لا تزال المساواة بين الجنسين ومناهضة العنف والتمييز في العمل غائبة عن تشريعات العمل، وسوف أدلل على ذلك من خلال قراءة نقدية من منظور النوع الاجتماعي لمشروع قانون العمل الذي يناقش حاليا في البرلمان، وأستند إلى النسخة التي حصلت عليها وهى تقرير اللجنة المشتركة من لجنتي الطاقة والبيئة والقوى العاملة ومكتب لجنة الشئون الدستورية والتشريعية عن مشروع قانون مقدم من الحكومة ومحال من مجلس النواب.
تضمن مشروع القانون عنوان “مصر واتفاقيات العمل الدولية” تمت الإشارة تحت هذا العنوان إلى تصديق مصر على 64 اتفاقية عمل دولية وذكر عددا من هذه الاتفاقيات، ولم يذكر من بينها الاتفاقية 100 الخاصة بالمساواة في الأجور عن العمل المتساوي في القيمة والاتفاقية 111 الخاصة بالتمييز في مجال الاستخدام والمهنة، رغم أن هاتين الاتفاقيتين فقط هما الخاصتان بالمساواة بين الجنسين، واللتان وقعت عليهما مصر، كما لم تضمن فلسفة القانون وأهدافه الإشارة إلى تحقيق بيئة عمل آمنة ومحفزة للنساء والرجال أو الإشارة إلى القضاء على العنف والتمييز في العمل.
وفي تقديري هذا هو جوهر الموضوع، أنه إلى الآن ليس مستقرا ومتفقا عليه إصدار التشريعات من منظور النوع الاجتماعي، والمساواة بين الجنسين في العمل، ولذلك لم يتم الإشارة للاتفاقيتين 100 و111 ولم يذكر في فلسفة وأهداف مشروع قانون العمل أي أشارة لمناهضة العنف والتمييز.
وهذا ما سوف يتأكد من عرض مواد مشروع قانون العمل، فالفصل الثالث بعنوان “تشغيل النساء” تم فيه الإبقاء على المادة 88 من قانون العمل رقم 12 لسنة 2003 التي نصت على حماية النساء من التمييز ضدهن وضمان المساواة بين جميع العاملين متى تماثلت أوضاع عملهم، وتتعارض هذه المادة مع المادتين التاليتين (89/90 ) وأيضا تم الإبقاء عليهما من قانون العمل رقم 12 لسنة 2003 وهما تمنحان الصلاحية للوزير المختص أن يحدد الأحوال والمناسبات والأوقات والأعمال التي لا يجوز تشغيل النساء فيها، وبذلك تستمر الوصاية على النساء وتكريس الصور النمطية السائدة بأن النساء دائما مغلوبات على أمرهن ويحتجن دائما لمن يوفر لهن الحماية ويحافظ على أخلاقهن.
كان من المنتظر أن يتم تعديل صياغة هاتين المادتين بما يتوافق مع التعديلات التي أجراها عام 2021 وزير القوى العاملة بإصداره قرارين (43/44) يتعلقا بهاتين المادتين (89/ 90) أتاح فيهما الوزير جميع مجالات العمل للنساء ما عدا العمل في المحاجر، لكن سمح بالعمل في الأعمال الإدارية فيها، كما أتاح للنساء العمل ليلا بموافقتها ووضع ضوابط في القرارين تضمن الحماية للنساء في فترات الحمل والوضع.
من الإيجابي في مشروع القانون توافق قانون العمل مع قانوني التأمينات الاجتماعية والطفل ومن خلال هذا التوافق تصبح إجازة الوضع ثلاثة شهور للنساء التي تعمل بصفة دائمة أو بطريق التعاقد المؤقت وإجازة رعاية الطفل سنتين لثلاثة مدد طول مدة خدمة العاملة ومن الضروري أن تكون هذه الأجازات غير مشروطة بعدد معين من النساء داخل المنشأة لكي تحصل العاملة على إجازة وضع أو رعاية طفل لأن هذه الإجازة هي حق للطفل من أجل رعايته ولا يجب أن يحرم طفل من هذه الرعاية بسبب شرط عددي.
ما يؤكد على غياب منظور النوع الاجتماعي هو رفض مجلس الشيوخ للاقتراح المقدم من النائب محمد فريد بأن يحصل الأب على إجازة رعاية طفل لمدة 7 أيام وهذا الرفض يعكس سيطرة النظرة التقليدية والنمطية أن رعاية الطفل هي مسئولية النساء فحسب، في حين أن من حق الطفل أن يتمتع برعاية والديه، بينما يوجد الحق القانوني في الحصول على إجازة الأبوة في 78 دولة، وهذه الإجازة مدفوعة الأجر في 70 دولة من هذه الدول، مما يؤكد التوجه نحو ارتفاع مشاركة الآباء في فترة ما بعد الولادة.
وتحتاج دور الحضانة إلى نقاش اجتماعي بين أطراف العمل الثلاثة (الحكومة – أصحاب الأعمال – التنظيمات النقابية) فنص قانون العمل رقم 12 لسنة 2003 في المادة 96: “على صاحب العمل الذي يستخدم مائة عاملة فأكثر في مكان واحد أن ينشئ دارا للحضانة أو يعهد إلى دار للحضانة برعاية أطفال العاملات بالشروط والأوضاع التي تحدد بقرار من الوزير المختص. كما تلتزم المنشآت التي تستخدم أقل من مائة عاملة في منطقة واحدة أن تشترك في تنفيذ الالتزام المنصوص عليه في الفقرة السابقة بالشروط والأوضاع التي تحدد بقرار من الوزير المختص”.
وما تم في الواقع أن أغلب جهات العمل لم تلتزم بتنفيذ هذه المادة بسبب عدم اقتناع أصحاب الأعمال أن هذا من مسئوليته، وأن توفير دور حضانة في مكان العمل سوف يجعل العاملة تنشغل عن عملها أو خوفا من أن يتحمل صاحب العمل مسئولية تعرض الطفل/ة لأي خطر، وهناك أصحاب أعمال يتحايلون على مادة القانون بعدم تشغيل النساء أو تشغيلهن دون عقود أو تأمينات، في المقابل عدم توفير دور الحضانة يمثل عبئا في الجهد والوقت والمال على النساء العاملات، وبناء عليه فنحتاج إلى أفكار تتعامل مع احتياجات كل الأطراف وهذا الأمر كان محل نقاش على مدى العقود العشرة الماضية من قبل أطراف العمل الثلاثة وما نحتاجه الآن لحوار بين هذه الأطراف، أولا يجب إلغاء الشرط العددي بحيث تنص مادة القانون على حق المرأة والرجل في اصطحاب أطفالهم إلى دور الحضانة دون اشتراط عدد معين من العمال أو العاملات، والفرصة الآن سامحة من أجل توفير دور الحضانة حيث تهتم الدولة الآن من خلال وزارة التضامن الاجتماعي بتوفير دور الحضانة وتطوير الحضانات القائمة، ويمكن توفير دور الحضانة المستجيبة لظروف العمل بأن تكون في الإحياء السكنية و يمتد ساعات العمل بها ليلا، وتحدد أسعار هذه الحضانات من قبل الحكومة، على أن ينص قانون العمل على نسبة الاشتراك لكل من صاحب العمل والعامل/ة بذلك سوف نضمن توفير دور الحضانة للأطفال جميعا ونعالج مخاوف صاحب العمل، والمساهمة في زيادة أعداد النساء في سوق العمل، وتغيير الثقافة السائدة التي تفرض مسئولية رعاية الطفل/ة على النساء فحسب.
ووفقا لمسح التكلفة الاقتصادية للعنف القائم على النوع الاجتماعى بمصر 2015، الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء وصندوق الأمم المتحدة للسكان والمجلس القومي للمرأة، بلغ عدد النساء اللائي تعرضن للعنف داخل أماكن العمل 139,6 ألفا وهذا العدد هو نسبة3.7% من حجم العينة التي اشتملها المسح، كما نص قانون العقوبات على تجريم العنف في العمل، رغم اعتراف الدولة بوقوعه، لكن حتى الآن لا ينص قانون العمل على تجريم العنف وهذا يقيد قدرة مكاتب التفتيش على التدخل لدى المنشآت أو في تلقي الشكاوى الخاصة بالعنف من العمال والعاملات، لذلك من الضروري أن ينص قانون العمل على تجريم العنف، ويتوسع نطاق الحماية حتى يشمل كل ما يتعلق بالعمل داخل المنشآت أو خارجها الذهاب والعودة من وإلى العمل والتعامل مع العملاء أو الذهاب في مأمورية عمل أو حتى التعرض للعنف عبر الوسائل الإلكترونية، أن توفير بيئة عمل آمنة هي حق ومن معايير العمل التى نصت عليها الاتفاقية 190 الصادرة عن منظمة العمل الدولية عام 2019 بشأن القضاء على العنف والتحرش في عالم العمل فضلا عن أن توفير بيئة عمل أمنة فهي تسهم في تحسين الإنتاجية والمحافظة على العمالة وتقليل معدل تدوير العمالة.
ما طالبت به البرلمان أعلاه ليس مجرد رأي شخصي فحسب، لكن تقوم وزارة القوى العاملة بجهود جادة من أجل دمج منظور النوع الاجتماعي والعمل على القضاء على العنف والتمييز في العمل، منذ تأسيس الوزارة بالقرار الوزاري رقم 1 عام 2019 وحدة المساواة بين الجنسين والتمكين الاقتصادي فثمة جهود تبذل من قبل الوحدة للعمل على بناء قدرات مفتشي العمل والصحة والسلامة المهنية وعلاقات العمل ومكاتب التشغيل على معايير العمل الدولية وآليات رصد ومتابعة قضايا العنف والتمييز في المنشآت وسبل التعامل معها وهذا يمهد الطريق من أجل دمج منظور النوع الاجتماعي في عمل الوزارة ويجعل إداراتها المختلفة قادرة على تطبيق قانون عمل من منظور النوع الاجتماعي، وعلى البرلمان أن يصدر قانون يتوافق مع هذه الجهود التي تبذل ومع الاتجاه العام الذي تتبناه الدولة من خلال رؤية مصر 2030 بشأن التمكين الاقتصادي للنساء وزيادة نسبة النساء في قوة العمل إلى 35 % وصدور قانون عمل من منظور النوع الاجتماعي هو آلية مهمة تتوافق مع الجهود التي تبذل من قبل الوزارة من أجل تحقيق أهداف التنمية وتحسين مؤشرات الدولية للتمكين الاقتصادي للنساء في مصر.