شجعت حالة الانقسام والتصدع التي ضربت صفوف معسكر «الشرعية اليمني»، في الأسابيع الأخيرة جماعة الحوثي على رفع سقف مطالبها، وهو ما أفشل الجهود الأممية لتمديد الهدنة الإنسانية التي بدأت في إبريل الماضي وكان من المفترض أن يتم تمديدها مطلع أكتوبر الجاري، إلا أن شروط جماعة الحوثي التي وصفت بـ«التعجيزية» حالت دون ذلك.
فشل الطرفين المتصارعين في الاتفاق على تمديد الهدنة ينذر بإشعال الحرب مجددا بعد أطول فترة هدوء للقتال منذ بداية الحرب في عام 2015، وهو ما يفاقم من معاناة ملايين اليمنيين الذين شردتهم وأفقرتهم الحرب الدائرة.
وحسب تقرير منظمة «هيومن رايتس ووتش» لهذا العام، فإن حرب اليمن أدت إلى مقتل نحو 250 ألف شخص، ونزوح أربعة ملايين داخل البلاد، ومعاناة نحو نصف سكان البلاد من انعدام الأمن الغذائي، ومع ذلك، فإنه بالنسبة لبعض القوى الإقليمية التي تتخذ من اليمن مسرحا لصراعتها غير المباشرة، يبدو أن الكارثة الإنسانية التي حلت على تلك البلاد عاملا هامشيا لا ينظر إليه من تلك القوى بعين الاعتبار.
وعلى الرغم من أن الاشتباكات بين القوات الجنوبية المدعومة من الإمارات وقوات من الجيش اليمني المحسوبة على حزب الإصلاح التابع لجماعة الإخوان الملسمين والتي اندلعت الشهر الماضي في محافظتي شبوة وأبين ليس لها صلة مباشرة بالهدنة، إلا أنها لعبت دورا مهما في إضعاف مجلس القيادة الرئاسي الذي تم تشكيله بتوافق سعودي إمارتي بعد إقصاء الرئيس اليمني السابق عبد ربه منصور هادي عن منصبه في مطلع إبريل الماضي.
أثرت تلك الاشتباكات على وحدة وتماسك المعسكر المناهض للحوثيين، وأدت إلى اختلال توازن القوى داخل المشهد السياسي والعسكري في اليمن، «شجع ذلك الحوثيين على اعتبار أنفسهم أقوى طرف في اليمن، وكشف عن فشل أي محاولة لتوحيد خصومهم في جبهة واحدة»، يقول أحمد ناجي الباحث غير المقيم بمركز كارنيجي للشرق الأوسط، في تقرير نشره المعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية «ISPI».
ويرى ناجي أن الأجندات المتباينة للإمارات والسعودية -التي انعكست في علاقات حلفائها المحليين على الأرض- تمثل باستمرار مسألة مهمة في السنوات السبع الماضية من الحرب، مما خلق طبقة جديدة من الصراع داخل الجبهة المناهضة للحوثيين، «لا يزال هذا الانقسام يمثل المعضلة المركزية للتحالف الذي تقوده السعودية، والتي ستستمر على الأرجح طالما لا توجد رؤية واضحة بين شركاء التحالف».
ورغم انقضاء فترة الهدنة قبل أكثر من أسبوع إلا أن الاشتباكات بين الحوثيين وقوات الجيش الوطني لاتزال محدودة على معظم الجبهات، باستثناء جبهتي الضالع (جنوب) وتعز (جنوب غرب) والتي اندلعت بهما الاشتباكات فور الإعلان عن رفض جماعة الحوثي للهدنة، وهو ما فسره سياسي يمني بأن الطرفين المتصارعين لا يسعيان إلى التصعيد والدخول في معركة مفتوحة تفسد محاولات المبعوث الأممي هانز جروندبرج والذي يسعى بدوره إلى الوصول لصيغة توافقية لتمديد الهدنة الإنسانية لمدة 6 شهور بشروط يقبلها الطرفين.
ويرى دبلوماسي يمني مقيم في القاهرة أن التحذيرات الأمريكية للحوثيين دفعتهم إلى التريث قبل تنفيذ تهديداتهم بشن هجمات على مواقع للجيش الوطني اليمني أو التحالف العربي الذي تقوده المملكة العربية السعودية.
وحسب مصادر سياسية فإن الموقف الدولي الحاسم في مواجهة مطالب الحوثيين المتعلقة بصرف رواتب العسكريين إلى جانب موظفي الخدمة المدنية ربما يدفع باتجاه فتح قنوات اتصال جديدة، «قد تقنع الأطراف الدولية الحوثيين وطهران باعتبارها المحرك لتلك الجماعة بأن مطالبهم التعجيزية لا يمكن القبول بها وأن عليهم إعادة النظر في مشروع الهدنة الذي طرحه المبعوث الأممي».
دخول الولايات المتحدة على خط الأزمة، فتح باب التكهنات بأن هناك فرصة جدية لتمديد الهدنة والدخول في مفاوضات حل سياسي، فالدعوة التي أطلقها المبعوث الأمريكي لليمن تيم ليندر كينج لجماعة الحوثي إلى إبداء مزيد من المرونة بشأن اتفاق هدنة موسع اقترحته الأمم المتحدة جرة ترجمتها في أوساط الحوثيين وداعميهم بأنها أقرب إلى تهديد مبطن.
ليندر كينج أبدى ثقته في إمكانية الوصول إلى اتفاق لتمديد الهدنة «إذا ابتعد الحوثيون عن المطالب التي فرضوها فعلياً في اللحظة الأخيرة بعدما تراجعوا عن الالتزامات التي قطعوها في وقت سابق من العملية»، متسألا «هل يمكن أن يكون ذلك مرتبطاً بإيران؟.. الجواب هو أننا لا نعرف».
وقال في مؤتمر صحفي عقده الأسبوع الماضي إن الحوثيين الذين يسيطرون على شمال اليمن «طرحوا مطالب مبالغاً فيها ومستحيلة» بشأن آلية مقترحة لدفع رواتب القطاع العام، في إشارة إلى مطلب الحوثيين بضرورة دفع الحكومة الشرعية رواتب العسكريين المنضوين تحت لواء جماعة الحوثي.
وفي تحذير هو الأول من نوعه منذ وصول الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى السلطة مطلع العام الماضي، حذرت واشنطن على لسان مبعوثها في اليمن الحوثيين من العودة إلى الخيار العسكري الذي لن يؤدي إلا إلى مزيد من التدمير لليمن والشعب اليمني «أمريكا لن تتساهل مع هذا الوضع».
وتخشى واشنطن من شن الحوثيين هجمات على شركات الشحن التجاري والنفط العاملة سواء في اليمن أو السعودية، وهو ما دعا ليندر كينج إلى التلويح بتصعيد قد يؤثر على سير المعارك في اليمن «من مصلحة الأمن القومي الأمريكي مساعدة الشركاء الخليجيين في الدفاع عن أنفسهم من أي اعتداء خارجي وسنفعل ذلك في حال أتت الاعتداءات من اليمن»، مشيرا إلى صفقات الأسلحة الأخيرة التي عقدت مع السعودية والإمارات «ما يسمح بنقل صواريخ باتريوت الإضافية في المستقبل إلى المملكة العربية السعودية والدفاعات الجوية إلى الإمارات العربية المتحدة».
ولا يمكن فصل ما يدور في إيران من احتجاجات عن رفض ذراعها في اليمن لتمديد الهدنة الإنسانية، خاصة أن طهران تتهم الولايات المتحدة وحلفائها بدعم المظاهرات التي اندلعت بعد مقتل الشابة مهسا أميني (22 عاما) عقب احتجازها لدى شرطة الأخلاق في طهران بدعوى ارتدائها لباسا غير محتشم، وأسفرت تلك الاحتجاجات عن مقتل 41 شخصا على الأقل واعتقال المئات.
وتسخدم طهران الصراع اليمني كورقة ضمن أوراق اللعب مع خصومها الدوليين والإقليميين، وفقا لما ذهب إليه دبلوماسي يمني، «لدى إيران والحوثيين مصلحة مشتركة من استمرار الحرب في تلك المرحلة، الأولى تسعى إلى استخدام الصراع كورقة في مفاوضاتها النووية مع الغرب وتحاول إجبار الرياض على تطبيع العلاقات الدبلوماسية معها وفق شروطها، أما الحوثيين فيحاولون فرض دولتهم في شمال اليمن على المجتمع الدولي وانتزاع الاعتراف بهم كسلطة أمر واقع من دول الأقليم».
ويرى الدبلوماسي اليمني أن بعض دول المنطقة تُخدم على استراتيجية طهران ووكلائها في اليمن دون أن تدري أو تحسب خطواتها، في إشارة إلى الدور الإماراتي في تعزيز فكرة انفصال الجنوب وعودة الدولة الجنوبية بحدودها التي كانت عليها قبل تسعينيات القرن الماضي، وذلك بدعمها الانفصاليين الجنوبيين وإثارتها النعرات القبلية في تلك المرحلة الحرجة.
ووفقا لعبد الغني الإرياني، وهو باحث بمركز صنعاء للدراسات الإستراتيجية فإن «الهدف الاستراتيجي للحوثيين هو التوسط في صفقة مع السعودية تسمح لهم بالسيطرة الكاملة، من دون الأطراف اليمنية الأخرى، على مناطق شمال اليمن أو الأجزاء الواقعة تحت سيطرتهم».
وأضاف الإرياني في تقرير نشره المعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية «ISPI»: سعيا لتحقيق هذا الهدف، فإن الحوثيين سيفعلون ما هو ضروري لدفع السعوديين للعودة إلى المفاوضات المباشرة، ومن المحتمل أن يستمروا في إصدار تهديدات تستهدف السياحة السعودية والمنشآت النفطية».
وفي حال فشل الوصول إلى هذا الهدف فمن المحتمل أن يشن الحوثيون هجمات بالصارويخ والطائرات المسيرة على مواقع سعودية في النصف الأول من شهر نوفمبر المقبل، وذلك بالتزامن مع نشاط القطاع السياحي في المملكة بسبب اقتراب فعاليات كأس العالم لكرة القدم، «دشنت السعودية حملة لجذب السياح الدوليين الذين سيسافرون إلى الدوحة القريبة لحضور البطولة التي تبدأ في 20 نوفمبر، هذا هو الوقت الذي ستكون فيه المملكة العربية السعودية في أضعف حالاتها».
عدم تمديد الهدنة الإنسانية في اليمن كما أن له عواقب سياسية واقتصادية على دول الجوار الداعمة للحكومة الشرعية اليمنية فسيكون له بالغ الأثر على الشعب اليمني الذي حصل على بعض المكاسب خلال الأشهر الستة الماضية خُففت فيها القيود على حركة البضائع والمدنيين إثر وصول الأطراف المتصارعة إلى اتفاق بوقف إطلاق النار.
ومن المرجح أن تؤدي العودة إلى الصراع إلى إلغاء هذه المكاسب الصغيرة ولكن مهمة في ذات الوقت، وفي حين وفرت الهدنة فترة للراحة والتقاط الأنفاس، لا يزال اليمن يواجه صراعات وأزمات اقتصادية مترابطة، تفاقمت بشكل كبير بسبب تغير المناخ وارتدادات الحرب الروسية في أوكرانيا.
ويعتقد آزنود كومين، المدير الإقليمي لمنظمة «Mercy Corps» الإغاثية بمنطقة الشرق الأوسط أن العودة إلى الصراع ستؤدي إلى تجدد الضربات الجوية، وسقوط ضحايا مدنيين، ونزوح داخلي، والمزيد من القيود على توزيع المساعدات الإنسانية التي تشتد الحاجة إليها.
كذلك بدون الهدنة، من المرجح أن تتوقف واردات الوقود إلى شمال اليمن، مما يساهم في ارتفاع أسعار المواد الغذائية والسلع الأساسية الأخرى المهمة لوقف أزمة الأمن الغذائي في اليمن، وبالتالي فإن أطراف الهدنة «مدعوون إلى العودة إلى المفاوضات على وجه السرعة».