ظن البعض أن تصريحات الرئيس عبد الفتاح السيسي عن “استثناء فصيل واحد” من المشاركة في الحوار الوطني المرتقب، حسمت الأمر وأغلقت باب الحديث المتواتر عن اتصالات وقنوات مفتوحة مع أعضاء بجماعة الإخوان أو متحالفين معها تمهيدا لإشراكهم في الحوار أو عودتهم إلى الملعب السياسي مرة أخرى.
خلال لقائه مع عدد من الإعلاميين على هامش افتتاح محطة مترو عدلي منصور المركزية والقطار الكهربائي يوم الأحد الماضي قال السيسي إن الحوار الوطني يتضمن مشاركة كل المفكرين والمثقفين والنقابات والقوى السياسية باستثناء “واحد”، في إشارة إلى جماعة الإخوان.
وعن سبب استثناء الجماعة أوضح السيسي قائلا: “في 3 يوليو عام 2013 آخر حاجة عملتها اقترحت عليهم تصور يمكن أن يؤدي إلى تجاوز الأزمة وهو إجراء انتخابات رئاسية”، مشيرا إلى أنه طلب منهم أن يكون الشعب هو الفيصل في الخلاف الدائر، “لو الشعب اختاركم يبقى خلاص، ولو لم يختاركم تظلوا جزءا من العملية السياسية”.
رفضت الجماعة مقترح وزير الدفاع حينها، واختاروا “القتل” بحسب تعبيره، “وهذا يعني أن الأرضية المشتركة التي تجمعنا في الحوار والنقاش ليست موجودة، لأني أتكلم عن حوار وأنت تتكلم في قتل”.
السيسي استبعد مشاركة الإخوان كجماعة وتنظيم في الحوار الوطني أو حتى العودة إلى العمل السياسي، لكن حديثه لم يشمل بعض أعضاء الجماعة أو المتحالفين معها، شريطة أن يعترفوا بشرعية نظامه والدستور الحالي وألا يكون تورطوا في عنف أو حرضوا عليه، بحسب ما أشار بعض المنخرطين في ترتيبات الحوار الوطني، وهو أكده مصدر مطلع على ذات الترتيبات لكاتب هذا المقال.
المصدر لفت النظر إلى أن الفترة الماضية شهدت إجراء استطلاعات رأي وتقديرات موقف حول إشراك كوادر تنتمي إلى التيار الإسلامي بأحزابه وجماعاته في المشهد السياسي خلال المرحلة المقبلة، “ليس من المستبعد أن يكون بعضهم أعضاء بجماعة الإخوان لكن بشرط اعترافهم بشرعية الرئيس والدستور وعدم تورطهم في العنف”.
ويشير مصدر آخر مقرب من دوائر صناعة القرار إلى أن النقاش عن إعادة إدماج أعضاء من التيار الإسلامي في العملية السياسية مطروح على أجندة اهتمامات أجهزة السلطة المختلفة، وإن كان أحد الأجهزة الأمنية يقاوم الفكرة ويحذر من تكرار السيناريو الذي وصل بالأمور إلى ما جرى قبيل ثورة 25 يناير2011.
ويوضح المصدر: “الإدارة الأمريكية الحالية على قناعة بضرورة إشراك الإسلاميين المعتدلين بالعملية السياسية في الدول التي تتعامل معها كحليفة أو صديقة، وترى إدارة بايدن والديمقراطيون بشكل عام أن وجود هؤلاء المعتدلين يخفف من حدة الاحتقان في المجتمعات الإسلامية، فاستبعادهم من وجهة نظرها يغذي العنف ويعزز من فرص تصاعد الجماعات الأكثر تطرفا”.
لذا، والكلام لا يزال للمصدر، تسعى السلطة في مصر إلى إرسال إشارات إلى واشنطن بأن لديها نية لإدماج غير المتورطين في العنف أو المحرضين عليه في الحوار السياسي، كخطوة أولى على أن يتبعها خطوات أخرى في طريق الإصلاح السياسي الذي تعهد مسئولون مصريون بالمضي فيه خلال زياراتهم إلى الولايات المتحدة مطلع العام الجاري ونهاية العام الماضي.
وذكر المصدر بأن وزارة الخارجية الأمريكية قد وضعت ضمن تقريرها السنوي عن سجل حقوق الإنسان في مصر والذي صدر قبل شهور عدد من المطالب أبرزها إخلاء سبيل عدد من الناشطين ينتمي معظمهم إلى جماعة الإخوان، وهي “إشارة إلى أن الديمقراطيين مهتمين بملف الإخوان، ويمارسون ضغوطا على القاهرة لتخفيف القيود المفروضة على حركة الجماعة وكوادرها، فيما تحاول السلطة في مصر أن تحقق بعض الخطوات المطلوبة منها قبيل لقاء الرئيس السيسي بنظيره الأمريكي في جدة بعد أيام”.
تفسيرات المصدرين ذهبت إلى أن حديث الرئيس عن استثناء فصيل من المشاركة منصب في الأساس على الجماعة كتنظيم وليس بعض أعضائها أو المتحالفين معها، وهو ما يمنح التنظيم فرصة للمناورة للتسلل مجددا إلى المجتمع كما أشار كاتب هذه السطور في مقاله السابق “الحوار الوطني.. تكتيكات السلطة والجماعة”.
في 11 ديسمبر/كانون الأول 2012، وفي أعقاب الإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس الراحل محمد مرسي وأثار به أزمة عاصفة، طرح الفريق أول عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع حينها مبادرة للم الشمل وجمع الصف وتجاوز الأزمة السياسية التي عمت البلاد والتي وصلت إلى حد الاشتباكات العنيفة بين المتظاهرين الرافضين للإعلان وخصومهم الداعمين للرئيس وجماعته.
وبحسب الكاتب الصحفي الراحل ياسر رزق، عرض السيسي على الرئاسة اقتراحا بأن تدعو القوات المسلحة ممثلي فئات الشعب المصري وقواه السياسية إلى لقاء يحضره رئيس الجمهورية لـ”ترطيب الأجواء والخروج من الأزمة”، واستحسن الرئيس الفكرة وطلب من وزير الدفاع الشروع في تنفيذها.
في مساء ذات اليوم، أعلن السيسي عن فكرته خلال احتفال جمع قادة القوات المسلحة والشرطة، و”قبيل سويعات من انعقاد اللقاء صدرت تصريحات عن رئاسة الجمهورية تتنصل من اللقاء وتعلن إلغائه، في وقت كان عدد من المدعوين قد وصل إلى مقر الاجتماع بالفعل”، يتابع رزق.
ويضيف الكاتب الراحل الذي كان في هذه الفترة قريبا للغاية من دائرة صنع القرار ورئيسا لتحرير “المصري اليوم” أنه علم فيما بعد أن مرسي تلقى اتصالات من مرشد الإخوان محمد بديع ونائبه خيرت الشاطر يخوفانه فيها من فكرة الحوار ويطالبانه فيها بإلغاء اللقاء، “أبلغ الرئيس وزير الدفاع بإلغاء الاجتماع واستجاب السيسي حفاظا على مكانة الرئاسة ورغبة منه في عدم إضفاء مزيد من التعقيدات على الأزمة السياسية القائمة”.
وبحسب ما أورد في كتابه “سنوات الخماسين.. بين يناير الغضب ويونيو الخلاص”، شدد رزق على أن مبادرة السيسي للحوار بين الرئيس مرسي ومعارضيه لم تكن تستحقها جماعة الإخوان ولا رئيسها.
بحكم التجربة يعلم السيسي والمقربون منه أن كوادر الجماعة الذين يتعبدون إلى الله بالحفاظ على التنظيم لا يؤمنون بالحوار مع الآخر ولا يستخدمون مفردات وأدوات العمل السياسي من حوار واختلاف وتعددية وتداول ومشاركة وانتخابات وأحزاب وبرلمان إلى آخره، إلا في مراحل المظلومية والاستضعاف.
في هذه المراحل تصدر الجماعة وجوه قادرة على الإقناع واحتواء المخالفين، ويتم تدوير أسمائهم وتصريحاتهم في الفعاليات السياسية والإعلامية باعتبارهم ينتمون إلى الجناح الإصلاحي المؤمن بالعمل العام، وعندما تصل الجماعة إلى مرادها ويتحقق لها حلم “التمكين من السلطة”، يُسحب هذا الفريق إلى الخلف، ليتقدم فريق التنظيم ويأخذ زمام المبادرة ويبدأ في تنفيذ مشروع الجماعة الحقيقي “تأسيس دولة الخلافة”.
بعض أعضاء الفريق الأول يتماهى مع الوضع الجديد ويلتزم الصمت مهما كانت خطايا الفريق الأخر وبعضهم يهجر التنظيم إلى فضاءات أخرى، لكنه يظل مسكونا بالأفكار التي وضعها حسن البنا قبل 8 عقود.
استخدام الإخوان كجماعة أو أفراد لتحقيق أغراض سياسية أو لتخفيف ضغوط خارجية، هي مغامرة غير محسوبة أقرب إلى اللعب بنار قد تقضي على المكتسب الوحيد الممسوك لثورة 30 يونيو وهو “طي صحفة الجماعة وغلق باب خلط العمل السياسي بالدعوي بالاجتماعي بالاقتصادي.. إلخ، مجددا”.
لعب الرئيس الراحل أنور السادات بنفس النار عندما أراد أن يجابه “المتربصين بنظامه” من الناصريين واليساريين، ففتح الباب أمام ممارسة الإخوان وبعض كوادر التيار الديني للنشاط السياسي في الجامعات والنقابات تماشيا مع الرغبة الأمريكية في حصار الزحف اليساري المدعوم من السوفييت.
نفذ السادات نصيحة صديقه رجل المخابرات السعودية كمال أدهم وثيق الصلة بالأمريكان وأجهزتهم الاستخباراتية، والذي صارحه بضرورة إحياء النزعة الإسلامية لوقف المد الشيوعي بناء على طلب واشنطن، وانتهى الأمر بتوحش تلك الجماعات حتى تمكن بعض عناصرها من اغتيال الرئيس في حادث المنصة الشهير.
لم يتعلم مبارك الدرس، وسمح بهامش حركة للجماعة التي كان يرى بعض أركان نظامه أنها أكثر اعتدلا من التنظيمات الأصولية التي حملت السلاح وقتلت سلفه، وتحت ضغوط مماثلة للتي تعرض لها السادات وسع مبارك الهامش، وسمح لأجهزة نظامه بعقد صفقات مع الجماعة، وهو ما ساعدها على الانتشار والتوغل في مؤسسات الدولة، وعندما حانت اللحظة بعد سقوط نظامه في يناير 2011 وفي ظل غياب كامل لباقي التيارات والأحزاب المدنية التي تم حصارها وتفخيخها ملأ الإخوان الفراغ واختطفوا الثورة وسعوا إلى اختطاف الدولة بالكامل، لكنهم فشلوا وسقطوا سريعا.
المشاركة السياسية وتكوين الأحزاب والمنافسة على السلطة حق كفله الدستور لكل تنظيم أو تيار سياسي مؤمن بقواعد الدولة المدنية الديمقراطية، لكن خلط الدين بالسياسة وإقحام الجماعات التي لا تعترف بالديمقراطية ولا تستخدمها إلا للوصول للسلطة وتتبني مشروع دولة الخلافة، ينسف فكرة الديمقراطية والمدنية من الأساس ويجهض أي محاولة للإصلاح أو التغيير.