في مقاله الأخير، طرح الكاتب الصحفي الأستاذ أنور الهواري سؤالا افتراضيا عن «المستقبل السياسي للإخوان»، لافتا إلى أن تلك الجماعة التي وصلت إلى ذروة ما سعت إليه وما كافحت من أجله منذ نشأتها عام 1928، ولم تلبث عند تلك الذروة سوى 12 شهرا، وبعدها دخلت في مواجهة ممتدة مع الدولة، «كانت ولاتزال جزءا مهما من الواقع».
الهواري اعتبر في مقاله المنشور على موقع «مصر 360» قبل أيام، أن السنوات العشر الأخيرة، هي سنوات الإخوان، وقدم إجابة مشروطة للسؤال الذي طرحه كعنوان لمقاله «هل للإخوان مستقبل سياسي؟»، وقال: «نعم لهم مستقبل سياسي بشروط، وليس لهم مستقبل سياسي إذا لم تتوفر تلك الشروط».
تتبع الهواري في مقاله محطات صعود وهبوط الجماعة منذ تأسيسها قبل 9 عقود وحتى تاريخه، والتي أطلق عليها «دورات الإجهاض المتكرر»، محاولا رصد حدود وشكل العلاقة بين الإخوان وأنظمة الحكم المتعاقبة، والتي تبدأ عادة بالود المصطنع ثم تتطور إلى تحالف المصالح الهش ثم الخلاف على المكاسب وصولا إلى محطة الصدام العنيف، وهي المحطة التي تنتكس فيها الجماعة، ويعود قادتها وكوادرها إلى السجون والمنافي، ثم تبدأ الدورة من جديد «عودة ثم انتشار ثم ازدهار ثم سيطرة ثم انكسار ثم انحدار».
عودة الجماعة إلى الحياة واستئنافها لنشاطها، يعود إلى عدة أسباب بعضها متعلق بسياسات وتوجهات سلطة الحكم القائمة، والآخر متعلق بالتفاهامات الدولية والإقليمية، وفقا لما جاء في سياق مقال الهواري.
إشكالية مقال الهواري في سؤال العنوان «هل للإخوان مستقبل سياسي؟» وليس في الإجابة، فالسؤال افترض ضمنيا أن التنظيم الذي تشظى خلال السنوات العشر الأخيرة سيعاود الالتئام، وأن الجماعة التي تراجع منسوب رصيدها الشعبي إلى أقل مستوياته، وفقدت حواضنها المجتمعية وروافدها الاقتصادية وأدواتها التنظيمية، قابلة للعودة والانتشار والتمدد وممارسة أدوراها الدعوية والاجتماعية وفي مرحلة لاحقة السياسية.
بنى الهواري مقاله على فرضية أن الجماعة قادرة على لملمة شتاتها وترميم أساساتها ورفع بنائها، وهو أمر يحتاج إلى معجزة إلهية، فعودة الإخوان بنفس الصيغة التي كانت عليها قبل ثورة يناير 2011، وممارستها لذات الأدوار في ظل الصراعات غير المسبوقة التي دبت داخل الجماعة، والتطورات الكبيرة التي طرأت على مصر ودول المنطقة، ليس مرهونا بتوجهات سلطة حكم أو بتوزانات إقليمة ودولية، بل يستلزم آلة للسفر عبر الزمن يعود بها قادة الجماعة إلى الخلف لتصحيح أخطائها وتطوير مناهجها وتمدين خطابها وتحديث آلياتها، أي أن تتحول الإخوان إلى جماعة أخرى، وهو أمر كما أسلفنا مستحيل.
قد تعود «الإخوان» أو جماعات أخرى تشبهها في التكوين الفكري العقيدي لكن بأشكال تنظيمية مغايرة ومنطلقات ومماسارت مختلفة، بمعنى أننا سنكون بصدد تنظيمات أو مجموعات جديدة قادرة على الحياة والتمدد والبقاء تحت الأرض لفترات طويلة، قد تتفق مع الإخوان في الأهداف لكنها حتما ستختلف معها في التكتيكات والخطاب والأدوات، وتلك العودة أو بالأحرى التأسيس الجديد متوقف على شروط ذكر بعضها الأستاذ أنور في مقاله.
ونحن نحاول الإجابة عن سؤال «مستقبل الإخوان» أو «عودة الجماعة» التي عهدناها وخبرناها، يجب ألا يغيب عنا ما أصاب البناء التنظيمي للإخوان من ضعف ووهن جراء الضربات الأمنية المتلاحقة، وأن نضع نصب أعيننا التصدع الذي ضرب رأسها فشقها إلى نصفين إثر صراعات القيادة على المال والسلطة والنفوذ، ونتحسب أيضا إلى أن خروج تلك الصراعات بأسبابها ومفرداتها إلى العلن ضرب أساس ركيزة «الثقة المطلقة» في القيادة وهي إحدى الثوابت التي حافظت على استمرار وتماسك التنظيم لعقود طويلة، فشباب الجماعة فيما سبق لم يكونوا على استعداد لقبول أي نقد لقادتهم، فهؤلاء القادة منزهون ربانيون لا يأتيهم الباطل من بين أيديهم ولا من خلفهم، فماذا بعد أن انكشف المستور وصار الأمر متعلق بسرقات واختلاسات وفضائح وعلاقات استخبارتية؟!
ونحن نحاول الإجابة على سؤال «مستقبل الإخوان» علينا أن نتوقف أيضا عند تطور طريقة وآليات وأدوات تفكير الأجيال الجديدة في المنطقة، تلك الأجيال التي تصدت لإسقاط 3 نُسخ للجماعة خلال 9 سنوات، آخرها النسخة المغربية التي سقطت قبل شهور عبر صناديق الاقتراع، فتراجع حزب «العدالة والتنمية» من مجالس الحكم إلى آخر صفوف المعارضة، وقبلها بعامين سقوط النسخة الهجين (العسكرية الإخوانية) في السودان بثورة قادها شباب هذا البلد، ومن قبلهما سقطت الجماعة الأم في مصر بخروج الملايين ضدها في الشوراع مدفوعين بالخوف من المستقبل المجهول في ظل حكم الجماعة، انتهى حكم الإخوان في 2013 بعد فشلها في احتواء شركائها وحلفائها وإخفاقها في إدارة صراعها مع خصومها، فيما لاتزال النسخة التونسية تصارع بتكتيكات انتهت صلاحيتها من أجل البقاء في ظل ظرف سياسي مضطرب.
ربما يُمكن لسلطة قائمة أن تفرض على الأجيال الجديدة بالقوة وعبر إشاعة الخوف سطوتها وتُحكم قبضتها لفترة قد تطول أو تقصر، لكن من الصعب أن تنجح الجماعة التي كشفت ثورة 25 يناير وما تبعها من أحداث سوءاتها في إقناع هذه الأجيال مجددا بمنهجها ورسالتها، فالجيل الذي عاصر أحداث الثورة والجيل التالي عليه والذي يستطيع بنقرة زر أن يصل إلى ما جرى ويقرأ ويشاهد ويحلل ويضع السياقات، لا يمكن أن ينطلي عليه مرة أخرى خطاب الجماعة المتحجر ولا أدواتها البالية.
إذن، كيف للجماعة أن تُجدد دماءها وتُعيد بناء هيكلها، بعدما هجرها الآلاف من أبنائها يأسا وإحباطا من الواقع وإيثارا للسلامة أو نفورا وكفرا بقيادة تاجرت بهم ولاتزال؟، كيف للجماعة أن تستقطب وتجند أعضاء جُددا، بعد أن كشفت الأجيال الجديدة التي كانت دائما هدفا لدعوة الإخوان حقيقة تلك الدعوة وأصحابها؟، هذه الأجيال في واقع الأمر صارت تنظر إلى ما هو أبعد من الجماعة ومن كل التيارات الأيديولوجية والفكرية التي نشأت في القرن العشرين.
في دورات إعادة بناء الجماعة المتكررة، كانت المظلومية وتلفيق الأحداث وصناعة الأساطير التاريخية، هي أدواتها في مرحلة الاستضعاف والاستكانة لاسترجاع التنظيم، في هذه المرحلة يحاول بقايا الإخوان باعتبارهم «طليعة البعث الإسلامي» إقناع الأفراد من «دوائر الربط» بنضال جماعتهم وكفاحها في سبيل إعلاء كلمة الله ورفعة الأوطان.
في هذه المرحلة «الاستضعاف» تستخدم الجماعة خطابا مُعلنا يختلف عن مقاصدها الحقيقية، فيتعامل أعضاؤها مع الآخر بمودة مصطنعة، ويعلنون أنهم متمسكون بـ«القواسم المشتركة» مع المختلفين معهم، رغم تعارض تلك القواسم مع ما يعتقدون به، لكنها التقية التي تفرضها ظروف مرحلة «التكوين».
ثم في مرحلة الانتشار، تنتهج الجماعة استراتيجية التسلل والتسرب إلى قلب التجمعات الفاعلة التي من الممكن أن تتأثر بخطابها بدءا من الزوايا والمساجد في القرى والأحياء الشعبية، وصولا إلى النوادي والنقابات، مرورا بالمدارس والجامعات، مرتكزة على دورها الدعوي والاجتماعي والخيري. في هذه المرحلة تتجنب الجماعة الصدام مع السلطة الحاكمة إلا في حدود القضايا الصغرى المحدودة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والخدمية، ولا مانع من السعي إلى تفاهمات وصفقات تضمن لهم البقاء في المعادلة، حتى ولو التصقت بهم صفة «المحظورة» وهو ما ضمن لهم التمثيل في مجالس النقابات والبرلمانات المتعاقبة والحضور على بعض منصات الإعلام وممارسات أنشطة اقتصادية متعددة، وهي المرحلة التي تمكنت خلالها الجماعة من الوصول إلى بعض مفاصل الدولة في عهد حكم الرئيس الراحل حسني مبارك.
وبعد أن تطمئن الإخوان من أنها شكلت قاعدة واسعة طيعة، تبدأ الجماعة واستنادا إلى فقه «التترس» وقاعدة «الضرورات تبيح المحظورات» في التحالف مع مكونات أخرى من المعارضة السياسية التي تصفها في اجتماعتها المغلقة بـ«التيارات الجاهلية» بهدف زعزعة أُسس نظام الحكم القائم: تُبرز إخفاقاته الاقتصادية والاجتماعية وتنتقد قمعه واستبداده، وتطالب بـ«الإصلاح والديمقراطية والحرية والتعددية»، وتفتح باب الاتصالات بالقوى الإقليمية والدولية الفاعلة.
في المرحلة الأخيرة «التمكين»، والتي تُمَكن فيها الجماعة من اعتلاء السلطة، يبدأ الجزء الغاطس في الظهور، فتتبدل مفردات «المشاركة والتعددية وتداول السلطة والديمقراطية.. إلخ» التي ساعدتهم في الوصول إلى أعلى هرم السلطة إلى مفردات «الحاكمية والشريعة ودولة الخلافة»، وبقدرة قادر تتحول الانتخابات والمجالس النيابية والدساتير والثورات إلى وسائل في طريق التمكين لدولة الإسلام، «وقد أجاز الفقهاء الترخص في الوسائل من أجل تحقيق مقاصد الإسلام»، بحسب تعبير مفتي الجماعة عبد الرحمن البر.
وكما كشفت ثورة يناير مستور الجماعة، وأظهرت وجهها الآخر، فجر صدامها بعد ثورة 30 يونيو مع نظام الحكم الحالي طاقات عنفها الكامن المؤجل، ما جرى بين يناير ويونيو وما لحقهما من أحداث أزاح الستار عن آفات الإخوان الغاطسة من «كبر، وغرور، وغفلة، ونسيان، وضيق أفق، وانتهازية، وعدم مراجعة، وغياب المساءلة أو المحاسبة» بحسب مفردات وصف بها نائب مرشد الإخوان السابق محمد حبيب الجماعة التي قضى فيها جل عمره.
حبيب قال في مذكراته التي نشرتها جريدة «الشروق» عام 2015، إن «هذه الآفات عادة لا تظهر في فترات الاستضعاف التى تمر بها الجماعة، حيث تُظهر قدرا كبيرا من السماحة واللين والرغبة فى التعاون مع الآخرين، والعكس حين تمتلك القوة والسلطة.. ولله فى خلقه شئون».
يضاف إلى الآفات التي ذكرها حبيب، آفات أخرى طفت مؤخرا على السطح إثر ما جرى من صراع داخلي على قيادة الجماعة والذي وصل إلى حد الانشطار الذي ضرب رأس الإخوان فقسمها إلى قسمين: الأول بقيادة مصطفى طلبة القائم بأعمال المرشد العام والذي تم اختياره من مجموعة محمود حسين في تركيا، والثاني بقيادة إبراهيم منير القائم أيضا بأعمال المرشد والمقيم في لندن.
الصراع الأخير بين قسمي الجماعة «الربانية الرسالية» قفز إلى مساحة الاتهامات المتبادلة بالسرقة والنصب والاستيلاء على أموال الأعضاء والعمالة لأجهزة مخابرات دولية، وكأننا أمام مشاهد مقتطعة من «روايات المافيا الإيطالية»، بتعبير الكاتب الصحفي عبد الله السناوي واصفا به أزمة الجماعة الأخيرة.
القيادي الإخواني السابق محي عيسى، يرى أن «البيت الإخواني صار آيلا للسقوط ولم يعد يصلح فيه الترميم، ومع ذلك لايزال بعض أعضاء التنظيم يتمسكون بالبقاء فيه لآخر نفس غير مبالين بأنه سيسقط قريبا فوق رؤسهم».
ويرى عيسى بحسب تدوينة نشرها عبر حسابه على «فيسبوك» أن مشكلة الجماعة لا تكمن فقط فى الانقسام الأخير الذى ضربها بعنف، بل لأنه ولأول مرة أصبح الانقسام رأسيا، وللمرة الأولى أصبح للجماعة قيادتين ورأسين يضرب كلاهما التكلس والجمود، مضيفا: «فى السابق وتحت مسمى الفتنة التى يحلو للجماعة إطلاقها على كل من خرج منها سواء فصلا أو استقالة كان الخارجون يكتفون بالخروج فى صمت دون الادعاء أنهم يمثلون الجماعة، أما هذه المرة فالانقسام فى الرأس نفسه حيث انفلق إلى فصين».
عيسى وهو من الجيل الذي أعاد تأسيس الجماعة منتصف سبعينيات القرن الماضي إبان حكم الرئيس الراحل أنور السادات الذي ينسب له الفضل في إعادة الإخوان إلى الحياة بعد أن طوت مصر صفحتهم، يشير إلى أن الأزمة الحالية كاشفة لأزمة أكبر فى الفكرة والمنهج والأهداف والوسائل، «منذ تأسيس البنا رحمه الله للجماعة ووضع فكرته بعودة الخلافة وأستاذية العالم ووسائله لتنفيذ ذلك، بقيت الجماعة فى مكانها وتصوراتها دون تجديد أو تطوير، اذ جعلت من الأهداف والشعار والوسائل والمنهج ثوابت لا تُمس ولا يمكن الاقتراب منها، مثلما جعل مبدأ الثقة فى القيادة والتى بلغت حت التقديس من قيادات الجماعة العليا أصناما لا يمكن الاقتراب منها أو محاسبتها أو حتى مجرد السؤال عن ممتلكاتها».
ويشدد عيسى وهو لا يُعد بالطبع من خصوم الجماعة ولا من المتربصين بها على أن «نهاية الإخوان ستكون على أيدي أبنائها بعد أن فشل خصومها فى القضاء عليها، وهذا أسوا أنواع العقاب».
لم يعد ماضي الجماعة وحاضرها جاذبا لشباب الدول التي تمددت بها خلال القرن الماضي، وسرديات المظلومية والاستضعاف لن تنطلي مستقبلا على أحد، فالأفعال والأقوال وشهادة الشهود العدول من خارج التنظيم ومن داخله متاحة ومنشورة وموثقة، والصورة الذهنية للجماعة الربانية التي حاول الإخوان ترسيخها في أذهان العامة سقطت بعد أن لُطخت مرة بالدم ومرات بالكذب، وأخيرا باتهامات السرقة والنصب والاحتيال، فمن ذا الذي يُقبل على الدخول بقدميه إلى بيت أوشك على السقوط أو وكر يتصارع أصحابه على الغنائم وتحاصره السلطات وتوقف كل من يقترب منه.
وفقا لرؤية كاتب هذه السطور، فإن عودة الإخوان كما كانوا وممارستهم نفس الأدوار التي مارسوها قبل يناير 2011، هو تصور يخالف منطق الأمور ويتعارض مع حقائق الواقع، إلا إذا كان هناك من يملك نفخ الروح في الجسد المسجى.
إلا أن ذلك لا يمنع من توقع انتشار تنظيمات أصولية تحتية كنتيجة غير مباشرة لسياسة الإغلاق التي يتبعها النظام الحالي، فكلما وُصدت أبواب العمل العام العلني وحُوصرت السياسة ووُأدت أفكار التداول السلمي للسلطة، وصُودر حق الناس في اختيار من يحكمهم ومن يراقب أعمال الحكومات المنتخبة، كلما فُتح الباب لانتشار التنظيمات والجماعات التي تعمل تحت جنح الظلام.
نتفق مع ما جاء بمقال الهواري في أن الفراغ السياسي المهول الذي خلقته سلطة ما بعد 30 يونيو من شأنه تيسير عودة جماعات الظلام الأصولي، ونختلف معه في أن جماعة الإخوان التي حاولنا شرح وضعها وتوصيف حالها أعلاه قادرة على العودة.
العائدون هم بدائلها وشظاياها.. وهؤلاء هم الخطر الذي سيداهمنا من حيث لا نحتسب.