لا يختلف أحد في كون عمل المحامين ما هو إلا عمل قانوني مرتبط ارتباطا لا تنفك صلته بعمل المنظومة القضائية، وأنها شريكة للعمل القضائي ذاته، وذلك سعيا لتحقيق العدالة، وذلك من خلال تمكين المواطنين من الدفاع عن مصالحهم من خلال الخصومة القضائية.
وترتيبا على ذلك فقد حرم قانون المحاماة على المحامين أن يشتغلوا بالعمل التجاري، وجعل من ذلك شرطا لصحة انتساب المحامي لعضوية نقابة المحامين وممارسته لمهنة المحاماة، وهو الأمر الذي يبعد بمهنة المحاماة عن التماس أو الاقتراب من الأعمال التجارية، وهذا كله لا يخل من حيث المبدأ عن خضوع المحامين للنظام الضريبي الموجود في النموذج القانوني المصري بما يتناسب ممارسة أعمال المحاماة. لكن أن يتم إخضاع مهنة المحاماة لطرق أو النماذج الضريبية التي يتم تطبيقها على التجار أو الصناع، فهذا لا يمكن أن يكون بشكل من الأشكال إلا تكبيلا للمحامين وهم في سبيلهم لممارسة مهام مهنتهم.
وقد سبق منذ فترة ليست بالبعيدة أن تم الطعن على تطبيق ضريبة القيمة المضافة على المحامين أمام محكمة القضاء الإداري والتي بدورها قد صرحت بإقامة الدعوى الدستورية للنظر في مدى دستورية هذا القانون فيما يخص المحامين وأعمالهم، وقد تم قيد القضية تحت رقم 43 لسنة 43 دستورية والتي ما زالت منظورة أمام المحكمة الدستورية العليا.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد والذي كان يفترض أن يتوقف السعي الضريبي خلف المحامين اكتفاء بما يتم من محاسبتهم من خلال النسق الضريبي العادي، وبما يتم اقتطاعه منهم تحت بند الضريبة وقت رفع الدعاوى القضائية، لكن بصدور قرارات رئيس مصلحة الضرائب، والتي كان آخرها القرار رقم 323 لسنة 2022، بإلزام جميع الممولين المسجلين بمصلحة الضرائب بالتسجيل على منظومة الفاتورة الإلكترونية في موعد غايته الخامس عشر من ديسمبر لسنة 2022، وذلك إعمالا لما جاء بقانون إجراءات الضريبة الموحد في مادته الخامسة والثلاثين والذي ألزم بالخضوع للنظام الإلكتروني، وقد جاء في نص هذه المادة أنها صيغت بما يكفل للمصلحة من خلاله تتبع حركة المبيعات بشكل دائم والوقوف على حجمها وقيمتها وأطراف علاقة التعامل.
إذن فالهدف من القانون ومن قرار رئيس مصلحة الضرائب هو المعاملات التجارية التي تشمل البيع والشراء، فهل يقع عمل مهنة المحاماة ضمن طوائف العمل التجاري؟ وهل يشمل عمل المحامين على بيع أو شراء؟ وهل يتفق ما جاء بنص القانون وقرار رئيس مصلحة الضرائب مع مهنة المحاماة بشكل عام؟
ومن ناحية المنطق القانوني الضريبي فإن صدور هذا القرار يتعارض مع قرار وزير المالية رقم 531 لسنة 2005، والذي جاء في مادته الأولى في تعريفه للمهن غير التجارية وهي: المحاماة والهندسة والطب والصحافة، فكيف يمكننا تقبل هذا التعارض والتناقض القانوني.
ونضع هذه الأسئلة في مواجهة مباشرة مع حكم المحكمة الدستورية رقم 38 لسة 17 قضائية، والذي جاء فيه أنه: المحاماة –طبقا لهذا القانون– مهنة حرة يمارسها المحامون على استقلال– المحامون شركاء للسلطة القضائية يعملون معها من أجل تحقيق العدالة – تقديم المحامين خدماتهم لموكليهم فى إطار من الإبداع والتأسيس بما يكفل فعاليتها. كما بينت المحكمة الدستورية أن الشروط التي يتطلبها المشرع لمزاولة حرفة أو مهنة بذاتها، لا يجوز تقريرها بعيدا عن متطلبات ممارستها. بل يتعين أن ترتبط عقلا بها، وأن يكون فرضها لازما لأداء المهام التي تقوم عليها، كامنا فيها، ملتئما مع طبيعتها، منبئا عن صدق اتصالها بأوضاعها، وإلا كان تقرير هذه الشروط انحرافا عن مضمونها الحق، والتواء بمقاصدها، وإرهاقا لبيئة العمل بذاتها، وما ينبغى أن يهيمن عليها من القيم التى تعلو بقدر العمل، ولا تخل بطبيعة الشروط التى يقتضيها، وبوجه خاص كلما دل تطبيقها على مناهضتها لتكافؤ الفرص، أو تمييزها فى التعامل دون مقتض بين المتزاحمين على العمل، أو إنكارها لحقهم في الأمن –اجتماعيا أو اقتصاديا– أو إضرارا بالظروف الأفضل لضمان حريتهم وكرامتهم، أو عدوانها على الحق في تدريبهم مهنيا.
ومن هنا فإن ما تحاول أو تسعى إليه من فرض هذا النموذج الضريبي على أعمال المحاماة لا يعد سوى زيادة في معوقات العمل القانوني بإجماله، وزيادة وتراكم في المعوقات القضائية التي تواترت الدولة على تعقيدها وزيادتها من خلال الرسوم المتباينة التي تفرضها سواء بشكل عرفي أو بقرارات داخلية، علاوة على ما جاء من زيادة ملموسة بشكل كبير في رسوم التقاضي ذاته.
وإذا تطرقنا إلى تطبيق ذلك النموذج من خلال الواقع سنجد أن معظم المحامون تقع مكاتبهم في أماكن شعبية أو مناطق ريفية، وأن معظم نماذج التقاضي تكون في خلال القضايا المدنية البسيطة أو قضايا الجنح الخفيفة، والتي ينتهي بها الحال بالتصالح، وبالقطع فإن الأتعاب التي يتقاضاها المحامون من خلال أعمالهم تكون ليست بالمبالغ الكبيرة، والتي يضيع معظمها ما بين الرسوم والإكراميات التي يعلمها القاصي والداني.
ومن زاوية ثانية وبعيدة عن تقنية ذلك النموذج الضريبي، وإجراءاته المتتابعة، فإن الرسوم المتتطلبة له، وللتوقيع الإلكتروني بخلاف الضريبة ذاتها، هي أمور قد تزيد من الأعباء التي قد يضيفها المحامون على أتعابهم، وبالتالي فيتحملها المواطني العادي، في ظل ظروف اقتصادية تتطلب أن تحرص الدولة بشكل أكثر حماية وحرصا على مستوى معيشي للمواطنين، والذين بات معظمهم تحت خط الفقر.
إذن لماذا تسعى الدلة لتطبيق هذا النموذج، فإن كان ذلك لخلل في الأداء الوظيفي لمصلحة الضرائب، فإنه يجب أن يتم معالجته من خلال تطوير العمل الضريبي والعاملين بهذا المرفق الحكومي، لكن لابد أن يكون حد ذلك هو التماهي مع متطلبات واحتياجات كل مهنة أو كل حرفة أو بما يتناسب مع إطارها الفعلي، ولكن أيضا لابد وأن يحافظ على حقوق الممولين ويكفل لهم حقهم في ممارسة مهام أعمالهم أو وظائفهم أو مهنهم، ولا يكون عائقا بينهم وبين ممارسة أعمالهم، أو يحولهم لمجرد تابعين لمنظومة لا تقتضيها مصالحهم أو مصالح مهنتهم.
ولي أمل في مهنة المحاماة أن تخف الدولة عنها العوائق الإدارية والضغوط التي تهددها أو تعصف بها من تضييقات إدارية وعوائق تنوء عن حملها وتضج بها، وتحول بين المحاماة وبين تحقيق حق الناس في الدفاع عن مصالحهم، وتيسر لذلك قدر ما استطاعت على أقل تقدير احتراما لكونه قيمة دستورية وحقوقية.