من وقت ما أعلن رئيس الجمهورية عن إطلاق الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، وتخصيص العام المقبل 2022 كعام للمجتمع المدني لم تتوقف الأقلام ولا الأفواه عن الحديث ما بين مؤيد ومعارض، أو متحفظ. ولم تتوقف الأقلام من حينها عن مدى مصداقية الدولة في السعي نحو تطوير منظومة حقوق الإنسان في مصر، أو العمل على تأطيرها بشكل نموذجي من وجهة نظرها، حتى ولو كان غالبية العاملين بالمجتمع الحقوقي لم يرقهم هذه الانطلاقة، منددين بممارسة سلطوية ضد مفهوم الحقوق والحريات، أو بأوضاع المسجونين، وخصوصاً المحبوسين احتياطياً، والأخص منهم من طالت مدته، ومن تم إعادتهم في قضايا جديدة بعد قرارات الإفراج عنهم. كما أن هناك من نادى بمخالفة الدولة للاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان في العديد من تعهداتها أو التزاماتها، ومنهم من ضرب أمثلة بتوسع الدولة في استخدام عقوبة الإعدام، وأن على الدولة أن تسعى إلى تجميد تنفيذ تلك العقوبة حتى يتم الاستدراك التشريعي لها، أو من يدعم تحفظه بما تواجهه المؤسسات العاملة في المجال الحقوقي من تضييقات مختلفة أو من يطالب بتعديل قانون الجمعيات لإتاحة المزيد من الحريات في العمل داخل المؤسسات الحقوقية، وهناك أمثلة عديدة ومختلفة للاعتراضات على إطلاق الاستراتيجية الوطنية.
ولكن لما لا نثمن البداية نحو التغيير المحمود والمنشود في بناء نسق جديد لسعي الدولة نحو تبني مفهوم مستحدث من وجهة نظرها في دعم الحقوق والحريات، ونسعى أو نعمل على استغلال تلك الانطلاقة أو تلك الاستراتيجية في أن تكون للمجتمعات الحقوقية، وكافة المطالبين بتطوير العمل الديمقراطي والحقوقي في أن تكون لهم مطالب موضوعية أو إسهامات فكرية محددة كل في مجال معين، ولماذا لا نتعامل معها بمنطق عقلاني عملي، وفي أقل التقديرات فلندع التجربة تحكم علينا وعلى الاستراتيجية ذاتها، فكما اننا نسعى نضالاَ في مواجهة الخروقات في مجال الحقوق والحريات، ونسعى في أن ينال مقترف تلك الخروقات عقابه، أو أن يقدم للمحاكمة على خرقه لقواعد ومبادئ حقوقية أو دستورية، بما أن الجرائم ضد الحقوق والحريات لا تسقط الدعوى عنها بالتقادم، فلندع للتجربة مجالاً ونفسح لها طريقاً، فمثلا على العاملين في قضايا المرآة تكون لهم أهداف تتناسب مع إطلاق الاستراتيجية، والعاملين في مجال الأطفال لهم أهداف تطويرية أيضا، وهكذا كل في مجاله، وعلينا أن نتعامل مع الدولة بمنطق الحصيف واستغلال الفرص التي تروج لها، وأن نوالي في تقديم الطلبات والمذكرات ومشروعات القوانين، وما إلى ذلك من سبل تضع الأجهزة المسؤولة أمام مسؤوليتها الحقيقية، فها أنتم قد روجتم لاستراتيجية حقوق الإنسان، وها نحن نقدم لكم من جانبنا ما يرقى بحالة حقوق الإنسان، وما يطور من العمل الحقوقي أو العمل العام والأهلي في مصر.
ومن هنا ولعلها بداية حسنة ومشروع جديد نأمل به تطويراً وتحسيناً للحالة الحقوقية المصرية، إلا أننا واستغلالاً لهذه الاستراتيجية، فإنه يجب على الدولة أن تسعى وبشكل جاد لتطوير التشريعات بما يتناسب مع هذه الانطلاقة ويتماشى مع محددات هذه الاستراتيجية ، وبشكل خاص تلك التشريعات التي تؤكد على احترام الحالة الحقوقية، وأرى أن أهم تلك التعديلات التي يجب أن تصدر وبشكل عاجل، أولها الالتزام الدستوري بعمل محاكم استئنافية لمحاكم الجنايات، وهو ما يستلزم تدخل تشريعي، إذ أن مهلة العشر سنوات المحددة من الدستور المصري قد مر منها سبع سنوات، وفي هذا النسق أيضاً فلابد من التدخل التشريعي الجدي بما يقنن أمر التقاضي عن بعد، وينظر في أمر القفص الزجاجي العازل، كما أن ليس هناك أهم ولا أجدر بالحماية من الحريات الشخصية، وبالتالي يجب أن ندفع الدولة بأجهزتها التشريعية في التسارع الجاد نحو تطوير مفهوم الحبس الاحتياطي بما يقلل من مداه الزمني، فلا يصح أن تكون المدة القصوى سنتين رهن الحبس الاحتياطي، وبما يتماشى مع ما أخذت به التشريعات الأخرى من بدائل للحبس الاحتياطي، وأهمها الأسورة الإلكترونية، والنظر في تطوير مفهوم التدابير الواردة، وخصوصاً المراقبة الشرطية، إذ أن هناك مراقبة مجتمعية تفضلها، أو الإلزام بعمل مجتمعي نافع خلال مدد قصيرة، أو ما تراه الهيئة التشريعية أفضل في تطوير مفهوم الحبس الاحتياطي.
وهكذا يكون استغلالانا لسعي الدولة نحو تطوير العمل الحقوقي، ولكن أن نقف منها موقف المتربص أو المترصد لأي فعل أو مفهوم بالنوايا السيئة فقط لن يجدي او ينفع في مثل هذه الأمور، فما فائدة القول بأن الماضي أو التراث الحقوقي المصري ليس إيجابي، فعلينا أن نحسن استخدام الأدوات المتاحة، وأذكركم بأن معظم التقارير الحقوقية كانت تستهدف تحسين الحالة الحقوقية، بما فيها أو أهمها هو استهداف البنية التشريعية، وهذه من وجهة نظري تعد من الفرص الجيدة التي يجب علينا أن نسعى بشكل جيد ومنظم في استغلالها من جانب الدولة.
ومن هنا فأذكر كافة المنظمات أو الجمعيات العاملة في مجال حقوق الإنسان أن تبدأ وبشكل جدي في عمل دراستها أو تطوير ما هو موجود لديها من دراسات أو أفكار والعمل على استغلال مبادرة الدولة بهذه الاستراتيجية في تفعيل تلك الأفكار الحقوقية، كما أننا نعلم جميعا أنه ليس هناك عمل بشري مكتمل، فحتى وإن كان هناك أوجه نقص أو قصور في نصوص الاستراتيجية، فلعلها تكون هي البداية بما فيها من قصور، فعلينا أن نستغل ما بها من إيجابيات ونبني عليها، ونسعى بكافة الأشكال والطرق أن نوجه نظر القائمين الرسميين على تفعيل هذه الاستراتيجية لما بها من أوجه قصور أو نقص. ولكن الأهم والأكثر جدية أن نستغلها فعليا وواقعيا، فلعلها تكون الباب الذي علينا أن نسلكه ونطور ما نحتاجه ونسعى إلى تحقيقه من خلاله.
ومن هنا فأنا أرى أن إطلاق الاستراتيجية لحقوق الإنسان، بعيداً عن استخدام النوايا التي أو التعقيب على الإعلان قبل تنفيذ، هو عمل جيد وهادف من الدولة في تطوير تعاطيها مع ملف حقوق الإنسان بشكل عام، وما علينا جميعا هو تحفيز ذلك السعي والعمل نحو استغلاله لما يفيد العمل الحقوقي والعمل العام بشكل أفضل بما يعود على الحياة العامة أو المجال العام بما هو خير لصالح المواطنين، أما الوقوف من ذلك كله موقف المتفرج أو المتربص فلن يفيد العمل العام في شيء، حتى ولو تم اعتبارها على أساس كونها مجرد وثيقة لا تحتوي على عنصر الإلزام القانوني، وهو الحديث الذي تحدث به الكثيرون من المنتقدين، فما علينا بكونها وثيقة لم تأت بصيغة قانونية، ولكن لم لا نجعل من رهاننا الحقيقي هو الوقت والتنفيذ والفعل المستقبلي، دون الأخذ بالسوابق والشبهات ما قبل التجريب، واذكركم جميعا وأذكر نفسي أن لكل فعل بداية ولكل شيء نهاية، فلعلها تكون بداية مبشرة لعصر تنال منه حقوق المواطن المصري وحرياته، ما لم تنله فيما سبق، أو تكون فعليا نهاية لأيام عانى فيها المواطن المصري من عدم مراعاة لأي شكل من أشكال الحقوق والحريات. ولكن لابد وأن تعي الدولة قيمة تعزيز أو تطوير ملف حقوق الإنسان بإطلاقها هذه الوثيقة، وأن عليها أن تدعم ذلك بمجموعة من الأفعال التي تعبر عن إرادة الدولة والتي يجب أن تتمثل في إصدار مجموعة من القرارات التي تعزز تلك الخطوة، وأن تدفع لاستصدار تعديلات تشريعية تتفق مع ما تهدف إليه هذه الوثيقة، فلعل الأمر لا يقف عند حدود تلك الوثيقة، بأن نعتبرها خطوة أولى تعقبها خطوات جديدة.