لا يحتاج الدكتور سعد الدين مسعد أحمد حسن هلالي (1954- ) إلى تعريف؛ فللرجل مسيرة علمية طويلة وراسخة، بدأها طالبًا في الأزهر الشريف ثم معيدًا بكلية الشريعة والقانون فأستاذًا محققًا يشرف منذ أواخر القرن الماضي على رسائل الماجستير والدكتوراه في الفقه المقارن، وهو تخصصه الدقيق.
الهلالي إذن من أهل الدار الأزهرية، ولديه من الشهادات والخبرة العلمية والوظيفية ما يؤهله لأن يكون مرجعًا دينيًا، إنه يتكلم في فنه، ولا حرج على الرجل إذا تكلم في أصول ما يعلمه، وحاجج في أصول ما يُدرسِّه لطلابه على مدار عقود طويلة.
اقرأ أيضًا.. الملابس.. رسائل الدين والسياسة
ورغم هذه المسيرة العلمية المعتبرة فالرجل يتعرض لهجوم واسع إذا تكلم، أو أن هذا ما يحدث غالبًا، ولا يرجع ذلك إلى فضاء التواصل شديد الاتساع والتنوع (والفوضى) فحسب، وإنما يعود بالأساس إلى ما يثيره الشيخ الهلالي من قضايا، أو بتعبير أدق إلى ما يقدمه من آراء كانت حتى وقت قريب من العلم “المضنون به على غير أهله”، (وهذا اسم كتاب ينسب لأبي حامد الغزالي) ورغم أنه مفهوم ينتمي إلى بيئة التصوف إلا أنه بمقدورنا نقله إلى بيئة الفقهاء؛ فالفقيه المعتبر لا يُحدّث عامة الناس بما يحدث به خاصتهم، وبعض الآراء الفقهية لا يجب تداولها على نطاق واسع، فليس كل الناس سواء في الفهم، وفيما تعلمنا البلاغة القديمة، أن الكلام طبقات كما أن الناس أنفسهم طبقات، ولا يستوي حديث هؤلاء بحديث أولئك.
فلكل مقام مقال، ولكل مخاطَب (بفتح الطاء) الخطاب الذي يناسبه، وبـ”حسب امرئ من الكذب أن يحدث الناس بكل ما سمع” فيما يروي الإمام مسلم في مقدمته عن عمر بن الخطاب، وعن أبي هريرة (ض) قال: حفظت من سول الله (ص) وعاءين: فأما أحدهما فبثثته (أي نشرته في الناس)، وأما الآخر، فلو بثثته، لقطع هذا البلعوم (رواه البخاري: 117] وعن مكحول قال: كان أبو هريرة يقول: ربّ كيسٍ عند أبي هريرة لم يفتحه؛ يعني من العلم. قال الذهبي: هذا دالٌّ على جواز كتمان بعض الأحاديث التي تحرك فتنة في الأصول، أو الفروع أو المدح والذم. أما حديث يتعلق بحلّ أو حرام، فلا يحل كتمانه بوجه، فإنه من البينات والهدى”.
وإذا كان هذا الكلام يجري على بعض الأحاديث الشريفة فإنه -من باب أولى – يجري على جانبٍ من أقوال الفقهاء أو على بعض اجتهاداتهم.. وبالتأكيد فأن تقدير هذا النشر من عدمه يعود إلى الفقيه نفسه أو إلى جماعة من الفقهاء؛ فأنت تعلم أن ما عليه جمهور الفقهاء (أي أغلبهم أو أكثرهم) لا يستوي في حجيته ورجحانه مع رأي آحادهم، ويختلف الأمر بطبيعة الحال حسب نوع المسألة.
ولعلّ جوهر المشكلة أن هذا التوجّه (أي العلم المضنون به على غير أهله) قد اهتزّ بناؤه مع شبكة الإنترنت التي أتاحت العلوم والمعارف للجميع ودون استثناء، فقد بات بإمكان أي مسلم اليوم (حتى لو لم يكن مؤهلًا طبقًا لشروط المؤسسة العلمية) أن يطلع على كثير من الأحاديث النبوية أو الآراء الفقهية التي كانت -حتى وقت قريب- تتداول داخل الدائرة العلمية الضيقة، وهذا ما قضت عليه فكرة “الإتاحة” العلمية التي وفرها النشر الرقمي، لقد بات بإمكان الجميع، وبسهولة مفرطة، مطالعة كل ما قيل من آراء في المسألة الواحدة، حتى لو كان بعضها شاذًا غريبًا، حرص الفقهاء قرونًا طويلة على الاحتفاظ به وعدم إشاعته بين الناس.
طبقية معرفية
بالتأكيد، يمكن للمتلقي المعاصر أن ينتقد هذا السلوك التراثي الفقهي، وله أن يعتبره شكلًا من الوصاية الدينية التي منحها الفقهاء لأنفسهم، وهو أمر جدير بالانتقاد، خاصة في عصرنا الذي ينزع فيه الناس إلى رفض الوصاية بكل أشكالها السياسية والدينية والاجتماعية، ولكنه– أي العلم المضنون به– لم يكن كذلك النسبة للفقهاء قديمًا، بمعنى أن فعل الوصاية لم يكن مقصودًا بحد ذاته، وإنما كان جزءًا من تفكير اجتماعي وبلاغي أشمل، ينقسم بمقتضاه المجتمع إلى فئات وطبقات: سادة وعبيد، خاصة وعامة.. وما يدركه السّادة أو الخاصة لا يجب أن يطلع عليه العامة؛ فالسادة والخاصة يرون أفضل، ولديهم من أدوات المعرفة ورجاحة العقل ما يمكنهم من فهم مقاصد النصوص ومعرفة ما يصلح للناس وما قد يفسدهم.
بعبارة أخرى، كان “المضمنون به على غير أهله” جزءًا من بنية التفكير الاجتماعي الطبقي، فكما أن هناك امتيازات للخاصة في الملبس والمأكل والحضور الاجتماعي العام، كانت لهم بالمثل امتيازات عقلية وتعليمية تشعرهم بامتياز خاص عن العامة، فليس كل ما يُعرف يقال، والعلم متاح للجميع، ولكن لا يقترب من تفاصيل مسائله- فضلا عن الحق في إبداء الرأي- إلا من غادر موقع العامة (العقلي والمعرفي) وبات من الخاصة الذين لا يُخشى عليهم الفتنة في دينهم..!
وهذا يعني أن المسافة بين العامة والخاصة حقيقة واقعة، أو واقع اجتماعي معيش وجد تجليه في البنية الفقهية ذاتها. ونحن في النهاية لا يمكننا انتقاد توجّه ما إذا كان استجابة طبيعية لسياقه أو ثمرة من ثمار تفاعله مع الواقع. ولكن الإشكال يأتي من محاولة فرض هذا التفكير – الاجتماعي الفقهي- على مجتمعات أخرى وأزمنة أخرى، يتطلع فيها الفرد إلى حريته، والأمّة إلى حريتها، في السياسة كما في الدين، والدين كما تعلم يوكل أمر الإيمان إلى الفرد نفسه، ويجعل إيمانه أو كفره مرتبطًا بمشيئته الفردية المستقلة، ومن ثم فالحساب يوم القيامة فرديًا، ولا معنى للحساب دون إتاحة الفرصة للفرد كي يختار، ويُحاسب على هذا الاختيار.
وهذا الحق منح الخاصة (أي العلماء) سلطة روحية وفقهية على العامة، كما منحهم مهابة تاريخية جعلتهم يفتون الناس في أمور الدين والسياسة والاقتصاد والطب والفضاء…الخ. فالفقهاء يرون أن كل فعل إنساني – مهما بدا لك الرأي فيه– يقع تحت طائلة حكم ما، فقد يكون: (فرضًا أو مندوبًا أو حرامًا أو مكروهًا أو مباحًا)…!
وبالتأكيد فإن الخاصة وحدهم هم من يملكون القدرة على تسكين هذه الأفعال الإنسانية المتغيرة المتطورة في أي من هذه الخانات.
الهلالي وتقويض الهرمية الطبقية
جاء الهلالي فأثار حفيظة الأزهريين، ليس لأنه جزء من التيار الليبرالي أو التيار التجديدي (أو من يسمون أنفسهم كذلك)، فالهلالي في رأيي ليس من هؤلاء، ولكنه بالأساس شيخ أزهري من حيث التكوين والتفكير والوعي التراثي بتفاصيل المسائل، ولكنه أعاد طريقة العرض فحسب، بمعنى أنه لا يهتم للطبقية الفقهية في الدعوة؛ فإذا سأله مسلم سؤالًا أو إذا بادر هو وناقش مسألة فقهية، تجده يستعرض كل ما قيل من آراء في هذه المسألة، ولا يقتصر في عرضه على مذهب فقهي بعينه، وإنما تجده يفتح القوس واسعًا، ويتنقل بين المذاهب المختلفة، وهذه النقطة تحديدًا تمثل إشكالًا فقهيًا، فأنت تعلم أن لكل مذهب منهجًا خاصًا في استنباط الحكم الشرعي من الدليل.
لا يأبه الشيخ الهلالي بهذا الالتزام الأزهري، ولا بما يوجّه إليه من انتقادات في هذه النقطة، وإنما يستعرض الآراء المختلفة، ويقدمها (لعموم) المسلمين، ينسب كل رأي إلى قائله، وكل قول إلى مذهبة، وذلك ضمن ذاكرة “أزهرية” حافظة، لا ينقصها ضبط السند ولا حفظ المتن (الرأي).
ولا يخفي الهلالي على السائل أمرًا، ولا يرجِّح له رأيًا على آخر، وإنما يتركه ليختار بنفسه من بين الآراء المعروضة، انطلاقًا من كونه– أي عموم المسلمين- إنسانا عاقلا بالغًا مسؤولا، ولأنه كذلك، فهو يدرك مصلحته أكثر من الفقيه نفسه.
لقد أعاد الهلالي بذلك رسم العلاقة بين السائل والفقيه، بما يُقوِّض سلطة الفقيه العارف، ويجعله مجرد عارض للآراء الفقهية، وحتى لو كان له اجتهاد خاص، فهو يدرجه ضمن ما هو موجود من الآراء، والسلطة التي سحبها الهلالي من الفقهاء منحها للناس أو لعموم المسلمين، فبمقدورهم أن يفكروا، ويستفتوا قلوبهم، ويصونوا دينهم ودنياهم، فهم في النهاية بشر مكلفون، وسيقفون أمام الله يوم الحساب بهذه الصفة، لا ينوب أحدٌ عن أحد، ولا ينوب فقيه – مهما علا قدره وارتفع مقامه- عن أحاد المسلمين.
والهلالي يستند في ذلك إلى حُجَّة منطقية وشرعية أو شرعية ومنطقية يصعب تجاهلها، وهي أن الناس سيقفون أمام الله فرادى، وأنهم سوف يسألون عن أعمالهم واختياراتهم، ولا ينبغي للفقيه أن يحرمهم من هذا الحق، فليس له أن يختار نيابة عنهم، وهذه حُجَّة يصعب نقضها سواء من زاوية دينية أو من زاوية إنسانية. ورغم ذلك فالهلالي يلقى معارضة شديدة من الفقهاء وعلى رأسهم الأزهريون؛ إنه بذلك يقوض سلطة الفقيه، ويجعله مجرد مُقدِّم أو (عارض) لآراء المجتهدين، وإذا كان له رأي اجتهد في تقديمه ضمن الآراء الأخرى فحسب؛ فليس في الإسلام -فيما يعلمنا الأستاذ الإمام محمد عبده – “سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة، والدعوة إلى الخير والتنفير من الشّرّ، وهي سلطة خَوَّلها الله لأدنى المسلمين يقرع بها أنف أعلاهم، كما خوّلها لأعلاهم يتناول بها من أدناهم… فليس في الإسلام سلطة دينية بوجه من الوجوه”.
هل الهلالي مجتهد؟
من الصعب أن تعد الهلالي مجتهدًا، فضلًا عن أن تحسبه على تيار التجديد الديني الذي افتتح الأستاذ الإمام جملته الأولى؛ فالرجل لم يقدم منهاجية جديدة يمكن البناء عليها أو النقاش حولها، كما أنه لم يخترق أفق الاستدلال التراثي، وإنما هو يُغيّر طريقة العرض فحسب، قد تجد لديه بعض التمييزات المهمة التي انتشرت بين الناس بفضل الميديا، كإعادة تعريفه لدور الفقيه على نحو ما أشرنا، أو وعيه القوي بالفرق بين النص (بما هو كلام الله سبحانه) والاستدلال الفقهي منه بما هو “جملة فقهية” فيها من الذاتية والتاريخية ما يجعلها موضع أخذ وردّ، وهي لذلك تستحق إعادة النظر فيها إذا اقتضت الحاجة ذلك.
الهلالي بذلك، يلقي حجرًا كبيرًا في الفضاء الاجتماعي والديني، ويخلق فضاءً مهمًا من التحاور حول قضايا شائكة، ولولا حِدّة الاستقطاب السياسي الذي نعيش في أجوائه منذ عقد من الزمان، وانخراط الهلالي نفسه في هذا الاستقطاب، بما يؤثر على الكيفية التي يتلقاه بها الجمهور.. لولا ذلك لكان لهذه الأفكار أثرٌ واضح، في التأكيد على مكانة العقل والحرية الإنسانية، والتسامح والمواطنة… ولكان بمقدور الهلالي نفسه أن يدخل في زمرة المجتهدين الكبار من رجال الأزهر، أمثال: محمد عبده والشيخ شلتوت وعبد المتعال الصعيدي ومحمود حمدي زقزوق.. وغيرهم