ماذا لو جاء معتذرًا؟ نطرح السؤال وكأن الاعتذار حالة من المحو لكل ما أصابنا. نتحدث عن الاعتذار ونحن أسرى الأذى، أدمنا الوجع، وباتت العلاقات تفرز أذى ممتزج بدوبامين السعادة، فتبدو العلاقة كرحلة إدمان لا ينفلت منها من يسقط، بينما سيرى البعض أن العلاقات الإدمانية مرتبطة بالعلاقات العاطفية. لكن هذا ليس صحيح، إنما هي علاقات تنشأ بين أي اثنين، وهناك من يستطيع جعلك لا تتخلى عن وجوده في حياتك، يكيد لك، ويُحزنك، يلطمك في كل لحظة، وحين ترحل سوف يأتي سريعًا، ليمحو ما سببه من أذى، وأنت سوف تستمر، ذلك أنك تتعاطى الأذى كنمط وأسلوب حياة.
كإعجاب بلطمات الموج نعتاد الألم، موجهين نحو خلق مبررات لاستدامة الوجع، نعم نحن من نصنع الأسباب، ونهيئ الظروف حتى يسكن فينا الأذى، ويتضافر مع تفاصيل اليوم.
هل نتعاطى الأذى طوعًا؟
تنشأ فكرة الإدمان من مشاعر بالسعادة غير متحققة عبر وسيط آخر غير سببها، وبعد قليل يختلط خيط رفيع من الألم مع تلك السعادة التي تنتشر في أرواحنا، سرعان ما يتزايد الألم وتخفت السعادة، لكن أغلبنا أبناء الذكرى وأوهام الزمن الجميل.
وهم الانطباعات الأولى تدوم مسيطر على عقول الكثير، وحين يفرح أحدهم وهو شعور عزيز المنال، يصنع أيقونته، النساء أسرع في صنع تلك الرؤى من الرجال، لكن للرجال أيضًا أوهامهم، ورؤاهم، فآلية الإدمان لا تُفرق بين رجل وامرأة.
في غرس الأذى فينا لا نراه، يبدأ خفيفًا مع خيط الألم، مثل الملح الذي نضعه مع الحلوى، نظنه لضبط إيقاع الحياة، ولما لا والحياة تحتمل كل شيء.
عندما يبدأ الأذى يكون طيفًا، يمر بهدوء، كنصل ورقة حادة، يقطع بهدوء دون أن تشعر لكنك تلمح خيط الدم، ترى أثره، وتنسى كيف حدث، في العلاقات تبدأ السعادة الغير متحققة من قبل كسماء رحبة، تلتقط البؤساء الخاملين في حيواتهم، شموس تخبو بفعل الظروف والمحيطين به، أو هؤلاء المتوهجين بألق مبهر، فيُعميهم النور عن الأذى. في الحالتين هناك خرق يحدث لنمط حياتك، خبرة جديدة مُضافة، يدخلها صاحبها فضولًا أو طمعًا في سعادة تتحقق، حينها يبدأ الضحية في خلق حالة مرافقة لتلك السعادة، رابطًا بين مصدرها ووجودها، فلا يرى الفرح بعيدًا عن هذا الذي دخل حياته.
الأمر لا يختلف كثيرًا بين الأذى في علاقات الحب وعلاقات الصداقة، في شتى العلاقات هناك شخص يمرر الأذى لك بهدوء وبطء، وعندما تشعر بالألم، تبدأ جرعة جديدة من السعادة أعلى قليلًا مما سبق، فيُضيع السكر طعم المِلح، ونتغاضى مؤقتًا عن مرارته، بل إن قرارًا بنسيانه يولد تلقائيًا بداخل من يتأذى.
المساهمة في الأذى الذاتي
الإنسان أول عدو لنفسه عبارة نرددها في أوقات عديدة دون الوقوف لتحري صدقها وتوافقها مع الواقع، تُصبح مثل الأمثال الشعبية وحكم الشعوب، فقط يتم ترديدها كمختصر لموقف أو تعليق على سلوك، يعقبها صمت، بينما في مناهج البحث العلمي في كل مجالات الحياة يبدأ حل أي مشكلة عندما نُقر بوجودها، فإن لم يعترف أحدهم أنه مريض فلن يبحث عن علاج، وإن لم ترَ لديك مشكلة فما الذي سيدفعك للتفكير بها؟
إدمان الوجع والأذى قائم على حقيقة هامة أن المُدمن طيلة الوقت يظن نفسه أنه قادر على التراجع، يُعلي من شأن قدراته على التخلي والبعد، لكن ذلك ليس حقيقيًا، لعدد من الأسباب
1. ربط السعادة والبهجة بمصدر الأذى دون الوعي أن الإنسان نفسه طرفًا أساسيًا في صناعة سعادته، ويتعاون مع الآخرين في الكشف عن مواطن ضعفه، سواء كان ذلك بالتصريح بها والفضفضة أو ملاحظة الطرف الآخر الذي يعي مواجع رفيقه/ صديقه/ حبيبه.
2- خلق أوهام شخصية وصناعة أساطير حول الطرف الآخر ليست حقيقية، كأن ترى امرأة أنه لا رجل سيسعدها مثل هذا الرجل الذي يؤذيها، أو يرى أحدهم أن هذا الرجل هو أخلص صديق له، خلق تلك الأوهام والأساطير نصنعها في بدايات العلاقات معتمدين على مواقف صغيرة تحدث، مساندة ودعم في لحظة غير متوقعة، التفاتة حانية، دفعًا لنجاح أو تألق لم يسبق من قبل، مشاركة للحظة سعادة كونتها الظروف، التفاصيل الصغيرة فجأة تتحول لأعمدة كبرى تحمل على عاتقها بناء مرتفع الطوابق من الأذى، فكل ما سينال صاحبها من أذى لاحق لن يراه، فقط لأنه وضع شريكه المؤذي في موضع المحب المُخلص.
3- العمى المتعمد: هناك أشكال من العمى التي نحترفها نحن البشر، مثل غض الطرف عن عيوب واضحة في الشريك، دون مناقشته ومساعدته على تجاوزها، صحيح أن حبيبك يبلع لك الزلط، وأيضًا عيوب المُحب يراها الحبيب مزايا كما تقول صديقتي، لكن العلاقات التي لا تُساهم بجدية في تحسين أطرافها تُصبح علاقات أذى، لو أن صديقك مرتشي، أو مقامر، أو به عيب مؤذي، فقبولك بهذا العيب دون مساعدته لتخطيه هو أذى سيلحق بك، فلن تسير في الوحل دون أن تتسخ، العمى المتعمد نصنعه بأنفسنا داخل سياقات متنوعة، وتبريرات لا تتوقف، فقد صنعت السعادة المختلطة بالأم مسارًا اجباريًا.
4- الكسل: تبدو كلمة الكسل هينة جدًا ويظنها البعض أن الكسل أمر تافه لا يرقى أن يكون سببًا للأذى، لكن الحقيقة أن الإنسان يميل إلى الراحة، يبتعد عن بذل جهد أو البحث عن شيء جديد، وخلف الكسل لا يُغير أحدهم وظيفته التي تنهكه وعائدها ضعيف، ولا يسعى لاكتشاف أصدقاء جدد، ولا البعد عن الشريك، فكثير من الزحام يحدث لأن الناس لا تود اكتشاف طرق جديدة أيسر، ولهذا كان تطبيق ال GPS ناجحًا لأنه يقترح بدائل أيسر وأسرع في الوصول إلى الوجهة، لكن هذا التطبيق هو الذي يقترح عليك، وأنت أيضًا كسول، يتمادى الإنسان في كسله في تحسين حياته، ثم يدعي أن هذا رضا بالحاضر ولا بدائل، فهذا صديق العمر وفعل كذا وكذا، وهذه حبيبة حقيقية وفعلت كذا وكذا، وتتنوع المبررات الداعمة للكسل، أهم ما في الأمر أن الواقع في الأذى سيجد في كل مرة مبرر للاستمرار، وكلما تحمل زادت جرعة الأذى تدريجيًا.
كيف تتعافى من الأذى؟
لحظات القوة تمنح صاحبها مشاعر زائفة، هي ذاتها اللحظات التي تعقب تناول جرعة المخدر، حيث مشاعر السعادة مستقرة، لا طيف واضح للألم، ومن ثم فكثير من المُدمنين يتخذون قرار الإقلاع عقب تناول الجرعة، ومن ثم عندما يأتي موعدها وتتوافر ظروفها فإنه يسعى للتحمل لكن قواه تنهار ويعود مجددًا.
ميكانزيم الإدمان معروفة للجميع، لكن أزمة الإنسان إنه يتعامل مع الحياة كقطع منفصلة، لا أثر لشيء في مجال على الاخر، بينما لو نظرنا أن الحرب الدائرة بين أوكرانيا وروسيا تترك رواسبها على العالم أجمع، متسببة في أزمات كبرى حتى لأبعد الدول، إنه تأثير الفراشة الذي ننكره ظاهريًا وفى مستويات الوعي الملحوظة.
إذن كيف نتعافى من الأذى؟
– البعد الكامل طريق أكثر أذى في قطع نهائي، حتى الموت يأتي بأسباب، الموت المفاجئ الذي نراه لا يكون مفاجئًا بل تسبقه أحداث لا نراها، لذا القطيعة المفاجئة غير مجدية للإقلاع عن الأذى، بل أنها تُمهد للعودة وفق شروط أشد قسوة وألم من سابقتها.
– تجاهل الشريك المؤذي أيضًا ليس حلًا، بل الأفضل أن تراه وأنت قوى ساعيًا أن تفتح عينك وروحك للتعرف على أوجه الشقاق التي تحدث، فلو أن صديقك يدفعك دومًا للغضب، فعندما تكون هادئًا راجع نفسك لماذا يفعل ذلك، وما صالحه، لو أن حبيبك يُبعدك أو يقربك من شيء أو انسان انظري لما أبعد من الفعل.
التعافي يحتاج القوة والوعي، يحتاج رغبة حقيقية في الاكتشاف والتجريب والمغامرة، بالطبع قد يفقد الانسان بعض من السعادة الوهمية التي تحققت في بداية علاقته، لكنه عندما يُفكر سيجد أن هذه السعادة قد ولت، وأنه ليس إلا ترسًا في ماكينة الأذى، إنها أوهام صنعها بنفسه، ولم تعد، حين تلمس أذى من الآخر ابتعد تدريجيًا لترى أفضل، راقب واقلع عن الكسل، واعرف أن بعض العيوب نصال حادة في قلوب المحيطين قبل صاحبها، فاسعى أن تهرب من الأذى قبل فوات الأوان.