من أجمل وأرقى أقوال الفيلسوف جان جاك روسو، في مؤلفه العقد الاجتماعي أن “القوانين الجيدة تؤدي إلى خلق قوانين أفضل، والقوانين السيئة تؤدي إلى قوانين أسوأ”. ولما كان مجلس النواب يبحث ويناقش منذ فترة ليست قصيرة في مشروع قانون العمل الجديد، فإنه جدير بالذكر أن الاهتمام بمسألة الصياغة القانونية ليس مجرد اعتناء بالجانب الشكلي والإجرائي، إنما الهدف منه هو الوصول إلى تطبيق دولة القانون والحكم الراشد من خلال سن تشريع جيد ومتطور، في منتهى الوضوح والدقة في الصياغة، منسجما مع الدستور وغير متعارض مع القوانين الأخرى، مفهوم عند عامة الناس وقابل للتطبيق.
وتعد نوعية الصياغة التشريعية مكونا هاما من مكونات الإدارة الرشيدة لما لها من أثر على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للبلاد. وتعد الهيئة التشريعية في حاجة إلى استحضار بعض المعطيات وتفعيلها معا، لتحديد أهداف وملامح التشريع المرجو ثم لصياغته بالطريقة الملائمة وربما يراه البعض أمرا تنظيريا أكثر من اللازم، لكنه في الحقيقة تجسيد لمنطق بسيط وهو العقلانية والنظرة الشمولية في التعامل مع قضايا الصياغة التشريعية وقد اعتاد عليه النواب ومارسته البرلمانات طويلا، حيث كلما كانت ممارسة هذا النهج مستقرة وعامة كلما كانت جودة التشريعات أعلى وتوافقها مع مبادئ الديموقراطية والحكم الجيد، إذ إن النظر إلى التجارب السابقة والمجاورة لمجال التشريع من المعطيات التي يجب أن تكون حاضرة دوما.
كما يجب أن لا يغيب عن ذهن المشرع الهدف الرجو من التشريع محل التعاطي، بحيث أن يتم صياغة نصوصه بما يسعى لتحقيق آمال المخاطبين بأحكام هذا التشريع. كما أن حوكمة التشريعات والقوانين تعني وجود مختصين توكل إليهم مهمة تقييم ودراسة وبحث فكرة إصدار التشريع أو القانون منذ البداية، أو مراجعة ما سبق إقراره منذ عقود من خلال قنوات ومسارات قانونية وفنية تضمن توافر الحداثة في التشريع والقانون والجودة في الصياغة والتطبيق، مسارات تتضمن إعداد دراسات اجتماعية للآثار الاجتماعية والاقتصادية والقانونية والقضائية لتطبيق مضامين القانون أو التشريع على المجتمع او الدولة، وأيضاً دراسات تضمن أن التشريع أو القانون المطلوب يحقق متطلبات خطط التنمية، ودراسات أخرى لتقييم التشريعات والقوانين السابقة المماثلة، أو الاستفادة من التشريعات والقوانين الأجنبية بما يتلاءم مع النظام القانوني.
ويشكل قانون العمل أحد أهم القوانين الاجتماعية، بحسب أن العمل أول مفردات الحياة، ومن المفترض أن يهتم قانون العمل الجديد بتوفير العديد من الحقوق التي يحتاج لها العامل والتي لم تكن متوفرة في القانون القديم، والذي يخلق بيئة وظيفية جاذبة للقطاع الخاص الذي ظل طاردًا لموظفيه خلال الفترات السابقة، ووفر قانون العمل الجديد العديد من المزايا، ما جعل العديد من العاملين بالقطاع الخاص، ينتظرون صدور مشروع قانون العمل الجديد، ولكون مشروع قانون العمل، ما هو إلا تشريعاً اجتماعياً يمس حياة الملايين من العمال المصريين، وينظم العلاقة بين أطراف اجتماعية تتباين مواقعها ومصالحها.. فإنه من الطبيعي أن يكون محط اهتمام كبير، وأن يحظى بنصيب وافر من الجدل الاجتماعي.. ومن اللازم أن يدور بشأنه حوارٌ مجتمعيٌ حي وحقيقي يتسع لكافة الأطراف الاجتماعية وتُتاح المشاركة فيه لجميع المخاطبين بأحكامه من خلال آليات فاعلة ديمقراطية تكفل تمثيل فئاتهم وقطاعاتهم المتنوعة وتعبيرهم عن مصالحهم ومواقفهم دون إقصاء أو استبعاد لأحد، كما أنه من الأمور واجبة الذكر ي هذا الصدد أن العلاقات العمالية تمثل أهم أسباب الثورات والاحتجاجات على مدار التاريخ، وذلك في حالة غلبة الجهة الإدارية أو أصحب رؤوس الأموال على حقوق العاملين، وقد شهدنا في مصر الاحتجاجات العمالية في مدينة المحلة في 6 أبريل سنة 2006، والتي شكلت التمهيد المباشر لثورة الخامس والعشرين من يناير سنة 2011.
ومن هنا وجب أن تكون فلسفة مشروع القانون متوجهة بشكل أساسي إلى الاستجابة للحاجات المجتمعية للعمال، والتصدي كذلك لمشكلات التي أفرزها الواقع أو أفرزتها القوانين السابقة على المشروع الجديد، فنحن بحاجة إلى قانون يتصدى للأزمات والمشكلات التي عانى منها العمال في الحياة الواقعية خلال السنوات الماضية، والتي أفرزها تطبيق القانون السابق والتي كانت سبباً رئيسياً للسعي نحو مشروع القانون الجديد، كما أنه يجب السعي نحو تفعيل نصوص ومبادئ دستور 2014 ، كما يجب السعي نحو الالتزام بالاتفاقيات الدولية التي انضمت إليها مصر بخصوص العمال وحقوقهم وهي كثيرة العدد، وبها من النصوص ما يصلح أو يكون كافياً حال تطبيقه أو إدخاله ضمن القوانين الداخلية، بعيداً عن قيمة المعاهدات والاتفاقيات الحقوقية سواء من الناحية الدولية أو من زاوية قوتها الدستورية أو مدى إلزاميتها.
وتكمن مشكلة قوانين العمل حاليا في استقواء رؤوس الأموال وسيطرتها على السوق، وتأثيرها على الحياة العامة بشكل كبير وتدخلها في غالبية القرارات الاقتصادية والسياسية، كما أن هناك شريحة ليست بالقليلة من أصحب رؤوس الأموال يمثلون كتلاً برلمانية، ومدى توافق الحكومة بنوابها مع هذه الكتل الرأسمالية ومدى تعارضها هو الفيصل الحقيقي في كيفية الحفاظ على حقوق العمال في مشروع قانون العمل الجديد، وإن كانت الرؤى على الأفق تذهب إلى حالة توافقية بين حقوق العمال وحقوق أصحاب الأعمال، لكن يجب أن تكون الغلبة لأصحاب الأعمال مما يجور أو يضعف موقف العمال في نصوص مشروع القانون، لكن الأمثل أن تميل الكافة نحو حماية فئة العاملين من تحكمية السوق وفرض آلياته عليهم بما يضر حقوقهم في المجمل.
وقبل أن نخوض في نصوص مشروع القانون من خلال مقالين قادمين، فإننا في هذا المقال الافتتاحي ندفع بالهيئة التشريعية قبل إقرار القانون أن تتزود في مشروعها بفلسفة هادفة للحفاظ على حقوق العمال الرئيسية التي يجب ألا تغيب عن الأذهان والمتمثلة في الحق في الأجر العادل والكافي والمناسب، والحق التأمين الاجتماعي والصحي الملائم، علاوة على مجموعة الحقوق الأخرى مثل الأجازات بأنواعها، والحماية من الفصل التعسفي ، وحماية نصيبهم من الأرباح، وحماية النساء العاملات من مساوئ عديدة تجور على إنسانيتهن، وحقوقهن في أجازات الوضع والرضاعة ووجود حضانات للأطفال حال الوصول لعدد معين من الأطفال أو من العمال، وأوقات الراحة ، وحماية العمالة غير المنتظمة وخدم المنازل، وعدم تشغيل الأطفال، وإجمالاً يجب أن يحقق مشروع قانون العمل المن والأمان للعمال، على الأقل حتى لا تكون هناك احتياج قريب لتعديل نصوصه، وهو الأمر الذي يخل بقيمة التشريع وبقيمته الاجتماعية.