في المقال السابق اتفقنا على أن أول أبواب الخروج لمصر من أزمتها المزمنة سياسيا واقتصاديا ومجتمعيا، هو تطبيع الحياة السياسية، بحيث تتحرر بنية السلطة، ويتحرر المجتمع من ديمومة الوضع الاستثنائي، الذي بدأ بعد أزمة مارس 1954 حين اكتمل إقصاء كل القوى السياسية المدنية من المشاركة، ولو في إطار معارضة شرعية، ومن ثم ترسخ حكم الفرد، المنبثق عن دائرة انتخابية واحدة، والمستند عليها في إطار ائتلاف أمر واقع مع بيروقراطية الدولة ومجموعات من التكنوقراط، ليضاف إليهم منذ الثمانينيات شريحة من رجال الأعمال، هذه الدائرة هي طبعا المؤسسة العسكرية، وكما ذكرنا فإن مرور السنوات الطوال التي بلغت الآن سبعة عقود جعل الاستثناء يبدو وكأنه هو القاعدة، ليس فقط لدى التركيبة الحاكمة، ولكن أيضا لدي قطاعات مهمة في المجتمع، رغم أنها ليست من مكونات ذلك الائتلاف، ومن هنا جاءت استمرارية النظام، رغم انتقال السلطة الرئاسية من شخص إلى خليفته، بالطريقة أو الطرق التي نتذكرها جميعا.
اليوم نتناول بشيء من التفصيل ما أدى إليه تطبيع الاستثناء السياسي في مصر من نتائج بالغة ومطردة السلبية، كانت ولازالت هي المركّبات التي تشكلت منها تلك الأزمة المزمنة، التي تتجلى في عجز موارد الدولة عن تلبية احتياجات المجتمع منذ عقود، والتي يتوقع أن تتفاقم في المستقبل، ما لم يتغير المسار برمته، وهي الأزمة التي نبحث مع الزملاء الأفاضل المساهمين في هذا الملف أبواب الخروج منها.
فبالإضافة إلى فردية القرار، وأوليجاركية الحكم، وغياب المساءلة والرقابة والمراجعة والتصحيح، وانعدام الفصل والتوازن بين السلطات، والاضطرابات السياسية التي تنزلق إلى العنف أحيانا، وتعثر التنمية، تراكمت أيضا سلبيات بالغة الضرر في مختلف جوانب الإدارة العامة للدولة وللمجتمع، وهنا يجب الالتفات إلى أن الإدارة العامة هي مفهوم وتطبيق لهما خصوصية تميزهما عن السياسة بمعناها الاصطلاحي المباشر، فهي تعني أجهزة وأدوات وأساليب تنفيذ السياسة المقررة، وللتوضيح فالنموذج الكلاسيكي المشهور هو الإدارة العامة في النظام السياسي البريطاني، حيث تتغير الحكومات بأصوات الناخبين، وبالتالي تتغير السياسات مع كل حكومة جديدة، لكن الذي ينفذ هو نفس أجهزة وأدوات الإدارة العامة المستقرة، وبنفس الأساليب المعهودة، سواء على المستوى المركزي، أو على مستوى مجالس الحكم المحلي، ولمزيد من التوضيح فقد تزيد حكومة عمالية مثلا مخصصات الخدمة الصحية، أو قد تقلص حكومة محافظة هذه المخصصات، ولكن في الحالتين يبقي الجهاز الإداري لوزارة الصحة بدءا من الوكيل الدائم للوزارة ملتزما بوضع البرامج التنفيذية لهذه السياسة أو تلك بمنتهي الشفافية والكفاية، وبأقصى فاعلية ممكنة، ومن خلال نفس الآليات والقواعد.
في حالتنا المصرية ليس هذا هو الحال لسببين رئيسين منبثقين من حالة الاستثناء السياسي، أولهما تركز القرار التنفيذي أيضا -وليس القرار السياسي فقط في السلطة العليا، بما يؤدي إلى نموذج حكم مركزي شديد الصرامة، يعتاد معه المسئول الإداري على ما اعتدنا تسميته “بالأيادي المرتعشة”، بمعني الخوف من الخطأ والتهرب من المسئولية، وانتظار التوجيهات من أعلى، والسبب الثاني هو غلبة أولوية الأمن السياسي على غيرها من الأولويات والاحتياجات، مما ينجم عنه تفضيل الولاء والطاعة على الكفاية، أو ما نعرفه جميعا أيضا تحت مسمى تفضيل أهل الثقة على أهل الخبرة.
إذا امتد الخط معنا إلى نهايته فإن تفاعل المركزية والأمن والولاء معا، في غياب المشاركة السياسية الجادة، وفي غياب المساءلة كان لابد أن تفرز -مع تطاول السنوات والعقود- ظواهر سلبية أخرى كثيرة، منها انتقائية تطبيق القانون، بل وانتقائية تقديم الخدمات والمزايا، والمحسوبيات في الإدارة والتوظيف، والفساد الإداري، والتحكم البيروقراطي (والسياسي) في منح تراخيص المشروعات والأعمال، وفي تخصيص الموارد وعناصر الإنتاج، كما كان يحدث مثلا في قروض البنوك في تسعينيات القرن الماضي، أو في تخصيص الأراضي حتى ثورة يناير 2011، وأخيرا وليس آخرا توريث الوظائف والامتيازات، في كل القطاعات تقريبا، مما شكل في نهاية المطاف مجتمع طبقيا، ليس على أساس علاقات الإنتاج، بقدر ما هو على أساس علاقات السلطة، الأمر الذي لا يؤدي إلى أفضل استثمار للموارد البشرية والطبيعية لتحقيق معدلات التنمية الواجبة أو الممكنة.
وكما اختتمت مقالي السابق بأنه ليس هناك حل فوري يسهل الوصول إليه لحالة الاستثناء السياسي التي شلت الحياة السياسية المصرية منذ 1954، وأنه ربما يتعين البدء بخطوات محدودة متدرجة تفضي إلى نتائج غير محدودة، فإنني أختتم هنا أيضا بأنه ليس في مرمي البصر باب واضح للخروج من السلبيات -التي عددناها والتي لم نعددها- لنموذج الإدارة العامة في مصر، وما أفرزه من ظواهر تعوق التقدم وتعطل التنمية، ولكن الوعي بالمشكلة هو أول خطوات حلها، وهنا أيضا فإن الحل في المبتدأ والمنتهي هو حل سياسي بالضرورة، يقتضي خطوات جادة نحو إنهاء الاقصاء والملاحقة، وفتح أبواب المشاركة والمساءلة، والحد من أولوية الأمن السياسي على كل الاعتبارات، خاصة وأن النظام الحالي لا يواجه تحديا جديا إلا الأزمة الاقتصادية الحادة، التي رأينا أنها موروثة منذ الستينيات، حين بدد التورط في حرب اليمن ثمار الخطة الخمسية الأولى، وحال دون بدء الخطة الثانية، فتبددت الدفعة القوية التي كانت مرتكز نظريات التنمية في عصور التخطيط المركزي، وكما ذكرنا في المقال السابق فقد توالت النكسات علي التنمية في كل العهود مرورا بحرب 67 وتدمير القطاع العام والخصخصة، وصولا إلى تفاقم أزمة المديونية الأجنبية، والأزمة المعيشية حاليا.
كل ما نقترحه ليس اختراعات، ولكنها الوصفات المجربة في كل الدول لكسر الأغلال أو الأقفاص التي تكبل المجتمعات، كما تكبل مؤسساتها الرسمية والأهلية، بل وتهدر طاقاتها ومواردها، والتي يمكن في ظروف أفضل أن تساهم بفاعلية في إنقاذ الوطن حكاما ومحكومين.