شارك حوالي 27.54% ممن لهم حق الانتخاب في التصويت على الدستور التونسي الجديد، وصوت 94.54% منهم بنعم للدستور (حوالي مليونان و607 آلاف مواطن) في مقابل 5.4% قالوا لا (حوالي 148 ألفًا و723 مواطن) وبمقتضاه نقلت البلاد من نظام شبه برلماني إلى نظام رئاسي أمامه فرصة حقيقية أن يؤسس لنظام ديمقراطي.
والحقيقة أن التجربة التونسية تعرضت لجدل ونقاش كبير سواء على المستوى الأكاديمي أو السياسي، ولازال هناك تيار يعتبر قرارات الرئيس قيس سعيد الاستثنائية التي أطلقها العام الماضي، وجمدت عمل البرلمان انقلابا، ويعتبر الاستفتاء على الدستور باطلا.
والحقيقة أن كثيرا من ردود الفعل على الساحة الدولية هاجمت إجراءات قيس سعيد، واعتبرت الواشنطن بوست أن أول أمس هو يوم أسود على الديمقراطية في تونس، في حين كان بيان المتحدث باسم الخارجية الأمريكية أكثر حذرا حين قال إن الدستور الجديد ليس فيه فصل واضح بين السلطات، وقد يؤثر سلبا على الديمقراطية وحقوق الإنسان.
والمؤكد أن فصول (مواد) الدستور التونسي الـ142 (وزعوا على 10 أبواب) معظمها إيجابية وتنقل البلاد إلى نظام رئاسي معروف ومستقر في كثير من النظم الديمقراطية، فالرئيس هو الذي يعين الحكومة ويسمي رئيسها وهو أمر طبيعي في النظم الرئاسية ولكن بشرط موافقه البرلمان، وهو ما غاب عن الدستور التونسي.
كما عرف الدستور الجديد رطانة لا مبرر لها، وجملا في مقدمته أقرب للمنشور السياسي من نوع: “كان لا بد من موقع الشعور العميق بالمسؤولية التاريخية من تصحيح مسار الثّورة بل ومن تصحيح مسار التاريخ” وهي جملة فيها كثير من المبالغة ولا مكان لها في نص دستوري.
ومع ذلك فإن التجربة التونسية قد حسمت فشل النظام الهجين شبه البرلماني الذي دعمته حركة النهضة وحلفاؤها على مدار عشر سنوات، وقام على الموائمات الحزبية وعدم القدرة على اتخاذ أي قرارات إصلاحية سواء على المستوى الاقتصادي والسياسي، وأصاب البلاد بالشلل التام، وفتح الباب لتنازع حقيقي في السلطات بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، وهو ما أضعف السلطة التنفيذية، وجعل رئيس السلطة التشريعية (راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة) في وضع أقوى، وتغول على صلاحيات رئيس الجمهورية المحدودة، وخاصة في مجال السياسة الخارجية، حين صال وجال بين البلاد الداعمة لتيارات الإسلام السياسي.
يقينا، الدستور الجديد بمشاكله وبالتحفظ على بعض فصوله نقل البلاد نحو منظومة سياسية أمامها فرص أكبر من التي أتاحتها منظومة الدستور القديم لبناء دولة قانون وديمقراطية.
منظومة ديمقراطية الثرثرة والفاعليات الثورية ومشاريع التمكين من السلطة التي عرفتها تونس وبعض البلاد العربية عقب ثوراتها أغرقت البلاد في أزمات كبيرة، وغاب عنها أي قدرة على الإنجاز ووضع المصلحة العامة ومصالح الناس قبل مصالح أحزابها الضيقة، وهي حالة فوضوية من العجز والركض في المكان تفتح الطريق للبحث عن المخلص أو المستبد العادل، وتدفع الناس “للكفر” بالديمقراطية والثورة التي لم تحل لهم مشاكلهم بل عمقتها.
ولأن في تونس المؤسسة العسكرية ليست قوية، وغير حريصة على التدخل في السياسة، فإن البديل في مواجهة منظومة الفشل وعدم الإنجاز التي امتدت على مدار عشر سنوات كانت بانتخاب رئيس مدني، هو قيس سعيد، بنسبة ٧٦٪ من أصوات الناخبين، وقادم من خارج النخب والأحزاب السياسية السائدة مثلما يحدث في ديمقراطيات كثيرة، ويعتبره الناس أنه منقذهم.
وقد عبر الرئيس قيس سعيد عن هذا النموذج، ووضع البلاد عقب الاستفتاء أمام مرحلة جديدة، فرغم وجود مشكلات في أدائه، وفقدانه لكثير من الحلفاء وتمسكه بشعارات تحمل نوايا طيبة ومخلصة، ولكنها لا تشتبك مع المشاكل الاجتماعية اليومية، وتميل إلى العموميات واتهام المعارضين والخصوم بتهم معلبة سابقة التجهيز دون مواجهة سياسية لمقولاتهم.
ومع ذلك، فان فرص انطلاق البلاد نحو دولة قانون ديمقراطية في ظل نظام يقوده رئيس لم يغلق المجال العام (وربما لا يستطيع) أكبر بكثير من فرص التجارب التي عرفتها أكثر من بلد عربي عقب ثورتها وقامت على المحاصصة بين أحزاب ضعيفة ومشروع تمكين لتيارات الإسلام السياسي، وانتهت بالفشل.
نعم تونس تعيش حاليا في ظل نظام تعددية مقيدة وليس نظام ديمقراطي، وإن الرئيس لديه صلاحيات أكثر من المطلوب في النظم الرئاسية الديمقراطية، ولكن لازال جوهر مواجهته لخصومه السياسيين ليس الأداة الأمنية والقمعية، إنما يعتمد أساسا على قناعة قطاع واسع من التونسيين بكارثية السنوات العشر الماضية، وأنهم بحاجه إلى رئيس قوي يخلصهم من إرث هذه السنوات ويحل ولو جانب من مشاكلهم الاقتصادية.
والحقيقة أن هذه الفرصة لبناء دولة القانون أمامها تحديان: الأول تحدي يتعلق بأداء الرئيس نفسه وفقدانه المتكرر للحلفاء وعدم إيمانه بالمؤسسات الوسيطة سواء كانت نقابية أو حزبية، وهو أمر يختلف عن اعتراضه المشروع على أدائها، وبين أن يقول إن الأحزاب غير مهمة ولا داعي للحوار معها، ويتجاهل النقابات وتحديدا الاتحاد التونسي للشغل الذي يضم أكثر من ٥٠٠ ألف عضو وله قاعدة اجتماعية حقيقية، وسبق أن دعم قرارات الرئيس الاستثنائية العام الماضي، واتفق معه في قضايا واختلف في أخرى حتى بات موقفه أقرب للمعارضة.
أما التحدي الثاني فهو التأسيس لمعارضة جديدة تناضل من داخل الدستور الجديد والشرعية القائمة بدلا من معارضة أحزاب الأزمة التي حجزت مقاعدها في قنوات الجزيرة، وتصف ماجري بالانقلاب وتطالب الرئيس بالاستقالة وتتوعد داعميه.
في ظل المنظومة الدستورية والسياسية الجديدة يمكن للرئيس قيس سعيد أن يخسر الانتخابات الرئاسية القادمة بعد عامين، في حال نظمت المعارضة نفسها، واعتبرت أن وجودها في ظل نظام به أوجه قصور ديمقراطية أفضل بما لا يقارن من لا نظام أو من نظام استبدادي، وأن ميزة تونس الكبرى أن بها تعددا في قواها السياسية لا يمكن للرئيس أن يلغيه، كما إن حركة النهضة بكل عيوبها هي حزب سياسي وليست جماعة دينية وبالتالي مشروع الرئيس هو إضعافها بالسياسة وليس استئصالها بالأمن.
إن الدستور التونسي الجديد لا يمثل انتكاسة للديمقراطية، لأن ما جرى في العشر سنوات الماضية لم يكن له علاقة بالديمقراطية، إنما هو يعطي فرصة أكبر لبناء نظام ديمقراطي وفتح الباب لظهور معارضة جديدة تؤمن بأن معركة التغيير والديمقراطية هي معركة بالنقاط، وإن نجاحها في الوصول إلى الناس لن يكون بشعارات ثورية أو بتقويض للنظام القائم إنما برؤى في الإصلاح الإداري والمؤسسي، ونضال سياسي مدني، وبرامج بديلة في قضايا السياسات العامة من صحة وتعليم وخدمات ومواصلات، وهي فرصة لازالت إمكانات نجاحها كبيرا.