن وثيقة للاستخبارات الامريكية في فبراير عام 77 اي قبل 9 شهور فقط من زيارته للقدس الصلة القاطعة بين التأزم الاقتصادي واندفاع الرئيس السادات غير المحسوب نحو إسرائيل “ان ضغوط الوضع الاقتصادي السيئ واعتماد القاهرة على الدول المنتجة للنفط في العجز المالي بسبب الديون الخارجية المتفاقمة يجعل السادات في حاجة إلى تحقيق تقدم في مفاوضات السلام خاصة وان مخاطر الاطاحة بالسادات من السلطة تتزايد إذا لم يكن هناك تحسن في الأزمة الاقتصادية “.
في الجزء الثاني من هذا المقال نتحدث عن قرارات السياسة الكبرى التي شكلت انعطافات حاسمة في مرحلة مبارك ومرحلة ما بعد 25 يناير و30 يونيو.