بين متعاطف ومحايد ومهاجم تسقط الناجيات من التحرش ليسددن فواتير المجتمع. هكذا تقول العبارة الأشهر “أيه وداها هناك” ستظل وصمًا يُطاردنا نحن النساء. مزيدًا من الأسى نكّومه فى ذاكرة لا تعرف سوى الخذلان والاتهام لمجرد النوع.
بناء على ذلك يبدأ التأصيل من الوعي الجمعي الذي يرى فى البنت همًا. على سبيل المثال “يا مخلفة البنات يا شايلة الهم للممات” و”لما قالوا جالي ولد قلت اتشد دهري واتسند” و”لما قالوا دي بنية مالت الحيطة عليا”.
كثير من الأمثال الشعبية التي تأكل منا كل يوم. ورغم سياقات صناعة الأمثال المرتبطة أحيانًا بأدوات الإنتاج فإن صورة تُعبر عن قيمة أقل للمرأة في مناطق متعددة. لقد جئنا في الحياة منتقصين وللدقة جئنا لينتقص منا العالم.
نقرأ شهادات عن التحرش ونقف مكتوفي الأيدي. البعض يُدين الفتيات والآخر يدعمهن كما أن هناك من لا يكترث. ننخرط فى مناقشات واهية لأننا لم نكن أبدًا مكانًا الآخر. كثير منا لا يعرف أن يترك مكانه ليكون فى الجهة الأخرى ويُصبح المثل الشعبي “ما يحس بالنار إلا اللي كابشها” الأصدق في النهاية.
من لا يعرف قول لأ ومن يُقدر (لا)
في مناقشة حول منشور على موقع التواصل الاجتماعي قالت صديقة إن على الفتاة أن تقول لا وترفض بشدة ويمكن أن تضرب أوتصرخ. نظريًا أتفق مع صديقتي لكن حالة من الارتباك تتملكنا.
أحيانًا قد يصنع العجز صمتًا وأحيانا تتعطل الحواس. مشاعر متضاربة وعشرات المبررات. ورغبات بأن هذا الفعل ربما كان عارضًا وأن الآخر سيتراجع الآن.
حالة إنكار تحدث لكثير من الفتيات حين يقعن في هذا المأزق. هكذا يُصبح الرفض النظري مجرد تعامل مع موقف بعيدًا عن كل تفاصيله، كأن نعرف أن فلان تعرض لحادث. رغم أن هذا المثال به تبسيط مخل إلا أنه مقصود.
على سبيل المثال حين نسمع بحادث يتحدد موقفنا حسب الجهة التي نحن فيها. إذا كان المصاب يخصنا لعنّا سائق السيارة، وإذا كان السائق يخصنا وصفنا المصاب بالجهل والغباء والتسرع. وإن كان خبر لا يخصنا تجاوزناه. وهذا ما يحدث عندما نقرأ شهادات الناجيات في النهاية. نقرأ سطورًا خالية من الارتباك. تجربة لا نشعر بألمها وارتباكها. جرحًا لن يراه أحدًا غير صاحبه وتجربة سيئة ربما شوهت الروح وثقبت بساط الثقة نحو العالم في النهاية.
كتبت علينا الطاعة
حين نتحدث عن شهادات التحرش علينا أن نترك جانبًا التنظير. وننظر لأحوالنا نحن النساء الذي لم يربوننا على قول لا. كتبت علينا الطاعة. أتحدث بصيغة الجمع وأعرف أن هناك استثناءات. هناك نساء ولدن قويات بالفطرة. وهناك عائلات اجتهدوا في تربية بناتهم. لكن تظل القاعدة الأكبر أنه على الفتاة الطاعة في النهية.
هكذا طاعة الأم والأخ والأب وكل فرد في العائلة. هي لا تُشارك في قرار لم تتعلم إدارة مكان أبعد من المطبخ لا تملك إرادة الاختيار وصناعة القرار.
حين نتحدث عن قول (لأ) هل نظرنا إلى السياق والقدرة. هل قدرة امرأة أن تقول (لا) لصديق هي نفس قدرة امرأة أن تقول لا لمديرها. كما هل هي ذات القدرة لصاحب العمل؟. إن معاملات عِدة تتحكم في قول هذه الكلمة التي قد يطلقها البعض ظنًا أن الأمر ينتهي حين تقول المرأة لا. وماذا عن مجتمع يتعامل مع الكلمة بكثير من عدم الجدية. ماذا عن الشِطر الشعري “يتمنعن وهن الراغبات” وماذا عن اعتماد الكثيرين لكلمة (لا) كنوع من المماطلة وطلبًا لمزيد من الإلحاح فهل نحن مجتمع يتعامل مع (لا) من امرأة بجدية؟. كم رجل في وضع التحرش يمكن أن يتوقف حين يسمع الرفض من المرأة التي معه؟.
بالتأكيد أن كلمة من حرفين بالغة الصعوبة أكثر من كل أفكارنا عن مدى حسمها.
القوة المزيفة
من ناحية أخرى فأن الفتيات الراغبات في الاستقلال ظنن أن الاستقلال يتحقق عندما يتركن بيت العائلة. وللأسف هناك كثيرون رجال ونساء يروجن لذلك، تترك الفتاة بيت أهلها وتسكن مشاركة أخريات أو منفردة. تخرج مستكشفة العالم ومكونة خبرتها وفي إطار الاكتشاف وبمنطق الفهلوة المصري سترتدي عباءة القوة المزيفة. كذلك ستنخرط فى أوساط قد لا تعرفها تلتقي أناسًا تظن أنهم سيمهدون لها الطريق. وبين الأمل والرغبة في إثبات القوة والاستقلال تسقط في مطبات عديدة.
ما هو الفارق بين التحرش والغزل؟ كما أن ما هو الفرق بين الحب والصداقة؟ ما هو الفرق بين علاقة العمل وعلاقة الصداقة؟ لا حدود واضحة ولا مفاهيم ظاهرة. تختلف الرؤية والتعريف من امرأة لأخرى. لكن على سبيل المثال لا أحد يقف ليفهم أو يشرح.
لا مناهج دراسية تساعد في بناء الشخصية أو توضيح المفاهيم لا قصص تخترق هذه العوالم. لا مجتمع يسمح لفتاة أن تحكي خبرتها فحتى هؤلاء اللواتي كتبن بدون أسماءهن يتعرضن للوصم. بدلًا من أن ندعم قوتهن في البوح نُخضع الأمر للتفكيك في عكس شجعاتهن. بينما البعض يُفند ليس طلبًا للوصول إلى الحقيقة بقدر ما هو تفنيدًا للتشكيك وإضعاف قوتها. رغم أنه موقف لا يتم تعريفه إلا من خلال صاحبة الواقعة فقط وليس أي أحد آخر.
حين يُغازل أحدهم فتاة هل يُعد ذلك تحرشًا؟ لا يمكن الحسم ولا أحد يقرر هل ذلك غزل أم تحرش سوى الفتاة نفسها. المشوشة في كثير من الأوقات بفعل المجتمع.
نُدين الناجيات أم نُساندهن؟
الحقيقة أنني لا أميل إلى الأحكام المطلقة. كما أن الحياد هنا جريمة تُزيد من تواطئنا العاجز تجاه النساء اللواتي يسددن كافة القهر والتنشئة المعيبة.
لا أميل إلى التنميط أو القولبة بين كثيرات تعرضنا للتحرش والعنف الجسدي. كانت هناك حالات أدعين ذلك للنيل من آخرين أو تشويه سمعتهم. ونحن أبناء مجتمع يعمم السيئة ويميل إلى الأحكام الجاهزة. هكذا تظل حالات الادعاء والتشويه علامات تشكك وتزعزع الثقة في شهادة الناجيات. وهو ضغط إضافي تتعرض له الفتيات اللواتي جاهدن وتشجعن ليعترفن بما تعرضن له. سنظل نحن النساء جميعًا نسدد فواتير هؤلاء اللواتي ادعين بالباطل على آخرين. كما سنساق لإنكار آلاف الحقائق وسنمرر خبراتنا بالرجال الذين نعرف عنهم جيدًا سوابق تحرش. وفي النهاية نغلف التمرير بعبارات جاهزة أو نصمت تحت وطأة الصداقة والمصلحة.
إلى الناجيات من تحرش أو أي فتاة
أرجو أن تعرفي أننا في مجتمع لا ينتصر للمرأة. ليست الحداثة تتحقق في الدعوات المنزلية وليست الحرية هي تلك الصور التي يروج لها البعض. في النهاية الحرية أن تفعلي ما تريدين وليس أن يدفعك الآخرون لفعل ما يريدون. حاولي أن تضعي سيناريوهات محتملة السيء منها قبل الجيد لكل فعل ستقومين به. لسنا جميعًا علي نفس درجة الوعي والمنطق والرؤية. لا نعرف أنفسنا ولا نختبر قدراتنا وربما لا نكتشف قدرتنا على الصمود إزاء موقف نرفضه. لا أقول لك ابتعدي وتقوقعي لكن احفظي مسافة بينك وبين ما ستقومين به المسافات تضمن الرؤية وإعادة النظر، تسمح لك بالتراجع واتخاذ قرار.
وإذا حدث ما تستائين منه فأبسط الأمور أن تبتعدي عن هذا الشخص ولا تصنعي له مبررات. هكذا فأن تبريرنا أخطاء الآخرين يساعد في إضافة ضغوط علينا.
ليست هناك وصفة سهلة يمكن تطبيقها للإفلات من شرك الوقوع في حادث تحرش. لكل حالة وصفتها حتى المرأة النفسها يمكن أن تتعرض لأشكال مختلفة من التحرش والابتزاز.
في موقف شديد التخبط والفرز أولًا أدعم كل امرأة. كما أدعم الناجيات وأُثمن شجاعتهن في التخفف من عبء ما لحق بهن. كما أن كل ما يحزنني أنني أقف عاجزة عن تقديم نصيحة ولا أملك شيء كامرأة جاءت إلى القاهرة طلبًا للاستقلال. كحلم الكثيرات سوى تجربتي أن تضعي قواعد لنفسك بما يضمن سلامتك أولًا. لأننا ببساطة يا عزيزتي نؤمن أنه إذا سقطت ضحية كثر جلادينها. ولا عزاء للضعيفات القوة تنبع من الروح والوعي هو الطريق الحقيقي للتحرر. وفي النهاية الاستقلال المادي هو الاستقلال الحقيقي آمل للجميع السلامة.