في سياقٍ مُتصلٍ مع ما تفضل الأساتذة فاطمة إمام، ومحمد صلاح بطرحه في مقالين نُشِرا لهما في “مصر360” مؤخرًا، بشأن أهمية إنشاء “مفوضية حظر التمييز” كاستحقاق دستوري، أرجو أن يتسع صدرهما -وليأذن لي القارئ الكريم- بالمساهمة بقدر محدود في هذا الموضع الهام، من خلال استعراض ثلاث مستوياتٍ لكل منها خصوصيته التي تفرضها طبيعته الخاصة المتأثرة على نحو كبير بالمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المحلية والإقليمية والدولية المتطورة بسرعة فائقة، والتي تستحث المشرع المصري على ديناميكية الحركة وحيويتها للإنجاز. ومن ثَمَ الارتقاء خطوة للأمام في مسار الانتقال للمستقبل الذي يسعى إليه الوطنيون جميعًا، بعدما ترسخت دعائم الدولة المصرية الأساسية.

المستوى الأول: وهو مستوى عام يتمثل في الاستحقاق الدستوري المُلزِم الذي أشار الأستاذان الفاضلان إليه. حيث نص دستور 2014 في مادته الثالثة والخمسين على: “أن المواطنين لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين، أو العقيدة، أو الجنس، أو الأصل، أو اللون، أو اللغة، أو الإعاقة، أو المستوى الاجتماعي، أو الانتماء السياسي أو الجغرافي، أو لأي سبب آخر، وأن تلتزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على كافة أشكال التمييز، وينظم القانون إنشاء مفوضية مستقلة لهذا الغرض”. إذن، فهناك نص دستوري لا مناص من التعامل الإيجابي معه في مجال حظر التمييز.

المستوى الثاني: وهو مستوى أكثر تفصيلًا يتمثل في المحتوى الفكري الهام لوثيقة “الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان”، التي تم إطلاقها في سبتمبر من العام الماضي، وتكرر مُصطلح “التمييز” بمواضع متعددة منها، بلغت نحو ستٍ وعشرين موضِعًا.

بدأت الوثيقة بصياغة الرؤية التي وُضِعَت في ضوءها، ونصت على: “أُسست هذه الاستراتيجية على رؤية تهدف إلى النهوض بكافة حقوق الإنسان في مصر، من خلال تعزيز احترام وحماية كافة الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية المتضمنة في الدستور والتشريعات الوطنية والاتفاقات الدولية والاقليمية المنضمة إليها مصر، تحقيقًا للمساواة وتكافؤ الفرص دون أي تمييز. وتعد الاستراتيجية خارطة طريق وطنية طموحة في مجال حقوق الإنسان وأداة هامة للتطوير الذاتي في هذا المجال”.

وقد ورد بوثيقة “الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان” ثلاثة مسارات لإحراز النتائج المستهدفة تمثلت في مسار “التطوير التشريعي”، ومسار “التطوير المؤسسي”، ومسار “التثقيف وبناء القدرات”، وكلها مسارات تصب في إطار تحديث مؤسسات المجتمع وتطويرها بما يؤدي بشكل تلقائي تشاركي إلى تغيير حقيقي علي الأرض من واقع فكرٍ مُغاير تكون فيه المساواة والمواطنة -فعلًا وقولًا- هما أساس نهوض المجتمع من خلال القضاء على أفكار التمييز والكراهية التي تُشكل الحاضنة الثقافية للإرهاب.

ولما كان فَرض قانونٍ يحظر التمييز هو مقياس “للتطوير التشريعي”، ولما كان إنشاء مفوضيةٍ لحظر التمييز هو علامة على “التطوير المؤسسي”، ولما كانت ممارسات المفوضية هي مؤشر على مساهمتها في نحو متراكم “بالتثقيف وبناء القدرات”، إذن فما ورد “بالاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان” يُعَبِدُ الطريق صوب الانتقال للمستوى الثالث من زاوية كونها هَيكَلَة موضوعية لتأسيس سياقٍ واضحٍ حددته مساراتها الثلاث.

المستوى الثالث: ويتمثل في ضرورة بلورة مجموعة من الأفكار يتم تأطيرها في حُزَم مفاهيمية ذات طبيعة مُتسقة ثم وضعها في صياغة قانونية رصينة كمسودةِ قانونٍ يتضمن نصوصًا بأحكَامٍ تُحَدِد أهدافه التفصيلية، ونطاق سريانه، وتعريف التمييز وأنواعه ومجالاته، والعقوبات المتعلقة بالتمييز بالإشارة إلى أحكام المادة 166 مكرر من قانون العقوبات المصري. ثم تأتي من بعد ذلك نصوص تتضمن أحكَامًا تتعلق بمفوضية “حظر التمييز بين المواطنين” وتشمل إنشاء المفوضية، وهدفها، وتشكيلها، واستقلاليتها، والمهام التي تمارسها، وإجراءات عملها، والجهاز الإداري المعاون، ليبدأ العمل فورًا -بمجرد إقرار مجلس النواب لمشروع القانون ثم اعتماد السيد رئيس الجمهورية له- في إعداد الترتيبات التنظيمية والإدارية والمحاسبية التي تشمل موارد المفوضية ونماذج الموازنات والتقارير المالية والفنية والتوصيف الوظيفي والمكافآت والإجراءات والأدلة وسُبل تسوية النزاعات. ومن ثَمَ صدور ما يلزم من قرارات لتعيين المفوض العام ونوابه وأعضاء المكاتب الفنية المختلفة والأمانة العامة.

إن المفوضية على هذا النحو ليست ترفًا تشريعيًا ولا هي كيان منبت الصلة بقضايا المجتمع. فوجودها يؤكد إحراز تقدم واضح وملموس وقابل للقياس بالمعايير الدولية في ملف “المواطنة والمساواة”. كما أنها توفر آلية عمل علمية وفعالة وقابلة للقياس ومتعارف عليها لمكافحة التمييز والعنصرية وخطاب كراهية الآخر، بما سيرسخ ثقافة المواطنة والمساواة في المجتمع وسيوفر القناعة الكاملة بأن أفراده متساوون أمام القانون بغض النظر عن اللون والجنس والعرق والمُعتَقد، وأن من سيحاول ممارسة أي نوع من التمييز سيخضع للمراقبة و المحاسبة وفق القانون. بالإضافة إلي أنها تسهم في حل النزاعات المتعلقة بالتمييز في وقت أسرع وبتكلفة أقل من خلال التعاون والتفاهم.

أعلم أن بعضًا من القوى السياسية والاجتماعية قد اجتهدت فجهزت نُسَخًا متعددة من مسودات مشروعات قوانين لحظر التمييز وإن كانت -على تعددها- متقاربة في الأهداف والمضامين وربما في الصياغات أيضًا. ولعله يصبح من الأهمية بمكان أن يتم إدراج هذا الموضوع الهام على أجندة الحوار الوطني المزمع إجراءه قريبًا، والذي أعتبره فرصة سانحة لا يجوز إهدارها، وأتمنى أن تشمل مخرجات المؤتمر التوصية بقانون موحد لحظر التمييز وإنشاء المفوضية المستقلة بشأنه؛ للدفع به خطوة للأمام بالطريق الدستوري في ضوء التوجهات العامة للدولة واحتياجات المجتمع.