الأسبوع الأخير من سبتمبر من كل عام يجمع بين مناسبتين لرجلين ارتبط اسماهما بالتاريخ المصري الحديث، في الثامن والعشرين منه الذكرى الثانية والخمسين لرحيل رجل المقادير الذي شاء قدره أن يضعه على رأس جيل من الوطنيين المصريين الذين آمنوا بعروبتهم، وقادوا عملية التحولات الكبرى في السياسة والمجتمع والمحيط الإقليمي، وكان لها أثرها وتأثرها بما جرى على الصعيد الدولي في واحدة من أخصب فترات التاريخ الإنساني في أعقاب الحرب العالمية الثانية إلى مطالع العالم الجديد الذي تأسس على نتائج الحرب الباردة التي اشتعلت جمرتها في ظل نظام عالمي ثنائي القطبية على قمة العالم.
وفي الثالث والعشرين منه ذكرى ميلاد الكاتب الصحفي المصري الأهم في التاريخ الحديث محمد حسنين هيكل (23 سبتمبر سنة 1923) الذي صنعته مقاديره -هو أيضًا- لكي يكون شاهدًا مطلعًا على ما جرى في خضم هذه التحولات الكبرى، وداعية للأيديولوجيا (الأفكار، والتوجهات، والسياسات) التي قادت هذه التحولات، وصار هو لسانها الفصيح، وقلمها البليغ.
الأسطورة الحقيقية هي تلك التي جمعت بين الرجلين، في تلك اللحظة من التاريخ، وربطت بينهما، فلا يكاد يذكر عبد الناصر إلا متبوعًا باسم هيكل، ولا يمكن ذكر هيكل بغير الحديث عن علاقته بعبد الناصر، الأول من موقع الزعيم والقائد والرئيس، والثاني من موقع الانتماء لمشروع الزعيم، والدعاية له، والحرص على تأريخ دوره ورسم صورته الحقيقية كما انطبعت على وجه التاريخ، وهو الدور الذي تمناه عبد الناصر وتوقعه منه، وأداه هيكل بحنكة واقتدار.
**
بعد الرحيل المفاجئ لجمال عبد الناصر (رحل عن 52 عامًا)، وفي الشهور الأولى من عمر جمهورية أنور السادات كان عبد الناصر حاضرًا بأكثر مما تحتمل الأمور، وكان أكثر حضورًا في قلب عملية ترتيب النفوذ عند القمة، كان ظله -في تلك الأثناء- أوضح من كل الصور التي تحيط بقمة السلطة، وجرى استخدام اسمه على أوسع نطاق من الجميع، يستميله كلُ فريق إلى صفه، ويشده كل طرف إلى موقفه.
كانوا جميعًا يلعبون اللعبة نفسها، وربما للأهداف نفسها، كل من موقعه، وحسب ما في يده من أوراق، كلهم كانوا يحاولون إعادة ترتيب النفوذ عند قمة السلطة ترتيبًا يعطيه نفوذًا أكبر، ويقلص في الوقت نفسه من قوة نفوذ الآخرين.
ومبكرًا جدًا اختار هيكل أن يلعب لعبة السادات بكامل أشواطها، ولو جاءت على حساب عبد الناصر، أو جاءت خصمًا من حساب الرجل، وإضافة لحساب السادات، فهو الذي ظل يردد أن عبد الناصر هو الذي اختار أنور السادات لخلافته، وأسس بهذه الرؤية للحملة الانتخابية لأنور السادات رئيسا للجمهورية خلفًا لعبد الناصر، على عكس رواية هيكل بعد رحيل السادات التي نفهم منها أن عبد الناصر أراد من تعيين أنور السادات نائبًا للرئيس أن يتساوى مع زملائه ممن تولوا الموقع من قبل، فلم يكن يقصد أن يختاره لخلافته ، وأن عبد الناصر أكد له أن السادات يصلح للفترة الانتقالية، ولم يقل إنه يصلح لخلافته.
**
في ذكرى “الأربعين” لرحيل عبد الناصر، ومن شخص لم يتوقعه أحد، نشر في مصر عنوان كبير لمقال افتتاحي في صدر الصفحة الأولى لملحق خاص ملون ظهر في المناسبة مع جريدة “الأهرام”، كان العنوان الصادم يقول: “عبد الناصر ليس أسطورة”، وكان المقال يحمل توقيع محمد حسنين هيكل.
العنوان -قبل القراءة المتفحصة- أربك الجميع في مصر، المواطنين، قبل المسئولين، إلا من كان على اطلاع على ما يدور خلف “الكواليس”.
أربعون يوما فقط على غياب الرجل الذي انتحبت مصر والشعب العربي كله في وداعه، خرجت الملايين وراء جثمانه لكي تضعه في مكانه لا ينازعه فيها أحد، ثم وبهذه السرعة يقرأ الناس أنه لم يكن أسطورة، وبتوقيع الكاتب الذي التصق به على مدار 18 سنة.
**
وللحق فإن هيكل -شأنه شأن الآخرين الذين يلعبون اللعبة نفسها- لم يكن هدفه الحديث عن عبد الناصر بقدر ما كان حديثه عما يحدث بعده، ولكنه انغمس في عملية إحضاره في شأن كان قد غيبه الموت عنه.
لم يكن هيكل يجيب عن سؤال: هل عبد الناصر أسطورة؟، فالسؤال لم يكن مطروحا، ولا كان هناك من يقول بذلك، ولكنه كان يجيب عن سؤال آخر مطروح، وربما بشدة في أروقة الحكم، وفي خضم الصراع على عبد الناصر ميتًا وسط الدائرة نفسها التي كانت تتصارع حوله حيًا. سؤال التركة، أو بالأحرى سؤال الورثة، السؤال في جوهره يتناول قضية من الأحق بها من بين القائمين على الأمر.
ولذلك راح يؤكد على: “إنه ليس من حق أحد بيننا أن تراوده على نحو أو آخر، بقصد أو بغير قصد، فكرة تحويل جمال عبد الناصر إلى أسطورة”.!
وقال: “إن الحب الزائد له، والحزن الزائد عليه -وكلاهما في موضعه- يمكن لهما أن يدفعا بالذكرى دون أن نشعر إلى صلب الأساطير. كما إن بعضنا قد يتصور لأسباب شتى أن ذلك متطلب أو مطلوب، والحقيقة أن هذا كله مهما كانت دوافعه يضع جمال عبد الناصر في غير مكانه الصحيح”.
**
وظل المقال يتدافع باتجاه صلب الموضوع فقال: “إن جمال عبد الناصر ليس له خلفاء ولا صحابة، يتقدمون باسمه أو يفسرون نيابة عنه، لقد كان له زملاء وأصدقاء، وقيمة ما تعلموه عنه، مرهونة بما يظهر من تصرفاتهم، على أن تكون محسوبة عليهم، دون أن يرتد حسابها عليه”.
ثم تقدم أكثر إلى هدفه من المقال فقال: “يستطيع زملاء وأصدقاء جمال عبد الناصر أن يرووا عنه، ولكن ذلك كله يدخل من باب التاريخ، دون أن يكون جوازا إلى باب المستقبل”، وقال: إن تأثير عبد الناصر فيمن لا يعرفهم شخصيا، أعمق منه فيمن عرفهم شخصيا”.
وحذر من تحويل التاريخ إلى فن التحكم في المستقبل، لأن ذلك يحمل “شبهة تحويل ذكرى عبد الناصر إلى كهنوت، والكهنوت له كهنة، والكهنة لهم حجاب، والحجاب لهم حراس، والحراس وراء أسوار، والشعب خارج الأسوار ينتظر الوحي”.
ثم وكأنه يطالب بالتغيير أكد هيكل: “إن طريق جمال عبد الناصر لا يعنى إبقاء كل شيء كما كان عند اللحظة التي تركه هو فيها، ثم تحدث باسم الغائب فقال: “لو كان جمال عبد الناصر لم يرحل لما بقي كل شيء عند تلك اللحظة”.
وأكد هيكل من جديد على “أننا نسيء لجمال عبد الناصر إساءة بالغة إذا نحن حاولنا أن نستخدم تراثه بدلا من أن نخدم هذا التراث”، وشدد على أن “ذكرى عبد الناصر لا يجب أن تتحول إلى تراث أو إرث نعيش عليه”.
**
كانت تلك أجواء وكلمات من المقال الذي فاجأ الجميع، وروَّع المتهمين بالكهانة، فثاروا على المقال وكاتبه.
كان هيكل يستخدم اسم عبد الناصر في صراع له انحياز واضح فيه.
وكانوا هم يشعرون أن معركة بدأت تلوح في الأفق، وأن المطلوب أن تنزع من بين أيديهم ورقة عبد الناصر، ويجري تسليمها علنًا إلى السادات وحده، ولهيكل من ورائه.
كان المقال بالنسبة لهم واضح الأهداف، فهو يمضي إلى نزع صفة “الأمناء على استكمال مسيرة عبد الناصر” عنهم، وهي الصفة الأعز بالنسبة لهم.
ورأوا أن يبادروا بالهجوم قبل أن تصل الحملة التي أطلقها المقال إلى مواقع نفوذهم، وقرروا إثارة الموضوع في أعلى مستوى سياسي قائم في البلاد حيث يسيطرون على القرار فيه، وبيتوا أمرا ضد المقال وكاتبه.
**
وصلت الرسالة إلى العنوان الذي قصده هيكل، حيث مجموعة الحكم المسيطرين على دفة القرار السياسي في البلد رغم وجود الرئيس السادات في سدة الرئاسة، واعتبروا المقال مصوبًا في مواجهتهم، ومنحازًا للسادات، فضلًا عن تحقيقه مصلحة خاصة بهيكل الذي أراد أن يحتكر لنفسه موقع الكهانة في المعبد الناصري.
يذكر أحمد حمروش رئيس تحرير روز اليوسف وقتها أنه كان في زيارة لشعراوي جمعة وزير الداخلية بمكتبه، وكان عنده «سامي شرف» الذي فتح موضوع المقال، وتحدث ثائرا ضد هيكل، معتبرا أن في كلماته اعتداء على عبد الناصر وتسميمًا للآبار أمامهم، وختم حديثه منفعلًا: “نعم عبد الناصر أسطورة”. بينما كان شعراوي جمعة هادئا وطلب رأيي، قلت له إن الرد على مقال لا يكون إلا بمقال مثله، والرأي لا يهزمه إلا الرأي، يؤكد حمروش: لكن وضح لي أن هيكل قد اختار بمقاله الابتعاد عن هذه المجموعة والاقتراب من أنور السادات.
**
كلهم غضبوا من المقال، وغضبوا على كاتبه، ولكنهم اختلفوا في طريقة مواجهته، ورأى كل فريق فرصة لكي يحقق بعض أهدافه، فاختلفت ردود أفعالهم، أو بالأحرى اختلفت درجة حرارة تلك الردود، بين سخونة في حدودها القصوى تقطع أي حبال للود مع هيكل، وبين سخونة في حدودها الدنيا تحافظ على بعض تلك الحبال ممدودة.
الذين اختاروا درجة السخونة الأدنى كانوا محور شعراوي جمعة وسامي شرف بينما ارتفعت درجة سخونة رد فعل علي صبري والذين معه.
أراد شعراوي جمعة ومعه سامي شرف أن يتركا محور اللجنة العليا يخوض المعركة ضد هيكل وكانت لهما أسبابهما:
– إن هذه المواجهة توفر لهما –بالضرورة- حماية ودفاع ضد مقولات هيكل التي شملتهما مع الآخرين.
– ثم إن دفع الخصام والخصومة بين هيكل ومحور اللجنة العليا إلى مداه سيحقق في نظرهم دفعا لهيكل باتجاههم، يطلب حمايتهم، بعد أن يتبين له أن السادات لا يصلح أن يكون حاميا في مواجهة قوة المؤسسات السياسية والدستورية التي يملكون زمام الأمور فيها.
ولا شك أن انضمام هيكل إليهم فيه قوة لهما في مواجهة منافسين آخرين، وفيه حذف لقوة هيكل من رصيد السادات في مواجهتهم.
ولكنهم جميعا كانوا يريدون أن يلقنوا الآخرين درسًا يصعب على أي فرد الإقدام على المساس بهذه المنطقة أو الاقتراب منها، وكانوا يريدون أن تصل الرسالة إلى من تصوروا أنه “الموحي” بالمعاني الواردة في المقال خاصة تلك التي تمس أوضاعهم المستقرة.
**
كان أذكى ما فعله السادات في تلك الآونة أنه زكَّى تناقضات جماعة الحكم ولعب عليها، ونفخ في تناقضاتهم مع “الآخرين” ولعب بها.
على الجانب الآخر كان أكثر المتحمسين لمحاسبة هيكل هم قيادات الاتحاد الاشتراكي الذي طبقا للقانون هو المالك للصحف وكان على رأس هؤلاء علي صبري ومعه عضوا اللجنة التنفيذية العليا ضياء داود ولبيب شقير.
يقول ضياء داود: “إزاء ما خلفه المقال من قلق مستويات الاتحاد الاشتراكي اتفقت مع الدكتور لبيب شقير على عرض الأمر على اللجنة التنفيذية العليا”، واستعد لبيب شقير وقام وجهز مرافعته وهو أستاذ القانون المشهود له بالكفاءة في مادته.
وانعقدت اللجنة التنفيذية العليا برئاسة أنور السادات وجرت المناقشات حسب جدول الأعمال المطروح، وكان في أغلبه -طبقا لكل الروايات التي تحدثت عن الاجتماع- مناقشة مفتوحة حول عدد من القضايا المطروحة، ولم يكن بالطبع من بين بنوده مناقشة مقال هيكل.
**
بعد الانتهاء من مناقشة المطروح على جدول الأعمال، سأل السادات وهو يبدو خالي الذهن مما سوف يحدث: “هل هناك شيء فيما يستجد من أعمال؟، جاء سؤاله روتينيا على عادة ما يحدث في هذه الاجتماعات، ولكن الدكتور لبيب شقير بادر إلى إخراج صحيفة “الأهرام” من بين أوراقه، وفردها أمام الحضور وهو يقول: “الحقيقة عندي موضوع هام أريد أن أعرضه على حضراتكم”.
رجع السادات لكي يستقر على كرسيه من جديد، وقال: اتفضل يا دكتور لبيب، قرأ الدكتور لبيب شقير عنوان المقال، وكان صوته مليئا بالتهكم: “عبد الناصر ليس أسطورة“، وراح يستعرض فقرات المقال، ويتوقف عند فقرات بعينها، ويحلل كلماتها، ويلقي عليها ظلالًا، ويحمل معانيها ما تتحمله، وما لا تقصده، وانتهت مرافعته إلى إدانة هيكل وطلب معاقبته واتخاذ إجراء ضده، لأنه ينتقص من قيمة الزعيم الخالد، ومن الاتحاد الاشتراكي، وطلب محاكمته سياسيا.
وفتح السادات باب المناقشة، وبالطبع “هاجم كل أعضاء اللجنة ما احتواه المقال من دلالات فيما عدا الدكتور محمود فوزي الذي لزم الصمت”.
وكان السادات قد بيَّت أمرا لم يفصح عنه، وحين انتهى الهجوم على المقال وصاحبه، قال لأعضاء اللجنة: “الحقيقة أنا لم يستلفت انتباهي هذه التخريجات التي سمعتها منكم الآن، يجوز لأني قرأت المقال قراءة سريعة، وإن شاء الله أعود لقراءته من جديد، والاجتماع القادم نناقش الموضوع مرة أخرى”.
وخرج السادات من الاجتماع ليبادر على الفور إلى طلب هيكل على التليفون.
**