لا دولة تنهض وتتقدم حقا دون حريات عامة، ولا حريات عامة تكتمل بدون الحق في التنظيم، ولا حق في التنظيم يتسق دون أن يشمل الأحزاب السياسية، ولا أحزاب سياسية تنمو وتكون فاعلة وحية دون حياة سياسية حقيقية.
نقطة البدء هي الإصلاح السياسي بمفهومه الأشمل والأوسع، الذى ينطلق من إيمان حقيقي بمجال عام مفتوح وإطلاق الحريات العامة والحق في التعبير عن الرأي واحترام الاختلافات مهما بلغت حدتها، وسيادة القانون لكن قبلها عدالته وموضوعيته، وهو كله ما قد يحتاج تعديلات تشريعية ضرورية وعاجلة في كل القوانين المقيدة للحريات، وفى قوانين الأحزاب السياسية ومباشرة الحقوق السياسية وقوانين الانتخابات، لكن ومع ذلك كله وبما لا يقل أهمية عنه الممارسات والإجراءات التي تضمن أن ذلك كله يأتي ضمن تصور حقيقي للإصلاح السياسي ولفتح المجال العام.
اقرأ أيضا.. باب الخروج.. سياسات الإصلاح الصحي الشامل والمبادرات الرأسية
أي أبواب خروج لمصر نحو المستقبل، ونحو أوضاع أكثر كفاءة اقتصاديا، وأكثر عدالة اجتماعية، وأكثر ديمقراطية سياسيا، تبدأ من الحريات العامة، ولا تستمر وتنضبط دونها، والحريات العامة والديمقراطية لم تعد ترفا ولا رفاهية في هذا العصر وبالذات مع أجيال جديدة، وبالذات مع تطورات مذهلة ومتسارعة في خريطة العالم خلال السنوات الأخيرة، بل حتى صارت ضرورة لضمان تماسك الدول واستقرارها، حتى وإن بدا من حيث الشكل أنها تسبب خلافات وقلاقل سياسية، وهو أمر طبيعي وصحى ودليل على حيوية المجتمع بدلا من التكلس والجمود الذى يتصوره البعض استقرارا.
وأي أبواب خروج نحو الحريات العامة، لن يحميها سوى وجود حياة سياسية حقيقية وفاعلة ومؤثرة وجادة، وهو ما يحتاج لأحزاب سياسية معبرة عن قطاعات مجتمعية وأصحاب مصلحة ورؤى فكرية وسياسية وبرامج متعددة ومتنوعة، وقد عانت تجربة الأحزاب السياسية الحديثة الأمرين منذ إطلاقها في مصر في عهد السادات بدءا من تجربة المنابر التي تحولت لثلاثة أحزاب ثم توسعت ببطء شديد وفى ظل قيود بالغة في عهدي السادات ومبارك، فكانت فكرة الأحزاب المؤسسة بيد السلطة ومن الأعلى لا من بناء قواعدها الجماهيرية والاجتماعية، وكانت فكرة القيود السياسية والقانونية التي تخنق الأحزاب في مقراتها وصحفها فحسب، وجاءت المفارقة الدالة أن الحيوية السياسية التي حدثت في منتصف العقد الأول من القرن الحالي كانت خارج أطر الأحزاب بدءا من تجربة حركة كفاية وأخواتها، وبعض محاولات تأسيس الأحزاب الجديدة المعبرة عن مزاج مختلف في إطار تياراتها الأساسية رغم أن بعضها لم يكن قد حصل على شرعية تأسيسها القانوني، ووصولا لتجربة الجمعية الوطنية للتغيير التي كانت أحد الخطوات المهمة في دفع أجيال جديدة للانخراط في العمل السياسي ثم في التمهيد للتغيير الذى جرى في يناير 2011.
ثم شهدت التجربة الحزبية طفرة واسعة عقب ثورة يناير مع مناخ الحريات الذى انفتح وقتها لكنها تزامنت مع حالة واسعة من السيولة ومن الانخراط في معارك وأولويات متغيرة في المرحلة الانتقالية، ومع فيض من الإقبال على العمل السياسي من قطاعات مختلفة ومتنوعة لم تكن مؤهلة أو مهيأة مع الحالة الثورية وقتها للانضباط في أطر تنظيمية وعلى قواعد جماعية، وتواصل ذلك مع سنة حكم جماعة الإخوان الذى اختلط فيه الحابل بالنابل وكانت القوى السياسية شديدة الحيوية في الشارع وفى مواقفها السياسية لكن دون اكتمال تجارب نموها وبناء قواعدها التنظيمية، ودون تركيز على بناء كادرها الرئيسي، وبالتالي عندما اشتدت القبضة وبدأت إجراءات فرض القيود السياسية والقانونية والأمنية وخلق مناخ طارد للسياسة وفى ظل مجتمع منهك ومرهق مما جرى في السنوات السابقة، وبالتالي نجح حصار الأحزاب وتحجيمها وتهميشها في ظل محاولات مقاومة لهذا السياق ظلت محدودة وضعيفة التأثير السياسي والمجتمعي.
عندما يجرى الحديث عن تجربة الأحزاب السياسية لا بد بوضوح أن تتحمل السلطة مسئوليتها الرئيسية فيما بدأت منه ووصلت له تجربة الأحزاب، دون أي شك أو التباس في ذلك، بدءا من مسار خلق وتأسيس الأحزاب لتكون على مقاس السلطة وهواها وتصوراتها، ومرورا بتقييد حدود دور وفاعلية تلك الأحزاب من خلال القوانين المنظمة وشكل الحياة السياسية ومساحات العمل الجماهيري والشعبي والأهلي، وكذلك حريات التعبير عن الرأي والصحافة والإعلام .. لكن ذلك كله وهو صحيح، لا ينكر أبدا مسئولية تلك الأحزاب مجتمعة عما وصل إليه حالها، فالغالبية العظمى من الأحزاب التي تأسست في مصر طوال تلك العقود من التجربة الحزبية الحديثة كانت من باب الوجاهة أكثر من كونها تعبيرا عن مصالح ورؤى قطاعات جماهيرية ومجتمعية وبرامج سياسية وفكرية، فضلا عما تم صناعته منها على يد سلطة وأجهزة لأسباب متفاوتة ومختلفة حسب طبيعة كل مرحلة، ثم إن كثيرا من تلك الأحزاب كانت قيادته تحتكر القرار والسيطرة ويستمر ذلك لسنوات طويلة بما خلق في كل حزب تقريبا جماعة محدودة مسيطرة وبما مثل عاملا طاردا لراغبين في الانخراط والمشاركة، أو انخراط الأحزاب في خلافاتها الداخلية وصراعاتها على حساب آفاق توسعها جماهيريا ولعب أدوارها الحقيقية التي أسست من أجلها، فضلا عن أن جمود الحياة السياسية الذي استمر طويلا منذ عهد السادات وحتى السنوات الأخيرة في عهد مبارك أدى لانقطاع تسلسل وتواصل الأجيال داخل تلك الأحزاب في ظل عدم الإقبال على فكرة العمل السياسي المنظم لرؤية كثيرين بأنه غير ذي أثر وفاعلية في ظل ذلك المناخ والوضع وقتها، وهو ما تكرر مرة أخرى منذ ما بعد 2014، فصارت هناك عزلة بين الأحزاب والأجيال الجديدة، شهدت انكسارا فقط في ظل حالة السيولة والإقبال على العمل السياسي عقب ثورة يناير 2011 فشهدت تجربة الأحزاب وبالذات الجديدة منها تدفقا كبيرا لدماء جديدة خلقت حيوية لتلك الأحزاب في السنوات الثلاث من 2011 إلى 2014، قبل أن يعود كل إلى وضعه الذى كان من قبل وربما أسوأ، فعادت السلطة للتضييق والتقييد والحصار، وعادت الأحزاب لخلافاتها الداخلية وسيطرة جماعات محدودة على مقاديرها وقراراتها وفضلا عن ذلك ضعف مواردها وإمكانياتها المادية والبشرية، والجانب المادي هنا أحد الأسباب الرئيسية في ضعف تجربة الأحزاب عموما في مصر، فدائما ما كانت فكرة غياب المورد المالي سوى من بعض التبرعات والاشتراكات المحدودة، أو في وقت سابق دعم الدولة المالي الرسمي للأحزاب، أحد الأسباب الرئيسية التي لا تمكن الأحزاب من لعب أدوارها ومهامها، باستثناءات محدودة كان أغلبها إما مدعوما بشكل مباشر من السلطة، أو مرعيا من رجال مال وأعمال يستثمرون في بناء أحزاب سياسية تعبر بدرجة أو أخرى عن مصالحهم وتوسع نفوذهم.
الآن في مصر ما يزيد على مائة حزب، لكن الحقيقة الواضحة للجميع أن أغلبها ليس سوى حزب ورقى، وبعضها الذي يمتلك عضوية وإمكانيات ومنابر سياسية وبرلمانية وإعلامية مصنوع بأيدي السلطة ومن أجلها ووفقا لتصوراتها عن العمل السياسي والحزبي، والقليل منها الذي يمكن اعتباره أحزابا معارضة عانى التضييق والحصار والملاحقة طوال السنوات الماضية مما أثر دون أدنى شك على بنيته التنظيمية وعضويته فضلا عن تأثيره السياسي والمجتمعي.. وبين الحين والآخر تطرح فكرة الاندماجات، التي تبدو فكرة صحيحة نظريا في توقيت خاطئ تماما، فالاندماجات الحزبية يفترض أن تنجم عن إرادة تلك الأحزاب لا عن توجيهات عليا، وهى كذلك تحتاج لمناخ سياسي صحي وحيوي ومساحات حركة مجتمعية وشعبية لتحدد أولا من هي الأحزاب الرئيسية والأساسية والكبيرة، وهو ما لا يمكن أبدا الادعاء بوجوده في السنوات الماضية، ولا القياس مثلا على نتائج الانتخابات البرلمانية بكل ما جرى فيها وقبلها وأثناءها في 2015 و2020 كمعيار للتقييم والحكم، لكن مع هذا وذاك، فإن هناك نقطتين بالغتي الأهمية، أولهما أن كثير من الأحزاب الموجودة لا يمكنها أن تنخرط في عملية اندماج لأسباب تخص خلافات قياداتها وأعضائها التنظيمية والتاريخية وأحيانا الفكرية مع ما يشبهها من أحزاب، وهو سبب قائم وحقيقي لا يفيد إنكاره، لكن النقطة الثانية وهى الأهم أن غالبية الأحزاب ذات البعد الأيديولوجي والفكري لا يمكنها أن تتجاوز أفكارها وسياقاتها لتندمج مع أحزاب أخرى حتى لو كانت من نفس التيار السياسي والفكري لأن حجم الخلافات الفكرية والنظرية كبير وواسع.
ما العمل إذا؟ أي إجابة على معضلة الحياة الحزبية وفاعليتها في مصر، لا بد أن تبدأ من أن ترفع السلطة وأجهزتها أيديها عن العمل السياسي والحزبي، وتترك له مساحات وآفاق العمل والحركة بحرية دون تقييد أو تهميش أو تضييق أو حصار أو ملاحقة، وأن يتم تعديل قوانين الأحزاب ومباشرة الحقوق السياسية بشكل جاد، وبما في ذلك معالجة مشكلات الإمكانيات المالية للأحزاب التي لا بد أن يسمح لها القانون بإيجاد سبل لتوفير ما يجعلها قادرة على فتح مقراتها وممارسة أنشطتها وإصدار صحفها ومواقعها الإلكترونية وتنظيم حملاتها السياسية والانتخابية، فالمال صار جزءا مهما من العمل السياسي والحزبي وتجاهل ذلك والتغاضي عنه لم يعد ممكنا، وبالإضافة لذلك تعديل النظام الانتخابي إلى نظام القائمة النسبية وبضوابط وقواعد لا تفرغ النظام النسبي من مضمونه الأساسي الذى يضمن تمثيلا لمختلف الأحزاب والتوجهات برلمانيا. إذا جرى ذلك، وإذا توافرت الحدود الأساسية من قوانين وممارسات خلق حياة سياسية حقيقية، يمكن حينها الحديث عن مرحلة انتقالية محددة المدة من 5-10 سنوات مثلا، ويفتح الباب أمام تأسيس وخلق تجارب حزبية جديدة، ويفتح المجال العام أمام الجميع، لطرح أفكاره ورؤاه والتنافس في إقناع المجتمع بتصوراته وبرامجه وقياداته وكوادره، وتصبح نسبة التمثيل البرلماني بعد المشاركة في دورتين انتخابيتين متتاليتين مثلا شرط أن تكون انتخابات حقيقية وحرة ونزيهة معيارا لأى أحزاب تستمر أو يتم إلزامها قانونا بالاندماج مع الحزب الأقرب لها وفقا لما تقرره مستوياتها التنظيمية.
قناعتي التي تكاد ترتقى إلى اليقين، أننا إذا فتحنا الباب حقا أمام مناخ حر وحياة سياسية حقيقية ومجال عام مفتوح، فإن مبادرات تأسيس أحزاب جديدة وانخراط أجيال وسيطة وشابة فيها، وإمكانيات نموها وتوسع آفاقها بأدوات جديدة وأفكار جديدة وبرامج جديدة تتجاوز ما هو أيديولوجي لما هو أوسع أفقا وأكثر ملائمة للعصر وأكثر تعبيرا عن قطاعات مجتمعية، فضلا عمن يمكنه التطور والتوسع والاستمرار من الأحزاب القائمة وظني أنه سيكون معدودا ومحدودا، سيخلق بالفعل أقطابا حزبية واضحة ومحددة ومتماسكة، ليست بالضرورة تعبيرا فقط عن المدراس الأيديولوجية التقليدية والمدراس الفكرية الرئيسية، وإنما ومع ذلك التعبير عن حيوية مجتمعية ورؤى وأفكار حقيقية.. لكن نقطة البدء وباب الخروج كان وسيظل توافر الإرادة السياسية التي تتجسد في تعديلات تشريعية وإجراءات وممارسات حقيقية لأن نخرج من الوضع الراهن دون هدم القائم وإنما بإتاحة الفرصة وتوفير المناخ له ولغيره بالبناء.